المرصد الإعلامي لمنظمة التعاون الإسلامي يسجل 2457 جريمة لإسرائيل ضد الفلسطينيين خلال أسبوع    خسائرها تتجاوز 4 مليارات دولار.. الاحتلال الإسرائيلي يمحو 37 قرية جنوبية    شتاء طنطورة يعود للعُلا في ديسمبر    يعد الأكبر في الشرق الأوسط .. مقر عالمي للتايكوندو بالدمام    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل المصري    "إنها طيبة".. خريطة تبرز 50 موقعًا أثريًا وتاريخيًا بالمنطقة    أمير الشرقية يستقبل الرئيس التنفيذي لهيئة تطوير محمية الملك عبدالعزيز الملكية    الموافقة على الإطار العام الوطني والمبادئ التوجيهية للاستثمار الخارجي المباشر    رابطة محترفان التنس..سابالينكا تحجز مقعداً في نصف النهائي.. ومنافسات الغد تشهد قمةً بين إيغا وجوف    أمريكا تختار الرئيس ال47.. ترمب أم هاريس؟    الاستخبارات الأمريكية تكثف تحذيراتها بشأن التدخل الأجنبي في الانتخابات    منتدى "بوابة الخليج 2024" يختتم أعماله بإعلانات وصفقات تفوق قيمتها 12 مليار دولار    كيف يعود ترمب إلى البيت الأبيض؟    محافظ الخرج يستقبل مدير عام فرع هيئة الأمر بالمعروف بالرياض    انعقاد مؤتمر الأمراض المناعية في تجمع عالمي وطبي    أطفال اليمن يتألقون بتراثهم الأصيل في حديقة السويدي    أمين عام رابطة العالم الإسلامي يرأّس اجتماع المؤسسة الثقافية الإسلامية بجنيف    "الصناعة والثروة المعدنية" تعلن فوز 11 شركة محلية وعالمية برخص الكشف في 6 مواقع تعدينية    الطائرة الإغاثية السعودية ال19 تصل إلى لبنان    مركز مشاريع البنية التحتية بالرياض يشارك في المنتدى الحضري العالمي الثاني عشر بالقاهرة    توقعات بهطول الأمطار الرعدية على 5 مناطق    المملكة تثري الثقافة العربية بانطلاق أعمال مبادرتها "الأسبوع العربي في اليونسكو" في باريس    إشكالية نقد الصحوة    أرباح «أرامكو» تتجاوز التوقعات رغم تراجعها إلى 27.56 مليار دولار    الاتفاق يواجه القادسية الكويتي في دوري أبطال الخليج للأندية    المملكة تستحوذ على المركز الأول عالمياً في تصدير وإنتاج التمور    تركيا: نستهدف رفع حجم التجارة مع السعودية إلى 30 مليار دولار    «التعليم»: 5 حالات تتيح للطلاب التغيب عن أداء الاختبارات    «جاهز للعرض» يستقطب فناني الشرقية    الأسمري ل«عكاظ»: 720 مصلحاً ومصلحة أصدروا 372 ألف وثيقة    الاختبارات.. ضوابط وتسهيلات    الهلال يمزق شباك الاستقلال الإيراني بثلاثية في نخبة آسيا    إعادة نشر !    المحميات وأهمية الهوية السياحية المتفردة لكل محمية    «DNA» آخر في الأهلي    سلوكيات خاطئة في السينما    العلاج في الخارج.. حاجة أم عادة؟    غيبوبة توقف ذاكرة ستيني عند عام 1980    " المعاناة التي تنتظر الهلال"    في الجولة الرابعة من دوري أبطال أوروبا.. قمة بين ريال مدريد وميلان.. وألونسو يعود إلى ليفربول    تنوع تراثي    الأمير تركي بن طلال يستقبل أمير منطقة الجوف    الأمير عبدالعزيز بن سعود يتابع سير العمل في قيادة القوات الخاصة للأمن والحماية    زرًعِية الشبحة القمح العضوي    نحتاج هيئة لمكافحة الفوضى    ربط الرحلات بالذكاء الاصطناعي في «خرائط جوجل»    مسلسل حفريات الشوارع    كلمات تُعيد الروح    قصص من العُمرة    للتميُّز..عنوان    لماذا رسوم المدارس العالمية تفوق المدارس المحلية؟    الاستقلالية المطلقة    تشخيص حالات نقص افراز الغدة الدرقيه خلال الحمل    النظام الغذائي المحاكي للصيام يحسن صحة الكلى    سعود بن بندر يهنئ مدير فرع التجارة بالشرقية    السعودية تؤكد دعمها لجهود التنوع الأحيائي وتدعو لمؤتمر مكافحة التصحر بالرياض    أمير تبوك يستقبل القنصل البنجلاديشي لدى المملكة    مقال ذو نوافذ مُطِلَّة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اسرائيل، العراق والولايات المتحدة 1 من 2
نشر في الحياة يوم 14 - 10 - 2002

تعرضت اجزاء كثيرة من لبنان لقصف عنيف من الطائرات الاسرائيلية في 4 حزيران يونيو 1982. وبعد يومين توغل الجيش الاسرائيلي في لبنان عبر الحدود الجنوبية للبلاد. كان مناحيم بيغن رئيساً للوزراء وارييل شارون وزير الدفاع. وكان السبب المباشر للغزو محاولة اغتيال في لندن لسفير اسرائيل، لكن اللوم اُلقي آنذاك، كما هي الحال الآن، من جانب بيغن وشارون على "المنظمة الارهابية"، منظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت قواتها في جنوب لبنان ملتزمة في الواقع وقف اطلاق نار على امتداد حوالي سنة كاملة قبل الغزو. وبعد ذلك ببضعة ايام، في 13 حزيران يونيو، اصبحت بيروت تحت حصار عسكري اسرائيلي، على رغم ان الناطق باسم الحكومة الاسرائيلية كان حدد في بداية الحملة نهر الاولي، الذي يبعد 35 كيلومتراً شمال الحدود، هدفاً لها. وفي وقت لاحق، اتضح من دون مواربة ان شارون كان يسعى الى قتل ياسر عرفات بقصف كل شيء حول الزعيم الفلسطيني الذي كان يقاوم بجرأة. ورافق الحصار حظر لإيصال المساعدات الانسانية، وقطع لإمدادات المياه والكهرباء، وحملة قصف جوي متواصل دمرت المئات من مباني بيروت. وبحلول نهاية الحصار في اواخر آب اغسطس، كانت الحملة أدت الى قتل 18 الف فلسطيني ولبناني، معظمهم من المدنيين.
كان لبنان تعرض للدمار بسبب حرب اهلية مريعة منذ ربيع 1975. وعلى رغم ان اسرائيل لم ترسل جيشها الى داخل لبنان سوى مرة واحدة قبل 1982، فإن الميليشيات اليمينية المسيحية سعت في وقت سابق الى كسبها كحليف. وتعاونت هذه الميليشيات، التي كانت معاقلها في شرق بيروت، مع قوات شارون طيلة الحصار، الذي انتهى بعد يوم شنيع من القصف العشوائي في 12 آب اغسطس، ومذبحتي صبرا وشاتيلا، بالطبع. كان الحليف الرئيسي لشارون هو بشير الجميّل، رئيس حزب الكتائب الذي اُنتخب رئيساً للبنان من جانب البرلمان في 23 آب اغسطس. وكان الجميل يكره الفلسطينيين الذين دخلوا الحرب الاهلية في خطوة تفتقر الى الحكمة الى جانب الحركة الوطنية، وهي تحالف هشّ لاحزاب يسارية وقومية عربية كانت تضم "أمل"، الحركة التي سبقت ظهور "حزب الله" الشيعي الذي لعب في وقت لاحق الدور الرئيسي في طرد الاسرائيليين في آيار مايو 2000. وفي مواجهة احتمال الخضوع بشكل مباشر لاسرائيل بعدما حقق فوزه الانتخابي عملياً بالاستناد الى جيش شارون، يبدو ان الجميل اظهر تردداً. وقد اغتيل في 14 ايلول سبتمبر 1982. بعد يومين من ذلك بدأت مذبحتا المخيمين داخل طوق أمني فرضه الجيش الاسرائيلي كي يتمكن المتطرفون المسيحيون الحاقدون من انصار الجميل من تنفيذ فعلتهم البشعة من دون مقاومة او الهاء.
كانت القوات الفرنسية دخلت بيروت في 21 آب اغسطس تحت اشراف الامم المتحدة، والولايات المتحدة طبعاً. وانضمت اليها بعد وقت قصير قوات اميركية واوروبية اخرى، على رغم ان مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية بدأوا جلاءهم عن لبنان في 21 آب اغسطس. وبحلول 1 ايلول سبتمبر، انتهت عملية الانسحاب هذه، واستقر عرفات ومجموعة صغيرة من مستشاريه وجنوده في تونس. في غضون ذلك، استمرت الحرب الاهلية اللبنانية الى حوالي 1990، عندما تم التوصل الى ميثاق في الطائف، ليعيد الحياة بشكل او بآخر الى النظام الطائفي القديم الذي ما يزال اليوم قائماً. وفي منتصف 1994، تمكن عرفات - وكان لا يزال رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية - وبعض من اولئك المستشارين والمقاتلين من ان يدخلوا الى غزة في اطار ما يسمى اتفاقات اوسلو. وفي وقت سابق من تلك السنة، نُقل عن شارون تأسفه لأنه اخفق في قتل عرفات في بيروت. لكن ذلك لم يأتِ نتيجة لتقاعس في تحقيق ما كان يطمح اليه، فقد دُمّر الكثير من المخابىء والمقرات واُحيلت الى خراب مع خسارة جسيمة في الارواح. وأدت احداث 1982 الى ترسيخ قناعة العرب، حسب اعتقادي، بفكرة لا تقتصر على ان اسرائيل ستستخدم تكنولوجيا متطورة طائرات، صواريخ، دبابات، ومروحيات لمهاجمة المدنيين بشكل عشوائي، بل أيضاً ان الولايات المتحدة وبقية العرب لن يفعلوا أي شيء اطلاقاً لوقف هذه الممارسات حتى لو كانت تعني استهداف زعماء وعواصم. للاطلاع على مزيد من المعلومات عن تلك الحقبة، راجع كتاب "تحت الحصار" لرشيد الخالدي، نيويورك 1986، و"رثاءً لأمة" لروبرت فيسك، لندن 1990. وعن الحرب الاهلية اللبنانية تحديداً، راجع كتاب "المضي الى نهاية الشوط"، جوناثان راندال، نيويورك، 1983.
هكذا انتهت اول محاولة معاصرة واسعة النطاق لتغيير نظام باستخدام القوة العسكرية من قبل بلد ذي سيادة ضد بلد آخر في الشرق الاوسط. اسوق هذا المثال كخلفية مضطربة لما يجري الآن. ان شارون حالياً هو رئيس وزراء اسرائيل، وتقوم قواته وماكينة دعايته مرة اخرى بمحاصرة عرفات والفلسطينيين وتبشيع صورتهم واظهارهم ك"ارهابيين". ومن المفيد ان نتذكر ان كلمة "ارهابي" بدأت تُستخدم بشكل منظم من قبل اسرائيل لوصف اي عمل من اعمال المقاومة الفلسطينية خلال الانتفاضة الاولى بين عامي 1987 و1993، لتلغي التمييز بين المقاومة والارهاب السافر وتجرد عملياً دوافع الكفاح المسلح من مضامينها السياسية. وكان شارون بنى مجده وشهرته، إن صح التعبير، خلال الخمسينات والستينات بتولي قيادة "الوحدة 101" السيئة الصيت، التي قتلت مدنيين عرب وسوّت منازلهم بالارض بموافقة بن غوريون. وكان مسؤولاً عن إحكام السيطرة بالقوة على غزة في الفترة 71-1972. ولم يؤدِ أي شيء من ذلك، بما فيه حملة 1982، الى التخلص من الشعب الفلسطيني، او الى تغيير الخريطة او النظام بواسطة القوة العسكرية الى حد يكفي لضمان انتصار اسرائيلي كامل.
الفرق الرئيسي بين 1982 و2002 هو ان الفلسطينيين الذين يجري قمعهم ومحاصرتهم الآن هم في اراضٍ فلسطينية اُحتلت في 1967 وحيث بقوا على رغم خراب الاحتلال وتدمير الاقتصاد والبنية التحتية المدنية للحياة الجمعية بأكملها. التماثل الرئيسي هو، بالطبع، الوسائل غير المتكافئة التي تستخدم للقيام بذلك. على سبيل المثال، مئات الدبابات والجرافات التي اُستخدمت لاقتحام بلدات ومدن مثل جنين او مخيمات لاجئين مثل مخيمي جنين والدهيشة، لتنفيذ اعمال قتل وتخريب متعمد، ومنع سيارات الاسعاف وموظفي الاسعاف الاولي من تقديم العون، وقطع الماء والكهرباء، الخ. كل ذلك بدعم الولايات المتحدة التي ذهب رئيسها في الواقع الى حد وصف شارون برجل السلام خلال الانتهاكات الأبشع في اذار مارس ونيسان ابريل 2002. ومما يدل على ان نيات شارون تجاوزت بكثير "استئصال الارهاب" ان جنوده دمروا كل جهاز كومبيوتر ثم اخذوا معهم السجلات واجهزة تشغيل الكومبيوتر من المكتب المركزي للاحصاء ووزارات التعليم والمالية والصحة والمراكز الثقافية، وخرّبوا المكاتب والمكتبات، كل ذلك كوسيلة لاعادة الحياة الجمعية للفلسطينيين الى مستوى ما قبل العصر الحديث.
لا اريد ان اكرر انتقاداتي لتكتيكات عرفات او اخفاقات نظامه البائس خلال مفاوضات اوسلو وما تلاها. لقد فعلت ذلك بتفصيل تام هنا وفي مواقع اخرى. بالاضافة الى ذلك، وانا اكتب هذه السطور يكافح هذا الرجل للبقاء على قيد الحياة، كما يستمر الحصار المفروض على مقره المتداعي في رام الله بينما يفعل شارون كل ما يمكن لإلحاق الأذى به باستثناء قتله فعلاً. ما يقلقني هو فكرة تغيير النظام بأكملها كخيار جذاب لدى افراد وايديولوجيات ومؤسسات اقوى بكثير من خصومها. تُرى أي نوع من التفكير يجعل من السهل نسبياً تصور ان تجيز قوة عسكرية عظمى لنفسها اجراء تغيير سياسي واجتماعي على نطاق لم يمكن تخيله من قبل، وان تفعل ذلك من دون اكتراث يذكر بالضرر الذي سينجم بالضرورة على مستوى هائل عن مثل هذا التغيير؟ وكيف يؤدي إمكان تجنب المجازفة بتكبد خسائر بشرية في صفوفنا الى تحفيز اوهام، بل مزيد من الاوهام، بشأن ضربات جراحية، وحرب نظيفة، وميادين قتال لتكنولوجيا متطورة، وتغيير الخريطة بأكملها، وخلق ديموقراطية وما شابه، ليولّد هذا كله افكاراً بشأن الجبروت اللامحدود، واطلاق بداية جديدة، وامتلاك السيطرة المطلقة على ما يهمّ جانب"نا"؟
خلال الحملة الاميركية الحالية لتغيير النظام في العراق، جرى تغييب شعب العراق بالذات، هذا الشعب الذي دفعت الغالبية الساحقة منه ثمناً مريعاً، من فقر وسوء تغذية ومرض، كنتيجة لعشر سنوات من العقوبات. وينسجم هذا تماماً مع سياسة الولايات المتحدة في الشرق الاوسط التي تقوم على دعامتين قويتين: أمن اسرائيل وإمدادات وفيرة من النفط الرخيص. ويتجاهل المخططون الاستراتيجيون الاميركيون الفسيفساء المعقدة من تقاليد وديانات وثقافات وانتماءات قومية واحداث تاريخية التي تشكل العالم العربي - خصوصاً في العراق - على رغم وجود دول قومية مع حكام مستبدين على نحو كئيب. ويُنظر الآن بشكل اساسي الى العراق، بتاريخه الذي يرجع الى خمسة آلاف سنة، إما ك"خطر" على جيرانه، وهذا هراء نتن اذا ما نظرنا الى حاله الراهنة ضعيفاً ومحاصراً، أو ك"خطر" على حرية الولايات المتحدة وأمنها، وهو مزيد من الهراء. ولن أكلف نفسي هنا ان اضيف اداناتي لصدام حسين كشخص بغيض جداً: لن اجادل في انه يستحق بالتأكيد وفقاً لكل المعايير تقريباً أن يطاح ويعاقب. الاسوأ من هذا كله أنه خطر على شعبه بالذات.
ومع ذلك اختفت صورة العراق، منذ الفترة التي سبقت حرب الخليج الاولى، كبلد عربي كبير ومزدهر وغني بتنوعه. والصورة التي تتداول في وسائل الاعلام والخطاب السياسي على السواء هي لصحراء تقطنها عصابات وحشية يقودها صدام. اما حقيقة ان إذلال العراق أدى، على سبيل المثال، الى خراب صناعة نشر الكتب العربية تقريباً، اخذاً في الاعتبار ان العراق كان يضم اكبر عدد من القراء في العالم العربي، وانه كان احد البلدان العربية القليلة التي تملك طبقة وسطى مهنية متعلمة وذات كفاءة كبيرة، وان لديه نفطاً ومياهاً وارضاً خصبة، وانه كان دائماً المركز الثقافي للعالم العربي كانت الامبراطورية العباسية بإرثها العظيم في الاداب والفلسفة وفن العمارة والعلوم والطب مساهمة عراقية لا تزال الاساس للثقافة العربية، وان جرح معاناة العراقيين النازف يمثل بالنسبة الى العرب، مثل المعاناة الهائلة للفلسطينيين، مصدر حزن وأسى متواصل للعرب والمسلمين على حد سواء - هذا كله لا يُذكر اطلاقاً. لكن ما يشار اليه هو الاحتياطي النفطي الهائل وكذلك، وفقاً للمجادلة، اذا انتزع"نا" هذا الاحتياطي من صدام وسيطرنا عليه لن نكون معتمدين الى هذا الحد على النفط السعودي. كما تندر الاشارة اليه كأحد العوامل في النقاشات المتنوعة التي تدور بكثافة في الكونغرس الاميركي ووسائل الاعلام. لكن تجدر الاشارة الى ان العراق يملك ثاني اكبر احتياطي نفطي في العالم بعد السعودية، والنفط العراقي الذي تبلغ قيمته حوالي 1،1 تريليون دولار - واُودع معظمه بالفعل من جانب صدام الى روسيا وفرنسا وبضعة بلدان اخرى - يمثل احد الاهداف الحاسمة لاستراتيجية الولايات المتحدة. وهو أمر استخدمه "المؤتمر الوطني العراقي" كورقة مؤثرة مع مستهلكي النفط غير الاميركيين. لمزيد من التفاصيل حول هذا كله، راجع "تزييت دولاب الحرب"، مجلة "ذي نيشن"، 7 تشرين الاول اكتوبر 2002. ويتعلق قدر كبير من المقايضة بين بوتين وبوش بحجم الحصة التي يمكن لشركات النفط الاميركية ان تعد بها روسيا. وهي تذكّر على نحو مزعج بال 3 بلايين دولار التي كان بوش الأب عرضها على روسيا. فبوش الأب وابنه هما برغم كل شيء رجلا اعمال في مجال النفط، وهما يبديان حرصاً اكبر بشأن هذا النوع من الحساب بالمقارنة مع ما يفعلانه بشأن النقاط الحساسة للسياسة الشرق اوسطية، مثل اعادة تدمير البنية التحتية المدنية للعراق.
وهكذا فإن الخطوة الاولى في عملية تجريد "الآخر" المكروه من صفاته الانسانية تتمثل باختزال وجوده الى بضع عبارات وصور ومفاهيم بسيطة تكرر بإلحاح. ويجعل هذا اسهل بكثير ان يُقصف العدو من دون وخز ضمير. وفي اعقاب 11 ايلول، أصبح القيام بذلك سهلاً تماماً بالنسبة الى اسرائيل والولايات المتحدة تجاه الفلسطينيين والعراقيين كشعب. والشيء المهم الذي تجدر ملاحظته هو ان السياسة ذاتها، والخطة الصارمة ذاتها المؤلفة من مرحلة او مرحلتين او ثلاث مراحل، تُطرح بشكل اساسي من جانب الاميركيين والاسرائيليين ذاتهم. وفي الولايات المتحدة، كما كتب جاسون فيست في "ذي نيشن" 2/9 ايلول سبتمبر 2002، يعشش رجال من معهد الامن القومي اليهودي "جينسا" اليميني المتطرف ومركز السياسة الأمنية "سي إس بي" في لجان البنتاغون ووزارة الخارجية، بما فيها اللجنة التي يديرها ريتشارد بيرل المعيّن من جانب وولفويتز ورامسفيلد. ويُساوى بين أمن اسرائيل واميركا، وينفق "جينسا" "الجزء الاعظم من موازنته على تنظيم زيارات لمجموعة من الجنرالات والاميرالات الاميركيين المتقاعدين الى اسرائيل". وإثر عودتهم يكتبون مقالات في صفحات الرأي ويظهرون على شاشات التلفزيون ليروجوا سياسة ليكود. ونشرت مجلة "تايم" مقالة عن "مجلس سياسة الدفاع"، الذي يأتي كثيرون من اعضائه من "جينسا" و"سي إس بي"، في عددها الصادر في 23 آب اغسطس الماضي بعنوان "داخل مجلس الحرب السري".
من جانبه، كرر شارون بشكل مُخدّر بأن حملته ضد الارهاب الفلسطيني متماثلة مع حرب اميركا على الارهاب عموماً، وعلى اسامة بن لادن و"القاعدة" خصوصاً. وهؤلاء، حسب ادعائه، هم بدورهم جزء من "الدولية الارهابية" ذاتها التي تضم مسلمين كثيرين في ارجاء آسيا وافريقيا واوروبا واميركا الشمالية، حتى اذا كان محور الشر الذي أعلنه بوش يتركز في الوقت الحاضر كما يبدو على العراق وايران وكوريا الشمالية. وهناك الآن 132 بلداً فيها وجود عسكري من نوعٍ ما، وكل ذلك يرتبط بالحرب على الارهاب التي ما تزال من دون تعريف وعائمة كي تؤجج مزيداً من الهياج الوطني والخوف والتأييد لعمل عسكري على الجبهة الداخلية، حيث تتطور الامور من سيء الى اسوأ. ويجري احتلال كل منطقة رئيسية في الضفة الغربية وغزة من قبل القوات الاسرائيلية التي تقتل او/و تعتقل الفلسطينيين بشكل روتيني بحجة انهم ارهابيون "مشتبه بهم" ومتطرفون. وعلى نحو مماثل، غالباً ما تُهدم المنازل والمتاجر بذريعة انها تؤوي معامل لانتاج قنابل وخلايا ارهابية وتستخدم اماكن لاجتماعات. ولا يقدم أي إثبات، ولا يُطلب ذلك من جانب المراسلين الذين يقبلون التوصيف الاسرائيلي الأحادي من دون شكوى.
هذا الجهد المنظم لنزع الصفة الانسانية أسدل ستاراً من الغموض والتجريد على العالم العربي كله. فما تتلقاه العيون والآذان هو الارهاب والتطرف والعنف وكره الحرية وفقدان الاحساس بالأمان، واخيراً الشيء الاهم، اسلحة الدمار الشامل التي لا يُعثر عليها في اماكن نعرف أنها موجودة فيها بالفعل وحيث لم نفتش عنها اطلاقاً في اسرائيل وباكستان والهند، وفي الولايات المتحدة طبعاً اضافة الى دول اخرى، بل في مواقع افتراضية مثل صفوف الارهابيين او في ايدي صدام اولدى عصابة متطرفة، وغير ذلك. ومن بين العناصر الثابتة التي تستخدم في هذا الستار ان العرب يكرهون اسرائيل واليهود لا لشيء سوى انهم يكرهون اميركا ايضاً. ويتحول العراق بالتالي الى عدو مخيف لاسرائيل بسبب موارده الاقتصادية والبشرية، ويبدو الفلسطينيون مرعبين لأنهم يعوقون تحقيق الهيمنة الشاملة لاسرائيل واحتلال الارض. ونجح الاسرائيليون اليمينيون من امثال شارون، الذين يمثلون ايديولوجية "اسرائيل الكبرى" التي تعتبر فلسطين التاريخية كلها وطناً لليهود، بشكل خاص في ان تكون رؤيتهم للمنطقة هي السائدة وسط مؤيدي اسرائيل الاميركيين. وبث التلفزيون الاميركي الصيف الماضي تعليقاً لعوزي لاندو، وزير الامن الداخلي الاسرائيلي من حزب ليكود، مفاده ان كل هذا الكلام عن "الاحتلال" هو هراء. نحن شعب يعود الى وطنه. ولم يوجّه اليه اي سؤال حول هذا المفهوم البالغ الغرابة من قبل مقدم البرنامج مورت زكرمان الذي يملك ايضاً مجلة "يو إس نيوز آند وورلد ريبورت" ويرأس "مجلس رؤساء المنظمات اليهودية الرئيسية". لكن الصحافي الاسرائيلي أليكس فيشمان كتب، في "يديعوت احرنوت" في 6 ايلول سبتمبر الماضي، عن "الافكار الثورية" لكوندوليزا رايس ورامسفيلد الذي يشير ايضاً الى "ما يسمى بالاراضي المحتلة" وتشيني وبول وولفويتز ودوغلاس فيث وريتشارد بيرل الذي طلب اعداد البحث السيء الصيت لمؤسسة "راند" الذي حدد السعودية بكونها العدو واعتبر مصر غنيمة اميركا في العالم العربي ووصف تلك الافكار بأنها متطرفة على نحو مخيف لأنها تدعو الى تغيير النظام في كل بلد عربي. وينقل فيشمان عن شارون قوله ان هذه المجموعة، التي ينتمي كثيرون منها الى "جينسا" و"سي إس بي"، ويرتبطون ب"معهد واشنطن لشؤون الشرق الادنى" العضو في "أيباك"، يهيمنون على تفكير بوش اذا صح التعبير. ويقول شارون "بالمقارنة مع اصدقائنا الاميركيين يبدو إيفي إيتام ]احد اعضاء الحكومة الاسرائيلية المتشددين الاكثر قسوة[ معتدلاً من الحمائم تماماً".
الجانب الآخر المفزع اكثر من هذا الافتراض المسلّم به هو انه اذا لم نوجه ضربة استباقية الى الارهاب او اي عدو محتمل آخر فاننا سنُدمّر. هذا هو الآن لب الاستراتيجية الامنية للولايات المتحدة التي يجري الترويج لها على الدوام في المقابلات والندوات التلفزيونية من قبل رايس ورامسفيلد وبوش نفسه. واُعلنت وجهة النظر هذه في وثيقة رسمية صدرت اخيراً تحمل عنوان "استراتيجية الامن القومي للولايات المتحدة"، واُعدت كبيان شامل يعرض السياسة الخارجية الجديدة للادارة في مرحلة ما بعد الحبر الباردة. وتستند هذه الاستراتيجية على الافتراض باننا نعيش في عالم خطر على نحو استثنائي مع شبكة من الاعداء موجودة بالفعل، وانها تملك مصانع ومكاتب وعدداً لا يُحصى من الاعضاء، وانها وجودها بالكامل مكرس لتدمير"نا"، ما لم نضربهم اولاً. هذا هو ما يؤطّر ويعطي الشرعية للحرب على الارهاب وعلى العراق، التي يُطلب الآن من الكونغرس والامم المتحدة التصديق عليها.
الافراد والجماعات المتطرفة موجودة فعلاً، بالطبع، وكثيرون من المتطرفين يحبذون عموماً بشكل ما الحاق الاذى باسرائيل او الولايات المتحدة. من جهة اخرى، يُنظر الى اسرائيل والولايات المتحدة على نطاق واسع في العالمين الاسلامي والعربي باعتبارهما اولاً تتحملان المسؤولية عن ظهور ما يسمون بالمجاهدين المتطرفين، الذين يعد بن لادن اشهرهم، وثانياً تنتهكان من دون اكتراث القانون الدولي وقرارات الامم المتحدة في سعيهما لتحقيق سياساتهما العدوانية والمدمرة في هذين العالمين. وقال ديفيد هيرست في عمود نشرته صحيفة "غارديان" ارسله اليها من القاهرة انه حتى العرب الذين يعارضون انظمتهم الاستبدادية "سيعتبرون ]الهجوم الاميركي على العراق[ عملاً عدوانياً ليس موجهاً ضد العراق فحسب بل ضد العالم العربي كله. وما سيجعله مرفوضاً تماماً هو انه سينفذ بالنيابة عن اسرائيل، التي تبدو حيازتها على ترسانة كبيرة من اسلحة الدمار الشامل شيئاً مقبولاً بمقدار ما يبدو حيازتهم لها شيئاً مذموماً" 6 ايلول 2002.
استاذ الانكليزية والادب المقارن في جامعة كولومبيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.