صدقت مخاوفي وأصيب زوجي بنوبة جديدة للمرة الثانية هذا الأسبوع، اضطر الى استدعاء الإسعاف ونقله الى المستشفى وهو مصاب بضيق في التنفس. انذرني الطبيب من قبل ان المدة بين نوبة وأخرى ستقصر وأن كل نوبة هي بمثابة غارة تشن على جسده فتضعفه شيئاً فشيئاً حتى تنتصر عليه بالنوبة القاضية. يصيبني الهلع وكلام الطبيب يتردد في خاطري. هل تكون هي النوبة القاضية؟ أتكوّم على نفسي امام غرفة العناية المركزة انتظر خروج الطبيب لطمأنتي... يطمئنني على ماذا؟ أقصى الأمل الذي يمكن ان يمنحني إياه هو ان النهاية لم تأت بعد وإن كانت المؤشرات تدل الى ان بوادرها لن تكون بعيدة. ماذا أفعل؟ ان معاقل مقاومتي التي خلتها عصية، تنهار بدورها وأجد نفسي في مهب الريح انا وولدي والديون التي يراكمها المرض والمستقبل الغامض الذي تنبئ حال زوجي الخطيرة بأنه لن يكون اقل صعوبة من سنوات الزواج العشرين التي امضيناها معاً نخرج من معركة لنخوض اخرى. حينما أطلعت اسرتي على تفاصيل مشروع حياتي المستقبلي وعنوانه إعلان حبي لهذا الشاب ورغبتي الصادقة بالزواج منه، لم أكن أتوقع هذا الرفض. الأمر في غاية البساطة: انا ابنة عائلة ميسورة وهو فقير... فقير. "الاحتجاج ليس على شخصه" كما شرحت لي امي "انه شاب وسيم، ذكي، ذو اخلاق رفيعة، لكن لا الوسامة ولا الذكاء ولا الأخلاق تصرف بسهولة في عالم الحياة الزوجية وبناء المستقبل الآمن والاستجابة لمطالب الحياة والأسرة من دون قهر ومعاناة". وحينما لفت نظرها الى انني اعمل وأتكفّل بنفسي قالت حازمة: "لن نوقع على وثيقة شقائك! إن الفقر يا ابنتي شقاء ولم يقو الحب يوماً على المداواة منه... لم يقنعني كلام أمي ولا كلام اسرتي. إن الحب يتملك كل نبضة في عروقي وأنا تجاوزت سن الرشد ولن أخضع! ولم أخضع! قررت ان اخوض معركة التحدي حتى النهاية وكلي يقين بأن هذه المعركة سيكون مصيرها الحتمي النجاح. أليس الحب هو شعاري؟ أوليس الحب نعمة سماوية موفورة الحظوظ تباركها الطبيعة والكائنات، تغدق عليها الفرص وتفرش طريقها بالورود؟ مدفوعة بهذه القناعة، بدأت طريقي. ومنذ الخطوة الأولى بدأت ايضاً أكتشف وأعي وأفهم ان المسافة شاسعة بين الشعار والواقع وأنني بقراري هذا أصدم استقراراً يسود المجتمع منذ عشرات السنين وأخربط معادلات وأفتح الطريق امام حالات تمرد اذا ما قيض لها ان تتفاقم قد تصيب السلّم الاجتماعي بتعرّجات قد لا تقوى كل وسائل العلاج على تقويمها. معركتي الأولى كانت مع القطيعة التي فرضها اهلي علي. لم يشاركوا في زفافي ولم أتلق اي زيارة منهم إلا عند ولادة طفلي الأول. لقد آلمني موقفهم هذا خصوصاً انني انتقلت بزواجي من بيئة البحبوحة والرفاهية الى التعاطي اليومي مع الفقر والتعب الحقيقي. لقد بدا ان ولادة حفيد هو الأول في الأسرة قد تمهد الطريق لانفراج في العلاقات بيننا وتجعلها طبيعية تشبه علاقة اية فتاة متزوجة بأسرتها. لكن ما بدد هذا الأمل هو كبرياء زوجي ورفضه القاطع لأي مساعدة مادية تأتي من أسرتي "لقد ارتضيت بي كما انا وسأكافح من اجل ان اوفر لك الحياة التي اعتدت عليها!". وقد استنفر كل ذكائه لرسم خطة حياة "ستقودنا حتماً الى الانفراج المادي". استدان من احد المصارف وبدأ تأسيس منزل خاص بنا وإلى جواره مؤسسته الميكانيكية الخاصة. يكاد لا ينام الليل من اجل الإسراع في انجاز هذين الحلمين. لكن لا يبدو ان السهر والتعب والكفاية هي المقومات الكافية لتحقيق الأهداف، بل يبدو ان النجاح يحتاج الى امور اخرى نجهلها. فكانت الدرب شاقة والتقدم بطيء لا يوازي تطور الحاجة الى نفقات اضافية مع ازدياد عدد افراد اسرتنا وضرورة تأمين مستقبل علمي للولدين. لكننا لم ننهزم. صحيح ان البهجة غابت من حياتنا لكن ثقتي بزوجي كبيرة وحبي له اكبر. لم يراودني شك ابداً بأن يوم الانفراج لا بد آت، لكن الذي اتى ذات فجر هو ازمة ضيق تنفس حادة جعلتني استنجد مذعورة بالإسعاف... وكانت بداية النفق الطويل! التعب المتواصل، الأجواء غير الصحية لمنزلنا الذي لم ينجز بعد والضغط النفسي والخوف من ان يخذلني وإحساسه الذي لم يبح به علناً بأنه ظلمني حين فرض علي هذه المعركة الشرسة مع الآخرين ومع الحياة، كل ذلك تضافر لينال من مناعة صحته وشبابه ويجعله فريسة للمرض الخبيث! تتزاحم هذه التفاصيل في رأسي وأنا أنتظر خروج الطبيب من غرفة الإنعاش... هل يصمد ايضاً؟ اي رعب إذا رحل! اي هزيمة! كل السنوات الصعبة التي اقتاتت من ايامنا لم تنل من قناعتي بأنني لم أخطئ حينما اصغيت لصوت قلبي وصدّقت انه يمكن لي ان اخوض معركتي وحدي وأتحدى قيماً بائدة ومفاهيم لا تتناسب ومفاهيم الحرية الشخصية والحياة العصرية. صدّقت ووثقت ومشيت... لكن يبدو ان حظوظ المتمردين دائماً بائسة، وأن هواء هذا الشرق لا يقبل الرياح العاصفة. رضيت بالفقر باسم الحب. سلكت طريق الكفاح باسم الأخلاق والكبرياء، لكنني لم أتوقع ابداً ان أهزم وأنا في وسط الطريق امام غارات المرض الرهيب تسلبني زوجي وتسقط آخر معاقل مقاومتي! إذا نجا من هذه النوبة فالنوبة القاضية آتية لا محال! لا أعرف ماذا اقول لابنتي اذا قالت ذات يوم انها وقعت في الحب؟ هل أبارك اختيارها تلقائياً ام انصحها بالتعقل لأن درب الحب مسوّر بالشوك ولإنجاحه يجب ان يستجيب لشروط ترضي المجتمع قبل ان ترضي الأفراد مهما تراءى لهم ان قناعاتهم صلبة وأن قضيتهم صائبة!