الناقد المصري الدكتور جابر عصفور الذي أعاد اكتشاف رواية "غابة الحق" للكاتب السوري النهضوي فرنسيس المرّاش وقدّمها في طبعة مصرية جديدة، يعقب هنا على مقالة كتبها الروائي يوسف القعيد عن الرواية التي كانت سبّاقة في تأسيس الفن الروائي العربي. أسعدني العرض النقدي الذي أعدّه صديقي الروائي يوسف القعيد ونشرته "الحياة" في عدد الأحد 24 كانون الأول ديسمبر الماضي عن رواية "غابة الحق" التي كتبها فرنسيس فتح الله المراش 1835-1874. وأصدرها للمرة الأولى في مدينة حلب السورية سنة 1865. وتعددت أسباب سعادتي، فمنها أن عرض يوسف القعيد بداية أرجوها للاهتمام بهذه الرواية المجهولة من الكثيرين. وأذكر في هذا المقال أن زميلي سمير سرحان المسؤول عن "مكتبة الأسرة" في مصر لم يوافق على نشرها إلا بعد إلحاحي عليه، وتأكيدي أهميتها، وضرورة التعريف العام بها، خصوصاً بعد ما ظلت معرفة هذه الرواية محصورة في دائرة محدودة إلى أبعد حد من المتخصصين في فن القصة العربية. ومن أسباب سعادتي أيضاً، أن العزيز يوسف القعيد أثار مجموعة من النقاط التي تستدعي التعقيب الذي قد يفيد منه القراء، ويعيد فتح أبواب النقاش في قضية نشأة الرواية العربية الحديثة. وابتداء، فإنني لا أحسب أن نشر هذه الرواية "يرقى إلى مستوى الكشف الأدبي الجديد". ويرجع ذلك إلى أن الرواية يعرفها المتخصصون الذين لا يكفّون عن التعقيب على تاريخ الرواية العربية الشائع، والكشف عن ارتباط نشأتها بالوعي المديني وثقافة الاستنارة الملازمة لهذا الوعي. وقد أشار أكثر من باحث إلى هذه الرواية. وأولهم في ما أذكر الأستاذ الصديق المرحوم شاكر مصطفى في محاضراته التي ألقاها على طلاب معهد الدراسات العربية العالية في القاهرة، التابع لجامعة الدول العربية، وهي المحاضرات التي طبعها المعهد سنة 1958 بعنوان "محاضرات عن القصة في سورية حتى الحرب العالمية الثانية". وأذكر من بين الذين أشاروا، أيضاً، إلى "غابة الحق" الصديق إبراهيم السعافين في كتابه "تطور الرواية العربية الحديثة في بلاد الشام: 1870- 1967". وأضيف إلى الكتب التي أشارت إلى "غابة الحق" كتاب الصديق روجر آلان "الرواية العربية: مقدمة تاريخية ونقدية" الذي صدرت طبعته الأولى سنة 1982، وكذلك موسوعة الصديق حمدي السكوت "الرواية العربية الحديثة: ببليوجرافيا ومدخل نقدي: 1865-1995". وذكر روجر آلان - في كتابه - أن أعمال فرنسيس المراش تذكر بين التجارب المبكرة في مسار تطور الفن القصصي العربي المعاصر في منطقة سوريا ولبنان. وإن دلّ ذلك كله على شيء فإنما يدل على ما سبق أن أشرت إليه من أن الباحثين الجادّين عن أصول القص العربي الحديث يعرفون رواية "غابة الحق" ويشيرون إليها. ولكني مع ذلك لا أعرف واحداً منهم قد وقف عليها وقفة تأملية تسعى إلى الغوص في دلالاتها وتحليل علاقاتها الرمزية، فتضع هذه الرواية الرائدة في سياق النهضة التي اقترنت بالاستنارة، والتي فتحت أمام الوعي العربي المديني المحدث الآفاق الجديدة لمشكلات الحرية والعدل والتقدم. ولذلك لم يكن مصادفة أن تتعدد أوجه الصراع في "غابة الحق"، وأن تشمل الصراع بين العقل والقوة المادية، وبين منطق العسكر ومنطق الحكماء، وبين أفكار الإظلام التي كانت سائدة وأفكار الاستنارة الجديدة، فضلاً عن الصراع بين أنصار العبودية وأنصار الحرية في زمن تحرير العبيد التي تردّد الرواية أصداءه، وذلك على نحو ما أوضحت في الدراسة المطوّلة الذي قدّمت بها لنص الرواية التي لا يعرفها سوى المختصين بالطبع. وظنِّي أن قراءة "غابة الحق" من هذا المنظور، الى جانب إعادة قراءة أعمال أحمد فارس الشدياق وسليم البستاني في الشام، وأعمال علي مبارك والمويلحي ومحمد فرح أنطون في مصر، فضلاً عن غيرهم من كتّاب الأعمال الروائية للقرن التاسع عشر، سواء المؤلفة أو المترجمة، لا بد أن يفتح ما كان محجوباً من آفاق الوعي التاريخي، وذلك بما يجعلنا نعيد النظر في الكثير من المسلّمات التي ظلت ذائعة طويلاً حول أصول القص العربي الحديث وترابطاته المدنية. وقد كررت في مواضع متعددة من كتاباتي عن تشكل النص الروائي العربي أن الرواية العربية ابنة المدينة بامتياز، وأنها الشكل الإبداعي الذي جسّد وعي المدينة الحديثة وتجسدت به المدينة الحديثة على المستوى الإبداعي في الوقت نفسه. ولذلك انشغلت الرواية العربية منذ نشأتها، أو منذ ولادتها مع "غابة الحق" للمراش، بقضايا المجتمع المدني وهموم أبناء المدينة الحديثة في تجمعاتهم المدنية فصاغت الرواية، إبداعياً، مشكلات التعارض بين التحديث والتقاليد علم الدين والتعارض بين الحرية والعبودية غابة الحق وبين العلم والدين الدين والعلم والمال وأورشليم الجديدة وأورشليم القديمة فتح المقدس لفرح أنطون، وبين العقل والنقل حديث عيسى بن هشام وبين الطوائف الدينية المتصارعة، بل بين أبناء الدين الواحد في سرديات الساق على الساق للشدياق. وقس على ذلك بقية مشكلات "التمدن" التي كان على الرواية العربية أن تصوغها بتقنياتها الخاصة، واصلة بين التراث السردي والأمثولات الأليجوريات السردية الأوربية التي أخذ رجال النهضة في ترجمتها. ويمكن المرء أن يذكِّر، في هذا السياق، بالعمل الجليل الذي قام به المعلم بطرس البستاني 1819-1883 والد أحد الروائيين الرواد سليم البستاني 1847-1884 أو يذكِّر بكاتبة أولى الروايات النسائية أليس بطرس البستاني التي نشرت رواية "صائبة" سنة 1892 كما يمكن أن يذكِّر بالترجمة التي قام بها بطرس البستاني لرواية الكاتب الإنكليزي دانيل ديفو 1660-1731 "روبنسون كروزو" 1719 التي نشرها بعنوان "التحفة البستانية في الأسفار الكروزية" بعد أن فرغ من ترجمتها عن الإنكليزية في الخامس عشر من نيسان أبريل سنة 1861 في مدينة بيروت، أي قبل صدور رواية المراش بحوالى أربع سنوات، وذلك في سياق ترجمات الروايات الرمزية. والنص المترجم يضع المرء مباشرة في مواجهة المقموع من خطاب الطليعة المدنية ومن خطاب الطليعة العقلانية من المجدّدين والمصلحين الدينيين في زمن النهضة، وفي مواجهة المشكلات التي استعان الرواد على إنطاق المسكوت عنه أو المنهيّ عن النطق به من الأفكار المحدثة من ترجمة الروايات الأليجورية الأجنبية، وذلك في سياق جدلية التحديث والحداثة التي اقترن بها ميلاد وعي المدينة المحدثة الذي تجسّد في رواية النهضة التي لم نعرفها بالقدر الكافي بعد. أما لماذا اكتمل القرن العشرون وانتهى من دون اهتمام بأمثال "غابة الحق" من روايات النهضة؟ فإن الإجابة عن السؤال الذي طرحه العزيز يوسف القعيد تثير من الشجون الكثير. وأرجو أن يحتملني المعجبون المتحمسون لكتاب يحيى حقي "فجر القصة المصرية" عندما أقول إن النتائج التي توصَّل إليها، والروايات التي توقف عندها، أخذت طابع التصديق المطلق في الأذهان، وخايلت الجميع بتاريخ فجر للقصة يبدأ من الحرب العالمية الأولى ولا يجاوزها إلى ما قبل سنة 1914، وهى سنة نشر رواية "زينب" هيكل في ما يذكر يحيى حقي. والحق أن "فجر القصة المصرية" أقدم من التاريخ الذي يذكره يحيى حقي بكثير، وكذلك فجر القصة العربية بوجه عام، وأن تشكّل الخطاب الروائي يرجع إلى تشكل الوعي المدني المحدث في مدن القرن التاسع عشر التي شهدت من عمليات التحديث ومن التنوع البشري والعرقي والطائفي والفكري ما وضعها في بداية زمن جديد من الوعي الذي كان لا بد أن يعبِّر عن همومه الجديدة وتطلعاته المغايرة بفن المدينة الصاعد: الرواية، ذلك الفن الذي سرعان ما جذب "المرأة الجديدة" من قبل أن يتحدث عنها قاسم أمين في كتابه الذي صدر مع مفتتح القرن العشرين، وعثر في أقلام أليس بطرس البستاني وزينب فواز ابنة جبل عامل بلبنان ولبيبة هاشم وغيرهن على ما يصوغ مشكلات الوعي المدني المؤرِّق للمرأة العربية المحدثة التي أخذت تستعين بالقص لتسهم في إشاعة أفكار "تحرير المرأة" قبل سنوات عديدة من صدور كتاب قاسم أمين بالعنوان نفسه سنة 1889. صحيح أن روايات القرن التاسع عشر العربية لا تنطبق عليها جماليات الرواية الشائعة الآن. ولكن من قال إن للرواية جماليات واحدة، أو أن مواصفات الرواية ومواضعاتها الفنية ثابتة في كل زمان ومكان. إن الرواية نوع أدبي دائم التحول والتبدل، وخاصية المرونة في هذا النوع تجعل منه قابلاً للتشكل في ما لا نهاية له من الأشكال، والتنوع الذي لا حدّ لمبدأ الغائية فيه يسقط نفسه على وظائفه التي تحدد أبنيته. ولعل أفضل تعريف لهذا النوع - بكل ما يتسم به - هو ما قاله عنه أحد المنظِّرين لفن الرواية من أنها نوع لا يقبل التعريف أو التحديد بسبب قدرته المذهلة على التغيّر والتلون والتحول والتنوع. وأتصور أن التاريخ المجذوذ الأطراف الذي صاغه يحيى حقي لفجر الرواية المصرية كان بمثابة البذرة التي سرعان ما ظهرت نتائجها السلبية التي مضى في أفقها الكثير من الباحثين، ومنهم أستاذنا المرحوم عبدالمحسن بدر، فى كتابه الرائد "تطور الرواية العربية في مصر"، فرغم القيمة الموضوعية والتاريخية لإنجازه المتميز وكشوفه المفيدة، فإن كتابه اختزل روايات القرن التاسع عشر في ما أطلق عليه اسم "روايات التسلية والترفيه" واسم "روايات التعليم" في مقابل "الرواية الفنية" التي جعل منها رواية "زينب". وقد ترتّب على ذلك إلقاء الروايات التي يتجسد بها الوعي المديني للنهضة الحديثة، وفي أشكال ذات علاقة بالمدنية في زمن النهضة، خارج دائرة الفن، ومن ثم إغفالها بحجة أنها متدنية فنياً، الأمر الذي دفع إلى عدم الاهتمام بروايات مثل "غابة الحق" أو "الدين والعلم والمال" وغيرهما من الروايات التي غاب عنها الضوء، حتى في معظم الكتابات اللاحقة، وذلك لأن الباحثين ظنوا مع يحيى حقي أن بداية الفجر القصصي العربي الحديث هي رواية "زينب" وظنوا مع عبدالمحسن بدر أن الرواية الفنية تبدأ من "زينب" التي يبدأ بها تاريخ فن روائي مؤدلج ومختزل.