المخرب الكبير ما اكثر الأعمال الفنية تأثيراً في القرن العشرين؟ "آنسات افينيون"؟ "غرنيكا"؟ لوحتا بابلو بيكاسو الشهيرتان اللتان رسمهما في 1907 و1937 أتتا في المركزين الثاني والرابع. لو طرح السؤال قبل عشر سنوات كان الفنان الإسباني فاز حتماً، لكن المزاج الفني في بريطانيا اجتازه بلا رحمة. ذات يوم في 1917 دخل فنان فرنسي مخزناً في نيويورك وخرج متأبطاً مرحاضاً رجالياً. قصد معرضاً ودفع ستة دولارات وركز المرحاض على جانبه بعد ان وقّعه ب"ر.مت". كان هذا المرحاض اكثر الأعمال الفنية تأثيراً وفق خمسمئة فنان وناقد وتاجر وأمين متحف في بريطانيا. ولئن صدم بعضهم فليس لأن مارسيل دوشان لا يستأهل بل لأنه تفوق على بيكاسو ومواطنه هنري ماتيس اللذين سيطرا على فن القرن العشرين وانحصر الفعل الفضيل بينهما. شهدت "آنسات افينيون" بداية التكعيبية التي كانت اكثر الحركات الفنية تأثيراً في العصر الحديث. وصورت "غرنيكا" اهوال الحرب الإسبانية الأهلية، فبرهنت ان الفن يستطيع في آن واحد ان يتجدد ويقدم شهادة على الأحداث التاريخية، الأمر الذي اهملته الانطباعية. هنري ماتيس عبّر بتجاهله محنة بلاده اثناء الاحتلال النازي وذهابه الى جنوبها هرباً من القتال. لم يطلب الكثير من فنه. قال انه مثل كنبة يغرق فيها المرء في نهاية النهار. لم يختره اي من الفنانين البريطانيين في المركز الأول، وتركوا حسيته وألوانه الخالصة جانباً لينحازوا الى فن محرّض يتحدى التقليد ويوجه رسائل سياسية واجتماعية. "الاستديو الأحمر" لماتيس حلت في المركز الخامس، وسبقتها في المركز الثالث صورة مارلين مونرو المتكررة لأندي وارهول التي باتت رمزاً للشهرة والمأساة والموت. بحثت الحركات الطليعية عن تعبير فني مختلف عندما تجرأ دوشان على عرض سلعة اشتراها من دون ان يغيّر فيها شيئاً. كان المرحاض قطعة فنية لأنه قال انه كذلك لكن قلة اقتنعت بمقولته. اضيف لقب "المخرب الكبير" الى "كبير الهراطقة" الذي ناله عندما عرض "عارية تهبط الدرج" في نيويورك في 1913 . لم تكن للشكل الذي رسمه علاقة بالمرأة او الدرج فأثار السخرية والغضب، ورد بالتوقف عن الرسم واختيار الفن من عالم كل يوم. غرز دولاب دراجة هوائية في كرسي مطبخ، وعندما انتقل الى نيويورك في 1915 اشترى مجرفة ثلج سماها "قبل الذراع المقطوعة" وقال انها عمل فني جاهز. اشترى وولتر ولويز ارنسبرغ اعماله بنهم، وأسس مع اصدقائه الأميركيين فرعاً للدادائية التي بدأها هوغو بول وتريستان زارا وجان آرب في كاباريه فولتير في زوريخ. نادت الدادائية بالحرية والفوضى، ورفضت الحرب والمدنية معاً فأثارت الجدل في المدينة السويسرية وفتحت شهية دوشان على التسبب بضجيج مشابه في نيويورك كان فنانون كثر ملوا رقابة اللجان الأكاديمية ورفضها اي عمل فني خارج عن التقليد، فأسسوا مع الدادائيين الأميركيين جمعية الفنانين المستقلين. اقامت هذه معرضاً قدم لدوشان الفرصة التي انتظرها فاشترى المرحاض ووقعه بR Mutt التي تعني "المغفل" او "الكلب المهجن" وسماه "الينبوع" تهكماً على المعلمين القدامى الذين رسموا الينابيع في لوحاتهم. لم يستطع المنظمون رفض "الينبوع" لأن دوشان دفع الرسم، فأخفوه وراء جدار ولم يكتشفه الفنان إلا بعد تسعة ايام. دافع ارنسبرغ عن صديقه بالقول ان الفنان هو الذي يقرر ما هو الفن ولا احد غيره. الفنان جورج بيلوز الذي ايد الاختبار في الفن تساءل ما اذا كان يجب القبول بلوحة ألصق عليها روث الحصان. "اخشى ان علينا القبول بها" قال ارنسبرغ، وكانت عبارته نذيراً بالتغير وتحطيم المقدسات. كان "الينبوع" بداية الفن المفهومي الذي استخدم روث الحيوان مادة للرسم حتى في اللوحات الدينية. شاء دوشان ان يؤكد حق الفنان في ان يكون مفكراً لا صانعاً. لماذا لا يتخلص من الفكرة التي تحصره بالحرفة والمهارة والقدرة التقنية؟ قيل ان المرحاض "لا اخلاقي، مبتذل ومنحول" لكنه لا اخلاقي بقدر ما المغطس لا اخلاقي. ولئن كان سلعة جاهزة في المخازن، فإن مسألة الصنع غير مهمة. السيد مت اخذ قطعة نستعملها في حياتنا، وأعطاها عنواناً وفكرة جديدين اختفى معهما المعنى النفعي العادي لها. اثار "الينبوع" التساؤل حول حسيته ايضاً، ففي حين سيطرت ملامحه المؤنثة بدت له طبيعة ذكورية ايضاً. الاختلاط الجنسي واضح في LHOOQ التي تعني "مؤخرتها مثيرة" واختارها دوشان عنواناً للموناليزا بعدما اضاف إليها شاربين ولحية خفيفة. اختفى "الينبوع" بعد عرضه اسبوعاً في غاليري 291، فوافق دوشان على صنع غاليري شوارز ثماني نسخ قبل وفاته بأربعة اعوام في 1968 في الذكرى المئوية للاتفاق بين انكلترا وفرنسا يختار اهل الفن الإنكليز فرنسياً فنانهم المفضل. المفارقة انه جاء لينفض ويدمر لا ليكمل. صوت اللغة عندما فازت بجائزة نوبل للأدب اخيراً قالت النمسوية ألفريدة يلينك ان لغتها محلية الى درجة لا يمكن معها ترجمة ادبها او فهمه. ناشرها الإنكليزي اشار الى حساسيتها الأوروبية، لكنها خشيت ان تبقى محكومة بلغة لا يمكن ترجمتها. "ألعب بصوت اللغة، ولا يمكن ترجمة هذا الى لغة اخرى. لكل لغة وجه وبصمات لا شبيه لها في اللغات الأخرى". خوف يلينك لا يتفق مع الطابع العالمي لجائزة نوبل التي تريد التفاهم والحوار والعولمة لا التشديد على الخصوصية العاصية. الفائز بنوبل الأدب يشبه سفير النيات الحسنة في الأممالمتحدة بإدانته الظلم وتجاوزه الحدود. نالتها نادين غورديمر في 1991 لأنها ذات "منفعة كبيرة للإنسانية". وديريك وولكوت في 1992 لالتزامه "المتعدد الحضارات". وداريو فو في 1996 "لتمسكه بكرامة المسحوقين". وغونتر غراس في 1999 لرسمه "وجه التاريخ المنسي". ونيبول في 2001 لإجبارنا على "رؤية حضور التاريخ المقموع". الطابع الخاص للأدب سهل الطريق الى الجائزة، لكن يلينك تشدد على الحواجز واستحالة العبور النقي الكامل بين اللغات. المحتوى ينقل بسهولة اكبر من اللعبة اللغوية، وهذا ما تشدد الجائزة عليه، لكن افضل الأعمال الأدبية هي التي تمزج المحتوى والشكل... لا يهمني تقديم المحتوى في لغة تقليدية. ذلك شبيه بصب النبيذ الجديد في زجاجات قديمة. لكل لغة روحها وخصوصيتها التي قد تمتنع شكلاً ومضموناً على اللغات الأخرى وتفقد بعضاً منها في الترجمة. المجددون والمشددون على الأسلوب يخسرون عند الانتقال بين لغة وأخرى، ومن الذين تصعب ترجمتهم شكسبير وسيلين وبوشكين. تحدثت اوروبا بلسان واحد حتى نهاية القرون الوسطى ثم بدأت تترجم الإنجيل والأدب الى لغاتها المحلية. سامويل جونسون قال ان الشعر لا يترجم، وذلك امر حسن لأنه يدفع الى تعلم اللغات. الحل الوحيد للإنكليزي هو تعلم الإغريقية واللاتينية والفرنسية والألمانية والإسبانية والإيطالية وفق واضع اول قاموس انكليزي. الشاعر الأميركي ازرا باوند ترجم عن الإيطالية والفرنسية واليابانية والصينية، ورأى الترجمة احد الفنون السامية. هناك نوعان منها: ذاك الوظيفي الذي يهدي القارئ المتعجل الى "الكنز"، والآخر الذي يؤلف فيه المترجم قصيدة اخرى. ايهما اهم: الدقة او الجد، وهل يجب ان يعزل احدهما الآخر؟ هل على مترجم "الحرب والسلم" لتولستوي ان يمنح القارئ الإنكليزي تجربة شبيهة بتجربة القارئ الروسي، او ان عليه التمسك بنص دقيق لا يتنازل او يساوم؟ لجنة الحكم في جائزة نوبل للأدب تعتمد على الترجمة وتشدد بالتالي على العناصر التي يمكن ترجمتها. المحتوى السياسي وسيرة الكاتب مقابل ما لا يمكن ترجمته تماماً كالأسلوب. فصل الشكل عن المحتوى هو الطريق الوحيد للقاء، لكن يلينك معها حق عندما تشكو من الخسارة. الأسلوب هو الإنسان، قال الفرنسيون، وكلما ازدادت خصوصيته تعززت خسارته. لكن ثمة رسالة للكاتب، وهي تصل دائماً. بعد الأغنية قصة اتصلت نادين غورديمر بواحد وعشرين زميلاً وزميلة تحب قراءتهم وطلبت قصة مجاناً. اقنعت الناشرين بالتخلي عن حقوقهم فكانت مجموعة "رواية الحكايات" التي شارك فيها غابرييل غارسيا ماركيز، جون ابدايك، مارغريت اتوود، سلمان رشدي، آرثر ميلر، غونتر غراس، اموس اوز و... وودي آلن. في آخر تشرين الثاني نوفمبر الماضي قدّم الأمين العام للأمم المتحدة كوفي انان الكتاب قبل حلول اليوم العالمي للإيدز. اجتمع مغنون وموسيقيون في الثمانينات واليوم لتسجيل اغنية "هل يعرفون انه الميلاد؟" ورصد ريعها للجائعين والمرضى بالإيدز "لكن الكتّاب لم يصدروا اشارة تدل على انهم بشر ولديهم مسؤوليات اجتماعية". لبّى الكتّاب بسرعة طلب الكتابة عن اي تجربة انسانية ما عدا الإيدز الذي سيرصد ريع المجموعة لجمعية تعنى بمرضاه في جنوب افريقيا، اكثر الدول تأثراً به. بعض الكتّاب ينتمي الى دول تعتقد انها غير معنية بالمرض، تقول غورديمر، لكن العالم في متناول الجميع والإيدز مسافر خفي مع كثيرين.