كره لقب "الكاتب الكاثوليكي" لكنه توقف عن تناول المخدر قبل دخوله في غيبوبة نهائية لكي يستعد للعبور. خشي غراهام غرين الذهاب حقاً الى جهنم، فطلب رؤية صديقه الكاهن ليوبولدو دوران الذي منحه القربان المقدس والبركة والغفران. على أن جهنم كانت جزءاً من جاذبية الكاثوليكية التي اعتنقها في الجامعة لكي يقنع فيفيان ديريل - براوننغ بالزواج منه. "كان عليّ أن أجد ديناً أقيس به الشر في نفسي"، قال، "لست كاثوليكياً كما يجب عندما أكون بعيداً منكِ" قال لكاثرين وولستون. "أنا كاثوليكي أفضل بكثير في الخطيئة المميتة. على الأقل أكثر ادراكاً لذلك". الخاطئ أكثر طهارة من فاعل الخير وت. س. اليوت معه حق: "معظم الناس أحياء قليلاً، وهم لا يصحون إلا عندما يقدرون على فعل الخير الحقيقي، على انهم يبيتون في الوقت نفسه قادرين على ارتكاب الشر للمرة الأولى". الذكرى المئوية لولادة الروائي المسرحي الشاعر الصحافي العاشق الجاسوس مرت في تشرين الأول أكتوبر بهدوء كآخر أيامه. أصدرت دار جوناثان كيب الجزء الثالث والأخير من "حياة غراهام غرين" الذين غطى الحقبة بين 1955 و1991 . كلف غرين فورمان شيري كتابة سيرته لكنه قاومه وشمت به كلما تعثر ومرض في رحلاته التي اقتفت اثر الكاتب. سافر شيري سبعة أعوام وأصيب ببعض الأمراض التي أصابت غرين، وبدا شبيهاً ببيير مينار، بطل بورخيس الذي شاء أن يفكر كارفانتس ويرى ما رآه لكي يكتب "دون كيشوت" ثانية. رفض غرين الحديث عن محاولات الانتحار وجلسات العلاج النفسي وهو فتى فتبع شيري اثر ستة وثلاثين من رفاقه كافأه اثنان منهم بيوميات من تلك الحقبة. كان والد غرين مدير المدرسة وأقام مع أسرته في مبناها فعاش ابنه ثنائية أليمة بين السلطة والتمدن والأمان في الأسرة والخضوع والتمرد والعدائية بين التلامذة. قال ان الطفولة رصيد الكاتب وكان رصيده ضخماً. أثرى أدبه بالأبطال الجبناء والكهنة المشككين ومن يعيشون على حافة الإيمان الخطرة. انحاز دائماً الى الذين يجتازون الحدود. خارجون عن القانون ولاجئون وعابرو خرائط الايديولوجيا من جواسيس وعملاء مزدوجين. غرين الذي تجسس لبلاده في الحرب العالمية الثانية، ويقال طوال حياته، أحس ان حياته مفتوحة أمام شيري وكره ذلك. "انه بديلي" قال وفتح غرفة نومه وتأمله عندما زار منزل الكاتب في كابري كأنه يسترجع بعض ما أخذه شيري منه. كتب أجمل رواياته عندما كانت له زوجة وعشيقتان. رأته زوجته بارداً أساساً وشكت نزقه بعد تعرفه الى كاثرين، حب حياته، ورغب هو في التلخص من دوروثي غلوفر، رسامة كتب الأطفال لكنه لم يستطع. لم يكن واثقاً أصلاً من حب كاثرين له، إذ ارتبطت بآخرين كان بينهم كهنة كاثوليك في الوقت نفسه. كانت أميركية تزوجت نائباً ثرياً انكليزياً عرف بعلاقاتها ولم يغضب. كانت فرداً مستقلاً، قال، وحق لها أن تقوم بما ترغب فيه. شاركت الكاتب الفراش في بيتها أثناء وجود زوجها فيه، وبررت تعبها أحياناً بالقول انها كانت مع غراهام في السرير طوال النهار والليل. أصر غرين على تركها زوجها لتتزوجه وعندما اقتنعت وأخبرت هاري انتحب كطفل فغيّرت رأيها. هل كان الكاتب قادراً على الحب من دون خيانة، وهل رغب حقاً في الزواج من كاثرين؟ أحب الأميركية الجميلة الصريحة الذكية الحيوية لكنه أحب أيضاً الحرية والسهولة اللتين وفرهما مالها لهما. استأجرت يوماً طائرة لتعيده من منزلها في كيمبريدج الى منزله في اكسفورد، فأدخلت احتمالاً جديداً الى حياته. "خصلة شعر تلمس العين في الطائرة فوق إيست انغليا المثلجة "يقع المرء في الحب". في الثلاثين كتبت له من تأثره بكتبه ورغبتها في اعتناق الكاثوليكية مثله، فهل يكون عرابها؟ قبل وأحب ابنته بالعمادة التي صغرته باثني عشر عاماً لكن سوداويته أخافتها. "تعاسة غراهام حقيقية كالمرض" كتبت لشقيقتها "انه خجول جداً ولا يستطيع التفكير ان أحداً يريده. انه شخص غريب معذب. أحبه جداً وأتمنى ... لو لم يكن يعاني بهذا المقدار من الشجن الحقيقي جداً". حاول الانتحار بمزج الاسبيرين والويسكي عندما رفضت الزواج منه، وأحس بما يقرب من السعادة عندما حرك آخر ذرات الاسبيرين في قعر الكأس. تخيل ان قلبه سيتوقف فجأة كالساعة لكنه نام بعمق فحسب. ارتبط بعلاقة مع الممثلة السويدية انيتا بيورك ثم اعترف لكاثرين ان علاقته بها كانت الوحيدة الكاملة لأنها شغلت عقله وقلبه وجسده. أدمنت على الكحول في آخر حياتها وبعد موتها في 1978 كتب هاري لغراهام: "يجب ألا تندم. لقد تسببتَ بالألم بالطبع لكن من يستطيع القول صادقاً انه عاش حياته من دون أن يتسبب بالألم للآخرين؟ ثم انك منحت الفرح أيضاً. أعطيت كاثرين شيئاً لم يهبها إياه أحد غيرك. من العدل القول انه غيّر حياتها وجعلها انسانة أكثر احساساً من قبل" في الأعوام الثلاثين الأخيرة من حياته أحب غرين زوجة رجل آخر مجدداً. الفرنسية ايفون كلويتا التي منحته سلاماً لم يعرفه مع كاثرين، واشتركت في تشييعه في ربيع 1991 مع زوجته التي أنفصل عنها ولم يطلقها. الى الزنى، اعجب بدور البغاء وساند تشريعها وكتب مسرحية "بيت سيئ السمعة" عنها. وفي فييتنام دخن الأفيون بانتظام، لكن لا النساء ولا المخدرات أنقذته من تململ روحه الباحثة عن الرضى في الخطيئة عن سابق تصور وتصميم. لم يجعل الذكاء غرين كاتباً مفكراً. سيّرت العاطفة تفكيره لكنه بقي يسيطر على مادته الوفيرة. قال ان الطبيعة البشرية ليست أسود وأبيض بل أسود ورمادي، ونضحت شخصياته شكاً أخلاقياً ودينياً وهوى جامحاً وعزلة. شدّد على ان لا مجال للأحكام القاطعة عليها لأن ذلك يجعلها "أقل حياة". "عندما لا نثق نحيا" قال، وفضل المطهر الواقع في العقيدة المسيحية بين الجنة والجحيم. "أنا مؤمن كبير بالمطهر له معنى و حس بالحركة. لا أستطيع الإيمان بجنة هي مجرد نعيم سلبي". عندما تسلم جائزة شكسبير في جامعة هامبرغ في 1969 هاجم مواطنه. شاعر المحافظين الأكبر لم يهتم بالاضطهاد السياسي في زمنه المضطرب بل طلب التكريم والأمان. "أليست وظيفة راوي القصص أن يكون محامي الشيطان، ويثير التعاطف وقدراً من التفهم لهؤلاء الواقفين خارج حدود الاستحسان الرسمي؟ مهنة الكاتب تدفعه الى أن يكون بروتستنتياً في مجتمع كاثوليكي، وكاثوليكياً في مجتمع بروتستنتي. ان يرى فضائل الرأسمالية في مجتمع شيوعي والشيوعية في دولة رأسمالية". استعد أن يغير الترامه فوراً لأنه ككاتب وقف مع الضحايا، والضحايا يتغيرون. دافع حتى النهاية عن كيم فيلبي الذي عمل تحت أمرته في الاستخبارات البريطانية ثم تبين انه كان جاسوساً للاتحاد السوفياتي. كشف فيلبي أمر عشرات العملاء السريين البريطانيين الذين قتلهم عملاء موسكو فور وصولهم الى البانيا. مع ذلك بقي موقف غرين في رواياته ورسائله وتغطيته الصحافية قريباً من موقف مواطنه الروائي أ. م. فورستر: "اذا كان عليّ أن أختار بين وطني وخيانة صديق آمل في أن أجد الشجاعة على خيانة وطني". في رسالة الى صحيفة "ذي تايمز" في 1967 قال: "إذا كان عليّ أن اختار بين الحياة في الاتحاد السوفياتي والحياة في الولاياتالمتحدة الأميركية سأختار الاتحاد السوفياتي بالتأكيد". الاستخبارات الأميركية راقبته بلا هوادة طوال أربعين عاماً ورفضت اعطاءه تأشيرة لدخول أميركا في حقبة الحرب الباردة لأنه انضم لفترة قصيرة الى الحزب الشيوعي وناصر الحكومات اليسارية. صادق فيديل كاسترو فور قيام الثورة الشيوعية في كوبا في 1959 عندما زارها خلال تصوير فيلم "رجلنا في هافانا" المستند الى روايته. كان أيضاً صديقاً لدانييل اورتيغا الذي رئس الحكومة الساندنستية في نيكاراغوا في الثمانينات، وتعاطف مع البلاد الصغيرة التي حاربت "مستنمراً في الشمال"، الجنرال اومار تورينموس، حاكم باتناما، جعل غرين عضواً في وفد بلاده عند توقيع معاهدة القناة مع أميركا في 1977 . نجح غرين في اطلاق مصرفيين بريطانيين مخطوفين في السلفادور، وكانت أميركا اللاتينية مسرح رواياته "رجلنا في هافانا" و"السلطة والمجد" و"القنصل الفخري". يتهم بأنه لم يكن ملتزماً القضايا السياسية بل سعى الى صداقة السياسيين، على انه رفض نشر كتبه في الاتحاد السوفياتي لسجلها الرهيب في مجال حقوق الإنسان، وامتنع عن زيارة موسكو ربع قرن الى ان صادق ميكاييل غورباتشوف في الثمانينات. كتب أجمل أعماله خلال علاقته بكاثرين وولستون: "جوهر المسألة" و"نهاية العلاقة" التي تناولت مثلث الحب الحقيقي معها ومع زوجها و"الأميركي الهادئ". كان رسم الشخصية أهم ما في الكتابة، لكن ذلك عصاه في سبعيناته. صعب عليه جعل الشخصيات حية، وكثرة التركيز أتعبت عينيه الزرقاوين الشاحبتين ورطبتهما بالدموع.