تبقى القضية الأخيرة، وهي قضية «الصنعة» التي أشار إليها أمثال ابن طباطبا وقدامة بن جعفر الذي وضع أساسها الفلسفي، والعسكري الذي جعل اسم كتابه الشهير «الصناعتين» قاصداً إلى صناعة الشعر وصناعة النثر ولكن الأهواني لا يكتفي بالنقاد العرب القدامى، وإنما يلجأ، نتيجة ميله إلى «نظرية التعبير» إلى كتاب روبن كولنغوود «أصول الفن» الذي لم تكن ترجمته العربية قد ظهرت بعد بعنوان «مبادئ الفن» ولا اختلاف جذرياً في الدلالة ما بين «الأصول» و «المبادئ» في الدلالة على الكلمة الإنكليزية (Principles) التي يحملها عنوان الكتاب الذي اعتمد الأهواني على طبعته الإنكليزية الصادرة عن دار كلارندل عام 1938 وروبن كولنغوود واحد من أهم أتباع نظرية التعبير، ذات الجذور الرومانسية، فجوهر الإبداع هو التعبير عن الشعور المتفرد، وهو انبثاق من الداخل إلى الخارج، كأنه الضوء الذي يشع من داخل المصباح إلى خارجه، وذلك على النقيض من نظرية المحاكاة الكلاسيكية التي جعلت الفن تصويراً للخارج، بينما جعلته نظرية التعبير تصويراً لما في داخل المبدع، وتعبيراً عن مشاعره وأحاسيسه. «راجع كتابي نظريات نقدية معاصرة». ويقوم كتاب كولنغوود على التمييز بين الفن الزائف «البعد عن التعبير»، والفن الحق الذي هو تعبير بكل معنى الكلمة ومراميها. والفن الزائف هو الأنواع التي توهم المتلقين أنها فن، وليست منه، مؤدية وظائف التسلية والترفيه، أو التعليم، أو المنفعة المباشرة، أو الصنعة، وعندما يكون الشعر صنعة فإنه يتحول إلى فعل واع، موجه، سبق تصوره، وتقوم الصنعة على عدد من الخصائص المائزة: 1- أنها تمايز بين الأداة والوسيلة بما يعني التمييز بين الشكل والمضمون. 2- أنها تمايز بين الخطة وتنفيذها، فالخطة هي المخطط الذي يقوم به الصانع قبل تنفيذ العمل المصنوع، كالقصيدة التي يتصورها الصانع، قبل تنفيذها في أبيات وتراكيب وإيقاع وصور، متصوّرة، عقلياً، من قبل الشروع في النظم. 3- الفصل بين المادة المستخدمة والأثر الذي يتم إنجازه، فالمادة الخام موجودة قبل الصورة التي تتخذها، وهي موجودة في دواوين الشعراء ومعانيهم السابقة في حالة الشعر. 4- التراتب بين الصنائع المختلفة، كالصناعات الثانوية التي يعتمد عليها الشاعر لكي يصل إلى الذروة. وقد توقف الأهواني، طويلاً، على شعر ابن سناء الملك ليكشف عن أنه شعر نتج من جهد عقلي واع، يهدف إلى تحقيق أغراض محددة، ترتبط بما تخيله صاحبه ابتكاراً، فاستخدم كل ما أمكنه من حيل عقليه ليبهر جمهوره المحدود من العلماء والأدباء الخاصة بما ينسيهم بوسائل الابتكار البلاغي المختلفة المواد الخام التي تركّب منها هذا الشعر ولذلك كان الشعر، عند ابن سناء الملك، جهداً عقلياً يصدر عن التفكير الواعي المنظم ويقوم على نوع من الحجاج المنطقى والتوليد الذهني والنتيجة هي التفنن في المعاني والتلاعب بالألفاظ ومنافسة القدماء مع السير على منوالهم، فالقصيدة يسبق تصورها في الوعي تنفيذها، وفي أثناء التنفيذ تتركب المعاني، ويحل النظم محل ما سبق تصوره نثراً، لكن مع تزيينه بالتشبيهات والاستعارات وأنواع التورية والمفارقة إلخ، وذلك على نحو متتابع إلى أن تكتمل القصيدة التي لا تعرف معنى التلقائية أو العفوية وتخلو من الشعور المتقد، أو الانفعال الصادق أو التداعي الوجداني الذي يؤدي فيه الشعور المهيمن المحرك للقصيدة دور المحفّز الذي يشبه حجر المغناطيس الذي يشد إليه كل أصناف المشاعر الفرعية المتنوعة التي تتجانس وطبيعته ولذلك يتوقف الأهواني وفي الوقت نفسه، لا يترك ما يدل على تقليد الشاعر وعلاقته الاتِّباعية بالتراث، فضلاً عن انفصال لغته عنه، تماماً كانفصال المادة التي يعمل فيها الصانع والأدوات التي يستخدمها عن مشاعره ووجدانه، فالقضايا الثلاث متجاوبة بما يرد الصنعة على التقليد، والتقليد على الازدواج اللغوي. ظهر كتاب الأهواني عام 1962، كما قلت سابقاً، وكنت في السنة الثانية من حياتي الجامعية، وكان الجميع يتحدثون عن الكتاب بانبهار وإعجاب شديدين، فالكتاب لم يكن كما اعتدنا درساً تاريخياً من طراز كتب شوقي ضيف، فيما أصبح سلسلة كتبه، بالغة الإفادة، عن تاريخ الأدب، بل كان كتاباً في المنهج بالدرجة الأولى، ولم يكن الكتاب يكتفي بعلوم الرواية والدراية التراثية، بل يضيف إليها من المعارف والعلوم الحديثة ما يبهر العقول بالقدرة الاستثنائية على الجمع بين الأصالة والمعاصرة، وكان الوعي المعاصر واضحاً كل الوضوح في الوعي النقدي بما كتبه سارتر عن ما الأدب؟ وروبين كولنغوود عن مبادئ الفن وموريس نادو عن «تاريخ السيريالية». واستطاع الكتاب أن يحدث قطيعة معرفية من نوع نادر التكرار في الدراسات العربية، فنقض نظرية الإقليمية كان جذرياً، ومساءلة ما اعتدنا عليه من مسلمات وضعها موضع المساءلة في مدى لم نعهده ولم تكن نبرة الكتاب حماسية كما تعودنا في دراسات الإقليمية التقليدية، أو في الخطاب القومي الذي كنا نعيش في أوج ازدهاره، بل كانت عقلانية، منطقية، تعتمد على حجاج هادئ، وتمثيل وافر، أكثر من مقنع، فضلاً عن وفرة التحليل النصي التي تصل التنظير بالتطبيق بما يميل بقارئ الكتاب إلى الاقتناع، ولم أكن قرأت الكتاب سنة صدوره، بل قرأته في صيف 1963، وأنا أستعد لعلوم السنة الأخيرة، فبهرني الكتاب واستقر في الوعي الذي احتل فيه مكانة راسخة إلى اليوم. ولا أدل على هذه المكانة الراسخة من أنني عندما أخذت أعمل في أطروحتى لنيل درجة الماجيستير، وكانت عن الصورة الشعرية عند شعراء الإحياء، لم أجد سوى المنهج الذي قدّمه الإهواني عن ابن سناء الملك مشكلة العقم والابتكار، فقد بدأت بدراسة مفهوم الصورة الشعرية في النقد الأوروبي، وقرأت كتباً من طراز كتاب سيسل داى لويس الصورة الشعرية وغيره، وكتبت عنه عرضاً نقدياً في مجلة «المجلة»، أثناء هذه الفترة، لكني سرعان ما اكتشفت أن أي مدخل حديث لن يجدي تماماً في دراسة الصورة الشعرية في شعر البارودي وشوقي وحافظ إبراهيم وغيرهم من شعراء الإحياء المصريين والعرب، ذلك لأن هؤلاء الشعراء أخذوا على عاتقهم إحياء الشعر العربي القديم وبعثه من جديد، وذلك بمحاكاته ومنافسته في آن، ولذلك عاشوا في دواوين الشعر العربي القديم، في كثير من شعرهم، أكثر مما عاشوا في حياتهم الحديثة، ولذلك كان الكثير من شعرهم شعر ذاكرة، وذلك بمعناها الذي يشير إليه شطر بيت البارودي: إن التذكر للنفوس غرام. وهو الشاعر الذي كان يصف ما في شعره من ازدواج بقوله في وصف قصيدته: «حضرية الأنساب إلا أنها/ بدوية في الطبع والتركيب». والمؤكد، أنني، تحت وطأة منهج الأهواني، لم ألتفت إلى هذا الازدواج الذي أشار إليه البارودي، وموجود في شعره وشعر أقرانه على السواء، فلم أر من شعرهم إلا الجانب الأكبر الذي تأثروا فيه بالتراث وتابعوه، إحياء وبعثاً، ولذلك كان البارودي يقول: «فإن عصر القول أولى، فإنني/ بفضلي، وإن كنت الأخير، مقدّم». «فيا ربما أخلى من السبق أول/ وبزّ الجياد السابقات أخير».ولا ينسى صلته بالماضى الذي يعيش فيه، قط، حتى عندما يفخر بنفسه قائلاً : «أنا فارس، أنا شاعر/ في كل ملحمة ونادي فإذا ركبت فإنني/ زيد الفوارس في الجلاد وإذا نطقت فإنني/ قس بن ساعدة الإيادي». وهي أبيات تتجاوب مع الكثير غيرها الذي يجعل من التراث، في عصور ازدهاره الأدبي بعامة والشعري بخاصة، الإطار المرجعي الذي تُقاس عليه قيمة الشعر وهدفه، وذلك على نحو لا يدفع اللاحق إلى تقليد السابق فحسب، بل منافسته في المضمار نفسه، وبالأساليب نفسها، وذلك على نحو غير بعيد في دلالته عن أبيات البارودي التي تقول: «فلو كنت في عصر الكلام الذي انقضى/ لباء بفضلى جرول وجرير/ ولو كنت أدركت النواسي لم يقل/ أجارة بيتينا أبوك غيور/ وما ضرني أني تأخرت عنهم/ وفضلي بين العالمين شهير». ومن هذا المنظور، كانت معارضات الشاعر الإحيائي تنطوى على نوع من الازدواج في العلاقة بالتراث الشعري، فهناك رغبة بعثه وإحيائه، موازية رغبة التنافس معه والتفوق عليه، كأنها علاقة تضاد عاطفي بين ابن يريد أن يكون صورة أبيه، وفي الوقت نفسه يكون غير أبيه بالخروج عليه والمنافسة معه ولم يكن طغيان منهج الأهواني على تفكيري، وقت كتابة الماچستير، يجعلني أرى سوى هذا الجانب في شعراء الأحياء، فجعلتهم جميعاً صوراً حديثة من ابن سناء الملك، عاشوا في الشعر القديم، تقليداً ومنافسة، أكثر مما عاشوا في عصرهم وهو جانب طاغ حقاً على شعر الإحياء، تدل عليه حتى التسمية، خصوصاً في تبادلها المكانة مع «شعر البعث» في المصطلح البحثي، وكان من المنطقي أن أبني منهجي كله على مبدأ التقليد الذي يقود إلى التوليد في مدى المنافسة، ورغبة الابتكار بمعناها العقيم، ومبدأ الصنعة التي كان مفهومها يفضي إلى العودة إلى الموروث، بحيث تغدو ممارسة الصنعة قرينة أهمية الحفظ بوصفه أول مبادئها، خصوصاً بعد أن تعلم الشعراء الإحيائيون من البلاغيين القدماء، والمحدثين من أمثال حسين المرصفي، صاحب الوسيلة الأدبية الشهير، أن أول شرط من شروط صنعة الشعر وأهمها الحفظ من جنسه، لأنه إن قل حفظه أو عدمه، فيما يقول المرصفي نقلاً عن ابن خلدون، لم يكن شعره شعراً، وإنما هو نظم ساقط، واجتناب الشعر به أولى ولذلك كان من الطبيعي أن يكثر شعراء الإحياء من حفظ ميراث أسلافهم الشعري، إلى درجة أدنت بالحافظ إلى حال من الاتحاد بالمحفوظ، فغدا كأنه إياه، أو إياه بالفعل ولذلك لا يتردد حافظ إبراهيم في تأكيد أن فضل أحمد شوقي على الشعر يتلخص في أنه: «يجيء لنا آنًا بأحمد ماثلاً/ وآونة بالبحترى المرصّع». أما حافظ نفسه فكان يرى في ما ينظم: «معان وألفاظ كما شاء أحمد/ طوت جزل بشار ورقة مهيار». ويصبح الشاعر محمد عبدالمطلب، في رأي الشيخ أحمد الإسكندري، شاعراً منقطع النظير، لا يكاد سامعه يفرّق بينه وشعراء أهل القرن الثالث والرابع ويمكن أن نعثر على القول الفصل في أبيات مطران التي توجز رأيه الإحيائي في شعر شوقي وإبراهيم وصبري:«ألست إذا آنست من عهدنا سنى/ لحكمة شوقي قلت حكمة أحمدا/ ألست إذا شاقتك أبيات حافظ/ حسبت أبا تمامك اليوم منشدا/ ألست إذا غنّاك صبري مسائلاً/ ألبحترى الصوت رجّعه الصدى». واسم أحمد يشير إلى المتنبى في البيت الأول، وبالفعل كان شوقي شديد التأثر به والحفظ له، لكن إلى جانب عشرات غيره من الشعراء، وذلك ما فعله أقرانه في مصر والعراق والشام إلى أن أخذت المدرسة الإحيائية في الأفول مع بدايات الحرب العالمية الأولى وكان من نتيجة ذلك أننى قرأت الشعر الإحيائي من منظور علاقته بالتراث، ولم أر غير هذه العلاقة الغالبة التي حجبت عن وعيى رؤية ما عداها، فأخذت أعرض صور الشعر الإحيائي على التراث، مجتهداً في ذلك، كأنني قصاص أثر، وهي عملية منهكة لكن نتائجها كانت وفيرة، منها أنني خالفت ما ذهب إليه أستاذي شوقي ضيف، في كتابه عن البارودي، حين رد المبالغة في بعض شعر البارودي إلى تأثره بالشعر الفارسي، مشيراً إلى بيته: «وما زاد ماء النيل إلا لأنني/ وقفت به أبكي فراق الحبائب». فأوضحت أن المبالغة في شعر البارودي هي نتيجة طبيعية لعلاقته السلبية بالتراث، وهي التي أدت إلى قوله كذلك» «وكفكفت دمعاً لو أسلت شؤونه/ على الأرض ما شك امرؤ أنه البحر». وذهبت إلى أن البيت الأول يرجع إلى ميراث من المبالغة، يبدأ من امرئ القيس الجاهلي: «وسالت دموع العين مني صبابة/ على النحر حتى بل دمعي محملي». وانتقلت المبالغة إلى البحتري الذي قال: «وسأستقل لك الدموع صبابة/ ولو أن دجلة لي عليك دموع». إلى أن انتقلنا من دجلة إلى ماء النيل في بيت البهاء زهير: «وما زاد ماء النيل إلا بمدمعي/ لقد مرج البحرين يلتقيان». فاسترجعت ذاكرة البارودي هذه البالغات المائية فجاء بيته: «وما زاد ماء النيل إلا لأنني / وقفت به أبكي فراق الحبائب». قريب الوزن من بيت جده القريب البهاء زهير، وجده البعيد البحتري، وذلك في العلاقة بالجد الأكبر امرئ القيس، ومن الواضح أن الوزن كان يؤدي دوراً كبيراً في تداعي الصور الشعرية القديمة على ذاكرة الشاعر الإحيائي، خصوصاً في حالات التوليد، ومثال ذلك ما قاله أحد الشعراء المصريين في «الأهرام»: «أنافا عنانا للسماء وأشرفا/ على الجو إشراف السماك أو النسر/ وقد وافيا نشزا من الأرض عاليا/ كأنهما نهدان قاما على صدر». فقال البارودي في «الأهرام» نفسها: «رسا أصلها وامتد في الجو فرعها/ فأصبح وكراً للسماكين والنسر/ كأنهما ثديان فاضا بدرة/ من النيل تروي غلة الأرض إذ تجري».