منذ أن اهتممت بأصول الاستنارة العربية الحديثة، ما بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وشغفي لا يتوقف بمتابعة ما حدث في هذين القرنين، وما كتب فيهما وحولهما، وما أنتجاه من إبداع لم يسلط الضوء على كثير منه إلى اليوم. وقد أعانني على إعادة النظر في تاريخ هذه الفترة ما كتبه صديقي بيتر جران في كتابه الذي أصبح شهيراً بعد ذلك. أعني كتاب "الجذور الإسلامية للرأسمالية في مصر: 1760-1840" الذي يكشف عن القيم الإيجابية التي أنتجتها تطورات القرن الثامن عشر، حيث أخذت تتوافر الشروط التاريخية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لمولد الكلاسيكية الجديدة التي كانت استعادة للميراث العقلاني وإبداعاته الملازمة، وتوظيفاً جديداً لهذا الميراث، بعد تطويعه أو إعادة إنتاجه، فضلاً عن الإضافة إليه، في مواجهة الشروط والتحديات التي سبقت الحقبة الاستعمارية. وأكد بيتر جران أن ابتداء النهضة العربية بمجيء الغزو الاستعماري، أو الحملة الفرنسية على العالم العربي، إنما هو اختزال لجهود الاستنارة العربية التي ابتدأت منذ القرن الثامن عشر. وأسهمت في تغيير الأوضاع بما دفع المنطقة العربية - وبخاصة مصر - إلى طريق التقدم الذاتي الذي قطع مسيرته الغزو الفرنسي لمصر سنة 1798، وفرض مساراً مغايراً اقترن بالتبعية والاتِّباع بأكثر من معنى. وقد واصل تيموثي ميتشل النهج الذي أراده بيتر جران، وصاغ على أساس من مقولاته المنهجية كتابه المثير "استعمار مصر" صدر بالإنكليزية عام 1987 وصدرت ترجمته بالعربية عام 1990 الذي كشف عن الآليات التي تم بها صوغ المسار المغاير الذي اقترن بالتبعية والاتِّباع. وفي مواجهة النظرة التي ترد النهضة العربية إلى الغرب وحده، مغفلة المقومات الذاتية والمتغيرات المحلية، وفي مواجهة تيارات الإظلام التي هبت علينا في الحقبة الساداتية، وظلت متواصلة بإرهابها وفكرها القمعي، كان لا بد من العودة إلى تاريخنا، أولاً لإعادة اكتشاف الأصول الفكرية التي قامت عليها النهضة العربية، وتحليل هذه الأصول بما يعيدها إلى الانتباه المعاصر، ويسهم في تنشيط الذاكرة القومية التي كادت تنسيها تيارات الإظلام ميراثها العقلاني الخلاّق وتراثها الإبداعي العظيم. ولذلك كان تركيزي على التيارات العقلانية لعصر النهضة، تلك التيارات التي تجاوب فيها ميراث العقلانية عند المعتزلة وفلاسفة الإسلام وميراث العقلانية المتجاوبة لعصر الأنوار الذي تفاعلت فلسفاته الوافدة مع مبادئ العقل الموروثة في فكر النهضة، وفي رؤيتها العقلانية إلى العالم. أقصد إلى الرؤية التي اقترنت بمبادئ التقدم: الحرية والمساواة والعدل الاجتماعي والإيمان اللاهب بإنجازات العلم الذي لا يختلف فيه شرق عن غرب. وقد قادني التنقيب في القرن التاسع عشر الذي يمثل نضج البدايات التي استهلها القرن الثامن عشر إلى اكتشاف الكثير من الحقائق التي كنت أجهلها، وتصويب الكثير من الأغلاط والمفاهيم التي تلقيتها عن المؤرخين التقليديين، وعن مؤرخي أو نقاد الأنواع الأدبية الذين ظلوا يقنعوننا بأن مدافع نابليون أيقظت الوعي العربي من غفوته، وقادته إلى طريق استعارة وسائل النهضة في كل مجالاتها من الغرب، ومن هذه الوسائل - في فنون الأدب - الرواية والمسرحية. وكان من الطبيعي - والأمر كذلك - أن يقرن يحيى حقي "فجر الرواية" بكتابة محمد حسين هيكل - في باريس - روايته "زينب" التي نشرها سنة 1913، والتي كانت - في تقدير الكثيرين - البداية الحقيقية لفن الرواية العربية. أما ما قبل "زينب" من روايات أبدعتها المخيلة العربية الحديثة، ابتداء من الثلث الثاني من القرن التاسع عشر، فتم الحكم عليها بالإعدام الجمالي الذي كان مقدمة للحكم بالتهميش الذي ينتهي إلى أودية النسيان. وكان تبرير الإعدام الجمالي أن ما كتب قبل "زينب" لا يخضع لشروط الرواية بحسب النموذج الذي هيمن على ذهن يحيى حقي، وانتقل منه إلى ذهن عبدالمحسن بدر في كتابه الشهير "تطور الرواية العربية الحديثة في مصر: 1870-1938" الذي أصدر حكمه النقدي الذي لم يقبل النقض، وهو أن الروايات العربية السابقة على "زينب" هي روايات "تسلية وترفيه" وروايات "تعليم" وليست "رواية فنية". ولذلك فهي تخرج من مملكة الفن الحية إلى التاريخ الأثري الذي يضم من الحفريات الكثير. وقد ترتب على تصديقنا هذا الحكم الجائر وتسليمنا به أننا لم نقرأ قراءة حقيقية ما كتبه جرجي زيدان على امتداد عشرين عاماً على وجه التقريب من روايات تاريخية، لم تقصر همها على تحقيق ثنائية الإمتاع والتعليم الكلاسيكية فحسب، وإنما صاغت تمثيلات كنائية متعددة، تتوسل بالتاريخ الإسلامي لتؤكد سماحته الدينية، وتشير - ضمناً - إلى أن هذه السماحة التي لم تعرف التعصب كانت سبباً أساسياً من أسباب التمدن الإسلامي، وأنها عندما غابت مع هيمنة طبائع الاستبداد انهار التمدن وانقلب إلى تخلف. وترتب على ذلك - أيضاً - إهمالنا للروايات الراديكالية التي كتبها أمثال فرانسيس المراش صاحب "غابة الحق" 1865 وفرح أنطون صاحب "الدين والعلم والمال" 1903 فضلاً عن تجاهلنا البعد المتمرد الثائر في كتابة أحمد فارس الشدياق الذي نشر "الساق على الساق فيما هو الفارياق" سنة 1855 في باريس. ورواية المراش دفاع مجيد عن العقل، وتبشير بمملكة التعقل التي لا تعرف الاستبداد ولا الاستبعاد ولا التمييز العرقي أو الجنسي أو الطائفي. وهي مكتوبة في قالب رمزي لمراوغة سلطات الرقابة القمعية، شأنها في ذلك شأن "الدين والعلم والمال" التي هي تبشير بعصر العلم الذي يقترن بالعدل الاجتماعي، ويتجاوب مع الدين في سماحته، بعيداً من التعصب المقيت للذين يستغلون الدين لتحقيق أغراضهم الشريرة. وكان كل من المراش وأنطون يسيران في سياق التقاليد نفسها التي استنّها الشدياق عندما استعان بالسخرية لمراوغة المردة، والرمز للفرار من براثن التسلط القمعي. وكانت النتيجة أنه استخدم قالب المقامة القديم لنقضه بما يؤسس لقوالب جديدة، وتلاعب باللغة القديمة ليؤسس على أنقاضها لغة جديدة، لغة عمادها الجسارة التي لا تخاف سطوة الكهنوت الديني الجامد، ولا التسلط الاجتماعي الخانق، ولا المراقبة السياسية القمعية. ولا أريد أن أضيف أمثلة إلى الشدياق والمراش وفرح أنطون في كتابات أمثالهم التي ألقيت في حمأة "التعليم" ولا في كتابات غيرهم التي ألقيت في سلة "التسلية والترفيه". والواقع أن السلة الأخيرة حَوَت من روايات المقاومة النسائية ما أطاح معاني المقاومة، فقد ضمت هذه السلة روايات المرأة العربية التي أسهمت في تأسيس فن الرواية الناهض الذي كان صوت الوعي المديني الصاعد لطلائع الطبقة الوسطى التي أخذت على عاتقها مهمة التحديث والحداثة. وكانت البداية ما كتبته عائشة التيمورية تحت عنوان "نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال" 1885. وهي البداية التي تصاعدت مع ما كتبته أليس البستاني في رواية "صائبة" سنة 1891، وما كتبته زينب فواز التي نشرت روايتها "حسن العواقب أو غادة الزهراء" سنة 1899، وذلك في السياق الذي لم ينته بما كتبته لبيبة هاشم التي أصدرت روايتها "قلب الرجل" سنة 1904. ولم تكن الكتابة الروائية للمرأة العربية أعمالاً تهدف إلى "التسلية والترفيه" بالدلالات التحقيرية التي انطوى عليها المصطلح، وإنما كانت أعمالاً تدافع عن حقوق المرأة، وتسعى إلى الانتصار لها من التقاليد الظالمة التي أحاطت بها، وسجنها في سجن الحريم الذي يصلح معه اصطلاح "التسلية والترفيه". ولم يكن من قبيل المصادفة أن تكون أليس البستاني ابنة بطرس البستاني الذي نادى بتعليم الفتاة قبل رفاعة الطهطاوي، وترجم لقراء العربية رائعة دانيل ديفو "روبنسون كروزو" سنة 1861، ولم يكن من المصادفة - أيضاً - أن تكون زينب فواز داعية راديكالية رائدة في حركة تحرير المرأة، سبقت قاسم أمين بسنوات في دعوته، خصوصاً بعد أن مضت في الطريق الذي استهله رفاعة الطهطاوي بكتابه "المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين" سنة 1873، ولكنها مضت أبعد من أستاذها غير المباشر، فكتبت في صحيفة "لسان الحال" في نيسان أبريل سنة 1892، مؤكدة انتهاء الزمن الذي يغلق أمام المرأة أبواب السعادة: "لا تعرف نفسها إلا آلة بيد الرجل يسيرها كيف يشاء، ويشدد عليها النكير بإغلاظ الحجاب وسد أبواب التعليم وعدم الخروج من المنزل، ويحرمها من حضور المحافل النسائية العامة". وظلت زينب فواز على يقينها بأن تقدم المرأة هو علامة تقدم المجتمع، مؤكدة أنه "ما من أمة انبثقت فيها أشعة التمدن في أي زمن ما إلا وكان للنساء فيها اليد الطولى والفضل الأعظم". ومن هذا المنظور، كتبت هذه الرائدة المجهولة روايتها لا على سبيل "التسلية والترفيه" وإنما على سبيل المقاومة بالكتابة لأشكال التمييز المضادة لتقدم المرأة. وكان طموحها الجمالي أو الفنى الوجه الآخر لطموحها الاجتماعى، فلا معنى لسؤال الفن، أو السؤال عن وظيفته، بعيداً من الدور الاجتماعي الذي يقوم به في مقاومة شروط الضرورة. وكان اكتشافي لقيمة الروايات التي سجنت طويلاً في زنزانتي "التسلية والترفيه" و"التعليم" قرين إلحاحي على ضرورة التعريف بها، والكتابة الجديدة عنها. ولذلك كتبت الكثير من المقالات في "الحياة" تأكيداً للدور الذي قامت به روايات القرن التاسع عشر في حركة الاستنارة، وكشفاً عن قيمها الجمالية الخاصة التي هي الوجه الآخر لقيمها الاجتماعية المقاومة لشروط الضرورة. ومن هذا المنطلق، أعدت نشر رواية فرح أنطون "الدين والعلم والمال" مع دراسة مسهبة. وكانت استجابة القراء غير متوقعة في الاحتفاء، الأمر الذي دفعني إلى إعادة نشر رواية المراش "غابة الحق" وتقديمها. وكنت أنوي المضي في هذا السبيل لولا عوائق الحياة العملية، فاكتفيت بأن طلبت من الصديق صبري حافظ الإشراف على سلسلة "ميراث القص" التي تهدف إلى إلقاء الضوء على الكتابات الرائدة في القرن التاسع عشر، وتم توزيع الأعباء التي كان نصيبي منها الإشراف على طبع أو تقديم الروايات التي كتبها فرح أنطون. لكن - مرة أخرى - حالت المشاغل العملية دون تحقيق هذه الرغبة. ولذلك شعرت بسعادة كبيرة عندما أهداني الصديق حلمي النمنم - وهو من أنشط المؤرخين الشبان في مصر، على رغم عمله الصحافي الناجح - نشرته الجديدة لرواية زينب فواز "حسن العواقب أو غادة الزاهرة"، وتحت العنوان الرئيس عنوان فرعي هو "أول رواية عربية". والحق أن العنوان الفرعي لم يشغلني في البداية، فقد غلبتني فرحة أن أرى رواية زينب فواز - وقد سبق أن نشرها المجلس الثقافي للبنان الجنوبي سنة 1984 - بين أيدي القراء في طبعة شعبية، ضمن سلسلة مكتبة الأسرة التي تتيح توزيعاً شعبياً للكتاب بسعر زهيد، وبأعداد استثنائية من النسخ التي تؤكد شعبية العمل الثقافي. ووجدتني أحرص ما أكون على قراءة الدراسة التي قدّم بها حلمي النمنم للرواية، واثقاً من قبل القراءة بأنني سأجد الجديد فيها، خصوصاً أنه سبق له إصدار كتاب مهم عن زينب فواز "الرائدة المجهولة" سنة 1998، كاشفاً عن تفاصيل دورها الرائد في تحرير المرأة. وهو كتاب أفدت منه شخصياً معرفة جوانب مجهولة من جهود الاستنارة التي قامت بها المرأة العربية في مصر في القرن التاسع عشر. وليت حلمي النمنم يكمل هذه الجهود بالإشراف على طباعة الأعمال الكاملة المتاحة لزينب فواز العربية قبل أن تكون لبنانية من جبل عامل، أو مصرية بحكم التأثر والتأثير والنشاط الغالب. ولم يخب ظني في الدراسة التمهيدية التي أوافق حلمي النمنم على كثير مما ذهب إليه فيها. ومعه الحق في النتائج التاريخية التي يتوصل إليها، وفي مراجعة تاريخ ميلاد زينب فواز، والكشف عن علاقة الصداقة التي ربطت بينها وعائشة التيمورية، لكني كنت أتوقع منه المقارنة بين روايات زينب فواز، أو على الأقل "حسن العواقب" ورواية عائشة التيمورية "نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال"، خصوصاً أن رواية عائشة صدرت قبل سنوات، أو عقد من الزمان، قبل صدور رواية "زينب"، الأمر الذي يتيح من منظور المقارنة الكشف عن دلالات لها أهميتها في تتبع تاريخ الكتابة النسائية الحديثة. وقد أعجبني ما حاول حلمي النمنم أن يستنتجه بخصوص تاريخ الطبعة الأولى من "حسن العواقب"، وهل كان سنة 1893 كما أشارت بث بارون في كتابها "النهضة النسائية في مصر، عام 1899، وهو تاريخ الطبعة التي اعتمد عليها. ويبدو أن بث براون خلطت بين تاريخ نشر "حسن العواقب" سنة 1899 ومسرحية "الهوى والوفاء" المطبوعة سنة 9318 عن مطبعة الجامعة في شارع "وجه البركة" في القاهرة. ولذلك اعتمد حمدي السكوت تاريخ 1899 في البيبليوغرافيا التي أصدرها عن الرواية العربية سنة 2000، وسبقه في ذلك جوزيف زيدان في كتابه "الروائيات العربيات: سنوات التكوين وما بعدها" الصادر - بالإنكليزية - عن جامعة نيويورك الأميركية سنة 1995. وهو الكتاب الذي يتوقف على الدور الذي قامت به زينب فواز في نشأة الرواية والدفاع عن حقوق المرأة في الوقت نفسه. ولم يشذ عن هذا التاريخ سوى محمد يوسف نجم الذي ذكر في كتابه "القصة في الأدب العربي الحديث" القاهرة 1952 أن زينب فواز أصدرت روايتها سنة 1895.