معركة الفلوجة أكبر من مجرد عملية لاخضاع مدينة متمردة. إنها معركة أكبر وأخطر. عوامل عدة اجتمعت لصنع الوضع الحالي في هذه المدينة. العامل الأول هو رفض السكان للاحتلال الأميركي. وهي مشاعر طبيعية خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار صورة أميركا في المنطقة والطريقة التي أدارت بها مرحلة ما بعد اسقاط نظام صدام حسين. العامل الثاني يتعلق بالمشاعر السائدة في ما بات يسمى"المثلث السنّي"وبينها الشعور بأن الانتخابات المتوقعة في العراق ستؤدي إلى تغيير في ميزان القوى بين المذاهب، وستنسف"القاعدة الذهبية"التي سادت في حكم العراق منذ وقت طويل. وليس سراً أن الأصوات التي تنطلق معارضة اجراء الانتخابات في ظل الاحتلال، تعكس في الوقت نفسه المخاوف من أن تعبّر الانتخابات عن الخلل المتزايد في المعادلة السكانية، أي أن تؤدي وللمرة الأولى إلى إمساك الشيعة بغالبية مفاتيح القرار في هذا البلد. والعامل الثالث هو اختيار المقاتلين الجوالين التحصن في الفلوجة والعثور على حلفاء محليين فيها، ما يجعل وضع المدينة يرتبط ليس فقط بمعركة مقاومة الاحتلال، بل أيضاً بمجريات"الحرب على الإرهاب". هكذا تبدو معركة الفلوجة أكبر بكثير من حجم المدينة، فهي تمس مصير الانتخابات ومستقبل الوضع العراقي وصورة أميركا في العراق وفي المنطقة. واضح أن حكومة اياد علاوي لا تستطيع التعايش أكثر مع الوضع القائم في الفلوجة، خصوصاً بعدما فشلت المفاوضات في تسوية سلمية. بقاء الفلوجة على حالها ينذر عملياً باخراج"المثلث"من الانتخابات، ما يمكن أن يؤدي لاحقاً إلى التشكيك في شرعية نتائجها والصفة التمثيلية الجامعة للفائزين فيها. وواضح أيضاً أن الانتخابات شديدة الأهمية للإدارة الأميركية وبغض النظر عما يمكن أن تكون عليه النتائج. مجرد اجراء الانتخابات سيعتبر نجاحاً لأميركا وللعراقيين الذين يراهنون على مساعدتها في إعادة بناء نظام في العراق. الانتخابات ستمكن جورج بوش من إبلاغ العالم أنه برّ بوعده في تمكين العراقيين من اختيار مستقبلهم عبر صناديق الاقتراع، وان ديموقراطية ولدت من ركام الديكتاتورية التي اقتلعها الجيش الأميركي. وهي رسالة إلى الأممالمتحدة، ذلك أن الانتخابات جزء من البرنامج الدولي لمستقبل العراق. ثم ان الانتخابات ستتيح للرئيس الأميركي، ولو بعد وقت، أن يعلن برنامجاً لخفض القوات في العراق أو تغيير طبيعة انتشارها وشروط اقامتها هناك. وهنا لا بد من تذكر نجاح حققته حكومة علاوي حين أبرمت اتفاقاً مع تيار مقتدى الصدر أدى عملياً إلى حرمان المقاومة من طابع الشمولية ودفعها مجدداً إلى المثلث لتختصر في وضع"الفلوجة"من دون أن ننسى البعد غير العراقي للمعركة في هذه المدينة. لن تكون معركة الفلوجة سهلة، فبعض المخاوف المتفاقمة في"المثلث"تبث اشعاعاتها في اتجاه المنطقة. ومشاهد الحسم العسكري ستعمق مشاعر النقمة والغضب وربما تغذي معاهد الانتحاريين بالمزيد من الوافدين. لكن بوش العائد من الانتخابات بتفويض لا يمكن التشكيك فيه، يبدو مصراً على"انجاز المهمة". هذا من دون أن ننسى أن مجريات الحسم قد تظهر، في حال حصوله، ان خيارات كل الأطراف في الفلوجة وحولها كانت في النهاية انتحارية.