لم يكن ما كتب، في استهلال زمن الرواية، قبل رواية "زينب" هيكل، هامشاً يقبل الإبعاد إلى خانتي "رواية التعليم" أو "رواية التسلية والترفيه"، بالقياس إلى "الرواية الفنية" التي ابتدأت برواية "زينب" كما يذهب عبدالمحسن طه بدر، متابعاً يحيى حقي بمعنى أو غيره، وإنما كان ما كتب قبل "زينب" نتاجاً روائياً متعدد الأشكال، لا يقاس بمقياس خارجي، وإنما بمقياس داخلي، يرتبط بتولد الرواية العربية في علاقتها بأحوال وشروط تولدها. أعني بالطبقة التي عبّر هذا الفن عنها في تنوعها الثقافي وتدرجها الاجتماعي، وبالوظيفة أو الوظائف التي قامت الرواية بأدائها في سياقاتها الاجتماعية والفكرية والثقافية، وإزاء التحديات التي كانت الكتابة الروائية استجابة إيجابية في مواجهتها. وأتصور أن تسمية "رواية التعليم" أو "رواية التسلية والترفيه" إنما هي تعبير عن نظرة تراتبية، ذات أصول فكرية ترجع إلى نظرية التعبير في ملامحها الرومنطيقية. وهي نظرة تجعل ما يسمى "الرواية الفنية" الرواية بحق، نافية كل ما يتصل بالتعليم أو التسلية خارج منطقة الفن، وذلك في نوع من النظر الجامد الذي يجعل من مقاييس "الرواية" في مرحلة بعينها، ومن منظور جمالي دون غيره، إطاراً مرجعياً عاماً، يغدو القاعدة التي يعد كل خروج عنها تباعداً عن دائرة الفن الحق. وهي نظرة تنتسب إلى "نظرية التعبير" التي يمكن أن نجد أوضح صياغة حديثة لها في كتاب فيلسوف الفن روبين كولنغوود 1889-1943 "مبادئ الفن" الذي أصدره سنة 1937، مميزاً بين الفن بمعناه الحق وما ليس فناً، ومحدداً الثاني بأنه صنعة ومحاكاة وسحراً وترفيهاً، في مقابل الفن الحق الذي هو تعبير وخيال ولغة. وكان كتاب كولنغوود صياغة نظرية لمفاهيم التعبير على أساس مؤداه أن "التعبير" ولوازمه أهم ما يمايز بين الفن الصحيح وغيره من أنواع الفن الزائف. فالفن الحقيقي هو التعبير الخيالي بلغة جديدة عن المشاعر والانفعالات الفردية الفريدة، بينما الفن الزائف هو صنعة تتباعد عن المشاعر والانفعالات في صدقها الفردي والجمعي. ولا هدف لهذه الصنعة سوى معاني التعليم المتضمنة في دلالات التمثيل إضافة إلى معاني الترفيه. والخطوة الأولى لتمييز الفن الحق عن الفن الزائف هي الكشف عن الثاني في تعدده الذي لا يخلو من تحقيق وظيفة "التسلية" أو "الترفيه" ووظيفة "التعليم" أو التثقيف المباشر. وقد تقبل الرواد الذين لم يكونوا بعيدين عن الأثر الرومنطيقي هذه النظرة القائمة على التراتب القمعي في القيمة. ولذلك تحدث محمود تيمور 1894-1973 في كتابه "دراسات في القصة والمسرح" عن "القصة الفنية" كما تحدث عن "القصص الفني" مميزاً بينه وبين "القصص غير الفني" على أساس المعيار التراتبي نفسه، مؤكداً ملامح ثابتة للقصة الفنية تنأى بها عن كل ما لا يرتقي إلى مستواها. وكان واضحاً في الكتاب أن تيمور ينطلق على نحو مباشر من تحيزاته الأدبية، فاستبعد على نحو آلي ما لم يره مستجيباً إلى هذه التحيزات، وذلك بما يضع المستبعَد في دائرة اللافن أو هامشه الأدنى الذي يقترن بالتعليم أو التسلية والترفية. أعني الاقتران الذي كان أساسياً في النزوع الكلاسيكي الذي ثارت عليه الرومنطيقية في عدائها لمقولتي الإمتاع والتعليم بمعناهما الكلاسيكي. وهما المقولتان اللتان انحاز إليهما الفن الروائي - في استهلال زمنه النوعي - في عصر النهضة العربية. واستعان عبدالحميد يونس 1910 - 1988 بتنظير كولنغوود الذي أقام عليه تمييزه المعياري بين "الفن" و"اللافن"، ضمن تأثره القوي بمقولات نظرية التعبير التي انطلق منها، وردَّد مقولاتها في كتابه "الأسس الفنية للنقد الأدبي" الصادر عن دار المعرفة في القاهرة سنة 1958. والكتاب كله قائم على الثنائية الضدية نفسها. أعني الثنائية التي تمايز بين الفن الحق والشوائب التي تخالطه وتلتبس به، فتفسد على الناس مناهجهم وأحكامهم. ولذلك يخرج عبدالحميد يونس مقصد المنفعة التي تتضمن التعليم من الفن، وكذلك الصنعة، وإلى جانبها التسلية والترفيه التي هي فن زائف في التحليل النهائي. ولا يجاوز عبدالحميد يونس النتائج التي توصل إليها كولنغوود، والتي كانت البدء والمعاد في "الأسس الفنية للنقد الأدبي". وقد نبّه إلى هذه الاستفادة الكبيرة عبدالعزيز الأهواني في أحد هوامش كتابه "ابن سناء الملك ومشكلة العقم والابتكار في الشعر" الصادر عن مكتبة الأنجلو في القاهرة سنة 1962. وكان ذلك قبل أن يقوم أحمد حمدي محمود بترجمة كتاب كولنغوود سنة 1966، وراجع ترجمته علي أدهم، ونشرته الدار المصرية للتأليف والترجمة في القاهرة. وكان طبيعياً ألاّ يخرج عبدالمحسن بدر عن هذا الأفق، في محاولته الرائدة لتأريخ الرواية، وهي المحاولة التي تجلت في كتابه "تطور الرواية العربية الحديثة في مصر: 1870- 1938" الذي صدر عن دار المعارف في القاهرة سنة 1963. فالكتاب يمضي في الاتجاه نفسه الذي تأثر به عبدالمحسن بدر، أو تلقاه عن أساتذته المباشرين وغير المباشرين، فانطلق من المنظور التراتبي نفسه، مميزاً - ضمناً - بين "الفن الحق" و"الفن الزائف". ولزم عن ذلك التمييز بين الرواية الحقيقية الجديرة بصفة "الفنية" التي استخدمها محمود تيمور، في مقابل صفات "التعليم" و"التسلية والترفيه" التي تحولت إلى نوعين أدنى في القيمة. وهما نوعان كان تصورهما النظري بمثابة إعادة صياغة لأفكار كولنغوود التي أشاعها عبدالحميد يونس في قسم اللغة العربية، آداب القاهرة، قبل ترجمة الكتاب الأصلي إلى اللغة العربية سنة 1966 . ولا أدري هل قرأ يحيى حقي - قبل كتابه "فجر الرواية المصرية" - كتاب كولنغوود أو لم يقرأه، لكن المؤكد أن عبدالمحسن بدر فعل ذلك، وكان - مثل يحيى حقي - متأثراً بعاملين في تحديد ابتداء زمن الرواية المصرية برواية "زينب" هيكل. أما العامل الأول فهو تسليمه الذي لا يزال شائعاً بأن فن "الرواية" هو فن وافد، عرفه العرب مع نهضتهم الحديثة التي بدأت باتصالهم بالحضارة الغربية التي دهمتهم عسكرياً، وصدمتهم ثقافياً، بما نقلهم من ظلمات التخلف الكامل إلى مشارف العصر الحديث. ومثاله الأوضح في ذلك مصر التي لم تفق من سبات العصور الوسطى المظلمة إلا على مدافع نابليون بونابرت التي كانت بداية الحداثة والتحديث، أو بداية النهضة التي أدّت - في ما أدت ثقافياً - إلى استعارة أنواع أدبية جديدة، تقبلتها التربة العطشى المتهيِّئة لاستقبال الوافد والمتحمسة له. والعامل الثاني هو إيمان يحيى حقي بنموذج جمالي بعينه للرواية، هو نموذج رواية السيرة الذاتية التي كتب من منظورها روايته "قنديل أم هاشم" التي كان موضوعها الصدام بين تقدم الغرب وتخلف الشرق. ونتيجة هذين العاملين، رأى يحيى حقي في رواية "زينب" البداية الحقيقية أو الفنية للرواية العربية وفجرها الواعد الذي سرعان ما أشرقت أنواره سنة 1913. وساعده على ذلك ما يقوله هيكل من أنه كتب روايته في فرنسا، متأثراً بإبداع أوروبا - وبخاصة فرنسا - في فن الرواية، ومتمنياً أن يوجد في أدبه القومي ما يوازي الروايات التي قرأها بالفرنسية أو الإنكليزية، فحبس نفسه في غرفته، وأغلق نوافذها، كي يعزل نفسه عن العالم الخارجي، ويستعيد بيئته المحلية، ومناخ وطنه الذي كان يشعر بالحنين إليه، وحاول أن ينفث هذا الحنين في رواية "زينب" المكتوبة في باريس، استعادة لحضور الفردوس المفقود - الوطن، ورغبة في أن يكون لهذا الوطن أدب قومي يضارع الآداب العالمية التي أراد هيكل أن يحاكيها شكلاً على الأقل. وقد دفعت هذه المحاكاة هيكل - واعياً أو غير واع - إلى استعارة عوائد لا علاقة لها بالقرية، مثل فكرة الاعتراف المسيحية، أو تقديم تصورات متعالية عن المرأة، وذلك على نحو جعل من "زينب" مجلى آخر من مجالي بطلة "غادة الكاميليا" الشهيرة. هكذا، نجح هيكل - في رأي يحيى حقي المشبع بأفكار ثورة 1919 الوطنية وقيمها الرومنطيقية - في أن يؤسس "فجر الرواية" وأن ينطلق بها إلى الأمام، مؤكداً مبدأ الاستعارة من الغرب، وردّ النهضة إلى هذا الغرب وحده. وتهاوت هاتان المقولتان بعد ازدهار المدرسة المعاصرة في التاريخ ما بعد الاستعماري بخطابه المعروف، وتتابع الدراسات التي بدأت - في سياق تاريخ العرب الحديث - بعمل بيتر جران الرائد "الجذور الإسلامية للرأسمالية: مصر 1760-1840" الذي أحدث تأثيراً كبيراً حتى من قبل ترجمته. لقد أسهم هذا الكتاب الرائد في تغيير المنظور التاريخي للنهضة العربية بعامة، والمصرية بخاصة، وذلك على نحو لم يعد معه الغزو الاستعماري والتأثير الثقافي المقترن به العامل الحاسم في النهضة العربية التي ترجع جذورها إلى القرن الثامن عشر، حيث التقدم الذاتي الذي قطعه الغزو الاستعماري، وأعاد تشكيله بحسب شروطه وبقواعده المفروضة. وهي أطروحة واصلها على نحو إيجابي تيموثي ميتشل في كتابه "استعمار مصر" الذي صدر بالإنكليزية عام 1987 وصدرت ترجمته العربية بقلم بشير السباعي سنة 1990. وكان كتاب ميتشل تأكيداً لمنطلق بيتر جران الذي دفعنا إلى إعادة النظر في محركات النهضة، خصوصاً بعد التأثر بالنتائج التي صاحبت ازدهار خطاب ما بعد الاستعمار، الأمر الذي دفعنا إلى إعادة النظر في هذه المحركات، وتسليط الضوء على العوامل الوافدة، وذلك في نوع من التوازن الذي لا يستبدل هيراركية قمعية بأخرى مساوية لها في القوة ومخالفة في الاتجاه. وكان يوازي التأثر بخطاب ما بعد الاستعمار التأثر بالوفرة المعرفية المذهلة في تحليل الخطاب الروائي، وما ترتب على هذه الوفرة من انفتاح حدود الرواية التي كانت منغلقة قيمياً على نموذج بعينه من قبل، هو النموذج الذي تعلق به جيل يحيى حقي والجيل الذي تأثر به. واقترن هذا الانفتاح بمرونة تصورية جعلت المعيار الوحيد الذي يقاس به شكل النوع الروائي هو اللامعيار، أو - بعبارة أدق - المقياس الذي لا يحصر الرواية في شكل بعينه أو مواصفات دون غيرها، وذلك كله من منظور يجاوز مبادئ نظرية التعبير من ناحية، ولا يعرف التراتب القيمي الذي تقف على رأس سلّمه "الرواية الفنية" وتهبط أشباه الرواية على درجات السلّم النازل، فتغدو "رواية تسلية وترفيه" أو "رواية تعليم" من ناحية مقابلة. ولا أحسب أننا - بعد هذا التأصيل - في حاجة إلى اتِّباع نظرية التعبير وتطبيقها على ما يجافيها بداهة، خصوصاً أن الرواية العربية - في استهلال زمنها - كانت أقرب إلى النموذج الكلاسيكي في اعتمادها على "العقل" الذي كان العنصر التكويني الحاسم، سواء في صياغة مكوناتها، أو في صياغة رؤيتها للعالم. أعني هذه الرؤية التي جعلت من الوعي المديني الذي صدرت عنه الرواية العربية - في ابتداء زمنها - مقترناً بنزعة عقلانية، جمعت ما بين التيارات العقلية في التراث الإسلامي، والميراث العقلاني لفلسفة الأنوار الأوروبية التي كانت عنصراً فاعلاً في تكوين مثقفي النهضة ومبدعيها، خصوصاً من أمثال رفاعة الطهطاوي وفرانسيس المرّاش وغيرهما من الذين تلقوا تعليمهم في فرنسا وتأثروا بفلاسفتها العقلانيين، كما تأثروا بالصياغات العقلية لنظرية المحاكاة التي قرنت وظيفة الفنون بالتعليم والإمتاع. يضاف إلى ذلك أن نظرة التراتب القمعي التي تمايز بين ما لا تراه فناً وما تراه فناً حقيقياً لا تصمد كثيراً للتحليل الشاك، فنحن إما في دائرة الفن أو خارجها، وما دمنا في دائرة الفن فعلينا البحث عن مستوياته وتحليلاته بلغة مشتقة من طبائع وجوده الداخلي، وليست نتاج فرض خارجي لا يخلو من التعالي. ويؤكد ضرورة النظرة الداخلية أن الرواية - من حيث هي النوع الذي يرتبط بتصوير المتغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية أكثر من غيره، سواء في إفرادها أو جمعها - هي النوع الأكثر إغواء بالحرية والفرار من القيود المفروضة سلفاً. وهي الخاصية النوعية التي تجعلها تفتح الأبواب لنقيض كل المواصفات التي يراد تثبيتها أو فرضها من حركة أدبية، أو نظرية بعينها، على الواقع الحي في حركته التي تتأبَّى على القيود الصارمة، وترفض أن تسجنها معايير لازمة أو ملزمة. ولذلك فالرواية - في تصور نقادها المحدثين - على الأقل - لا حدود نظرياً لها، وتتسم بمرونة شكلية لا نهاية لها أو حدّ. ويصفها هؤلاء النقاد بأنها نوع لا يخضع إلى قواعد ومواصفات وقوانين ثابتة، وأن التغير والتحول والمرونة الفائقة هي أهم صفاتها، خصوصاً من حيث هي شكل مفتوح يظل، دائماً، في حال صنع، فهي مغامرة كتابة أكثر منها كتابة مغامرات كما وصفها - بحق - الناقد الفرنسي جان ريكاردو. ويلزم عن ذلك أن علينا - في دراسة زمن الرواية - ألاّ نميز - في القيمة - بين روايات بداية هي أقرب إلى الأنواع الدنيا في سلّم التطور، وروايات نضج صعدت أكثر من سوابقها في سلّم التطور، ومن ثم أعلى في القيمة، كما لو كنا إزاء صياغة أخرى "تطورية" للنظرة التعبيرية التي تمايز بين الفن الحقيقي والفن الزائف، فالأعلى والأدنى واحد في المنظورين، ولا معنى له عند الاختبار التطبيقي. والمنظور الأكثر موضوعية - في هذا السياق - هو المنظور الذي يبدأ من داخل الوعي بمعطياته النوعية في تميزها الذي لا ينفصل عن أدائها لوظيفة في سياق تولدها، وتحقيقها لقيمة جمالية هي الوجه الآخر من القيمة الاجتماعية الصاعدة في مجتمعها. وعلى هذا الأساس وحده تتحدد نوعية أو درجة القيمة التي نسعى إلى تحديدها جمالياً أو اجتماعياً.