نشرت جريدة"الحياة"في العدد 15187 يوم الثلثاء الماضي 2004/10/26م في هذا المكان من صفحة الرأي مقالاً لكوندوليزا رايس مستشارة الرئيس الأميركي لشؤون الأمن القومي تحت عنوان: ما الذي تغير في السياسة الأميركية بعد هجمات 2001/9/11م. كان المقال، على رغم شجاعة السؤال، صورة مستنسخة عن الخطاب الأميركي الرسمي الذي يمثل استراتيجية المحافظين الجدد في فرض السيطرة الأميركية على العالم عن طريق اتخاذ أميركا لدور المنقذ الذي لا خلاص للعالم إلا بإتباع وتبني تصوره الخاص عن نفسه وعن العالم، وإن خالف ذلك طبيعة الواقع وكذبته الحقائق الموضوعية، مع محو أي تصورات مغايرة لا تستجيب لذلك التصور الأميركي أو تتعارض مع مصالحه. والغريب أن المقال وإن طرح سؤالاً يفترض أن يتحدث عن السياسة الأميركية ما بعد 11/9بشكل عام بما يشمل سياستها الداخلية والخارجية معاً، فإن كاتبته اقتصرت على البعد الخارجي لتلك السياسة وحسب وكأن في المقال تصوراً مقنعاً بأن أميركا هي تلك"الامبراطورية"التي عندما يجري التحدث عن"سياستها"، فإن ذلك يعني"سياستها نحو رعاياها البعيدين"بأهمية قد تفوق الحديث عن مجالها الداخلي. أضف إلى ذلك تركيز المقال على تناول السياسة الأميركية من خلال منطقة الشرق الأوسط وكأنها المجال الحيوي الوحيد الذي تقاس به طبيعة السياسة الأميركية وما يجب أن تكون عليه. والحقيقة أنني لا أكتب هنا للرد على السيدة رايس أو التحاور مع افكارها خصوصاً أنها، كما قالت في مطلع ذلك المقال، لم تجد الوقت لقراءة ما يُكتب، إلى درجة أنها لم تطلع على ما كتب عن أحداث 9/11 وهي مشغولة مع إدارتها في أمر تدبر الرد العسكري على الهجمات إلا في زيارتها للسفارة الأميركية في لندن حين اقتنصت من بعض قصاصات الصحف بعض ما كتب صبيحة الحادث بعد عام من تاريخه. لكنني أكتب لأن ما جاء في مقال مستشارة الرئيس الأميركي للأمن القومي يعبر عن تلك السياسة الأميركية التي قادت إلى أحداث سبتمبر بوبالها علينا وعليهم وعلى المجتمع الدولي. وأكتب كذلك لأن ما جاء في المقال يعبر عن موقف الإدارة الأميركية الذي لم يتغير بعد سبتمبر إلا في تأجيج تلك السياسة بشن حربين متتاليتين في أقل من عامين على ما تسميه منطقة الشرق الوسط الكبير، مما حوّل حياة الآلاف بل الملايين من المدنيين العزل الذين تتذرع أميركا بحجة تمكينهم من حقوقهم في تبرير حروبها على المنطقة، إلى جحيم يومي من القتل والتشريد وافتقاد ابسط حقوق الإنسان. وفي رأيي أن مقال السيدة رايس لم يكن لينجح في تجنب ما قد يجره السؤال"ماذا تغير في سياسة أمريكا بعد الحادي عشر من سبتمبر؟"من"نقد للذات"لولا انها لم تتحصن في كتابته بكثير من المغالطات التي هي في حقيقتها ليست مغالطات وحسب بل تمثيل دقيق للمسلّمات التي يقوم عليها الخطاب الأميركي الرسمي تاريخياً في سياسته الخارجية تجاه منطقة العالم العربي والإسلامي والتي أضيف إليها عنصر التدخل العسكري السافر في شؤونه في سياق تيار"الخلاص التبشيري للمحافظين الجدد"بما وصل بالسياسة الأميركية في المنطقة إلى مرحلة الاحتلال. وفي هذا لم يكن ليشكل فارقاً موضوعياً كبيراً عدم انتماء كوندوليزا رايس لذلك التيار طالما أنها تمثل وتدافع عن تلك السياسات التي ترتبط به. فما هي مسلمات هذا الخطاب الأميركي الرسمي كما جاءت بالتفصيل الصريح في مقال السيدة كوندوليزا وكما صارت تعبر عنها بشكل سافر السياسة الأميركية في المنطقة بعد الحادي عشر من سبتمبر؟ تبني رايس مقالها على عدة مسلّمات تطرح من خلالها طبيعة السياسة الأميركية. وهي تأتي بالشكل الآتي : * تقول بوجود ايديولوجية مضادة لأميركا في العالم اليوم وتسميها ب"ايديولوجية الحقد"، وهي في رأيها ما يحرك المواقف الرافضة للسياسة الأميركية. وتنتهي بأن ترى أن"ايديولوجية الحقد هذه هي المسؤولة"عما تطلق عليه الإدارة مسمى الإرهاب. وفي هذه النقطة ليست هناك أي إشارة للمقصود ب"ايديولوجية الحقد". هل المقصود موقف العداء، الكره، الانتقام من السياسة الأميركية كردة فعل ربما على تدخلاتها غير العادلة دائماً في شؤون المجتمع العالمي أم أن المقصود ب"ايديولوجية الحقد"رموز أخرى لا تعرفها إلا أميركا. فالقول بأيديولوجية الحقد قول غامض وغيبي ويحتمل أكثر من تفسير كما يمكن - وهنا تكمن الخطورة - إن يصير بالإمكان"تلبيسه"أو توجيه الاتهام به لأي كان ممن ترى أميركا أنه يمكن وسمهم بهذه السمة أي سمة"الحقد الأيديولوجي". فهل يقصد بالحقد الإيديولوجي المعنى نفسه الذي قال فيه بوش ب"الصلبية"رغم أنه تراجع عنه في حينه، أو يقص بقول"ايديولوجية الحقد"ترديد تلك المقولة الساذجة أنهم يكرهوننا لأن لدينا حرية وديموقراطية وديزني لاند وماكدونالدز. * تقسم السيدة رايس في مقالها دول العالم إلى قسمين: دول مع أميركا ويجب أن تكون بالضرورة عوناً في أي حلف ترى اميركا قيامه أو تقيمه، ودول ليست مع أميركا وهي بالضرورة معادية وعلى أميركا أن لا تتورع عن احتوائها طوعاً أو كرهاً بسياستها المصممة خصيصاً لمن تصفهم ب"المروق". ويراوح ذلك من الاستهداف بالحملات الإعلامية المحرضة ضدهم إلى التهديد بالعقوبات الاقتصادية والعزل السياسي إلى التهديد العسكري والشروع فيه. وفي هذه النقطة تقدم رايس الدليل على نجاح تلك السياسة الأميركية بعد 11 سبتمبر بمثال ليبيا وباكستان . فهما في رأيها من دول النموذج المصنف في خانة"الدول المارقة"قبل أن تحملهما السياسة الأميركية على العودة أدراجهما إلى الحظيرة الأميركية. فعادت الأولى بعدما رأى رئيسها رؤية العين الإطاحة بصدام فتحسس رأسه. والثانية جاءت طاعتها من دون جهد كبير حين آثر برويز مشرف السلامة فسارع إلى التعاون مع العمل الأميركي الاستخباراتي والعسكري في الإعداد لتفكيك طالبان بافغانستان وذلك في الأيام الأولى التي تلت القرار الأميركي بالتحرك تجاه المنطقة. ولا تنسى رايس في مناقشة هذه النقطة أن ترجع الفضل في إعادة ترتيب خانات الأعداء والأعوان إلى سياسة العصا والجزرة القديمة المتجددة على يد أميركا التي فعلت فعلها مع باكستان وليبيا. * يضيف المقال في سياق قراءة تغيرات السياسة الأميركية القول باعتماد أميركا على سياسة"الاجتثاث"والتفكيك والمحو لكل ما هو خارج أو يمكن أن يخرج على إرادة الإدارة الأميركية. فيذكر باعتزاز تفكيك طالبان واحتلال العراق. كما يقول بسياسة الضغط على بعض الدول الأخرى والتي آتت أكلها، كما ترى رايس، بأن صارت هذه الدول راغبة في وضع يدها في يد أميركا لمطاردة الإرهابيين والمتعاونين مع الإرهاب ومسانديه الماليين بعدما كان لهم وجود مترسخ من دون مراقبة أو معارضة. وإذا كانت مستشارة الرئيس الأميركي للأمن القومي لا تنسى أن ترد الفضل كل الفضل للسياسة الأميركية ما بعد الحادي عشر من سبتمبر في التصريحات والتوجهات الإصلاحية وفي اتخاذ بعض الإجراءات الانتخابية واجراءات تمكين المرأة في دول الخليج من دون أن يبدو أنها ترى في أي من ذلك تعبيراً عن عوامل داخلية وتطلعات مزمنة طالما تجاهلتها الإدارة الأميركية، فإنها تنسى وتتجاهل تماماً أي ذكر لقضية القضايا في المنطقة وهي قضية الصراع العربي - الإسرائيلي. فلا تذكر شيئاً عن قضية الاستعمار الصهيوني الاستيطاني لأرض فلسطين والقدس ولا عن التعنت الإسرائيلي الشديد الذي أدى إلى الفشل الذريع حتى في تلك التسويات الناقصة والحلول الجزئية التي قبلها الجانب الفلسطيني رغم إجحافها والتي جاءت برعاية وإخراج أميركيين. والحقيقة أننا لا ندري هل أن عدم ذكر هذه القضية المحورية والجوهرية عند الحديث عن السياسة الأميركية في المنطقة كان تجنباً لنقد الذات الأميركية في موقفها غير العادل دائماً من هذه القضية أم أن ذلك كان مكابرة وإقراراً بعدم رغبة أميركا وعدم استعدادها لتغيير سياستها المنحازة للجانب الإسرائيلي في هذه القضية، وإن أدى ذلك الى فناء آخر جندي أميركي في سبيل ضمان استمرار ميزان القوى العسكري في صالح الجانب الإسرائيلي بما يعيد ترتيب المنطقة في ما تتكرر تسميته ب"الشرق الأوسط الكبير"بشكل لا يضمن التفوق العسكري الإسرائيلي وحسب بل يضمن تبوء اسرائيل قيادة المنطقة. على أن تجاهل هذه القضية المحورية في المنطقة لم يأتِ وحده بل جاء مدعوماً وبشكل يثير التساؤل بتجنب أي ذكر للتورط الإسرائيلي في حيازة السلاح النووي. فالمقال رغم انه اعتبر أن الجبهة الثانية بعد المواجهة العسكرية في ما تسميه أميركا بالحرب على الإرهاب هو جبهة وقف انتشار أسلحة الدمار الشامل بما فيها بالطبع الأسلحة النووية. وهو كذلك رغم تنديده بالاسم بالدول التي تحوزه أو تعمل على حيازته أو ترفض التخلص من مخزونها منه فإنه يصمت صمتاً مطبقاً عن أي ذكر لحيازة إسرائيل السلاح النووي. وربما في سكوته عن ذلك علامة مباركة لأن تستمر إسرائيل في امتلاك وتصنيع الأسلحة المحرمة لضمان تفوقها وتهديدها لدول الجوار في المنطقة وكذلك لتكون خبرتها في المنطقة عوناً للتدخل الأميركي العسكري، كما لم يعد خافياً التعاون الإسرائيلي الأميركي في العراق. وعلى ذكر العراق فإن مقال مستشارة الأمن القومي الأميركي، وكما لم يتورع عن تجاهل الموضوع الفلسطيني برمته عند الحديث عن السياسة الأميركية في المنطقة، لم يتورع عن معاودة تكرار وعوده السرابية بالديموقراطية والحرية والحقوق والانتخابات لشعب العراق متجاهلاً ما يصم ويعمي العالم اليوم من جرائم الحرب ومن"الدمار الشامل"الذي صار يعاني منه الشعب العراقي منذ دخول القوات الأمريكية إلى أرضه واحتلالها. كذلك فإن كوندوليزا عندما حدثتنا عن طوابير الشعب الأفغاني التي توجهت الى صناديق الاقتراع لتنتخب إما كرزاي أو كرزاي لتدلل الى النتائج الإيجابية لسياسة أميركا في المنطقة بعد 11 سبتمبر فإنها نسيت على ما يبدو، وقد انشغلت بقص الجانب التراجيدي من تضحيات الجنود الأميركان في سبيل إشاعة الحرية والديموقراطية في منطقتنا، أن تحكي لنا الجانب الكوميدي الآخر من تغير السياسة الأميركية في المنطقة والذي تمثل بعض رأس الجليد منه في"اللطم والصفع على الوجه"الذي يوجهه الى بعض وزراء افغانستان حرسهم الأميركي. فشكراً للسيدة رايس على انسجام مقالها مع الخطاب الرسمي لإدارة حكومتها، اذ أنها وضعت النقاط على الحروف بشأن طبيعة السياسة الأميركية في المنطقة ما قبل 11 سبتمبر وما بعده بما يقطع طريق الأوهام على أصحاب"التفكير بالتمني"wishful - thinking من الحالمين بجدية أو حتى بنية أميركا في تغيير سياستها بالمنطقة بما يصدر لنا الحرية والديموقراطية والحل الجذري العادل لقضايانا العالقة. وفي تراثنا العربي قولاً ينطبق على مقالها وهو"جاءت جهيزة بالقول اليقين". أما في شعرنا الحديث المعاصر فإن الشاعر محمود درويش يبيح لنا أن نرى ما نشاء من زوايا النظر حين يقول"لست أعمى لأبصر ما تبصرون". * كاتبة وأكاديمية سعودية.