قبل أسبوع من انطلاق أعمال "منتدى المستقبل" في الدار البيضاء، والذي يعتبر إشارة قوية الى المكانة الجديدة التي باتت بلدان شمال أفريقيا تحتلها في الخطط الأميركية في المنطقة، كانت الساحة المغاربية مسرحا لحركة كثيفة من الزيارات بهدف تأسيس علاقات مستقبلية مع البلدان المغاربية على الصعيد الأمني والسياسي والاقتصادي على نحو يبني شراكة أفقية وعامودية انطلاقا من الممكن. وأتت زيارة الأمين العام للحلف الأطلسي ياب دو هوب شيفر للجزائر، بعد أسابيع فقط من اجتماع قادة الأركان في البلدان أعضاء الحلف مع نظرائهم المتوسطيين في بروكسيل، للبحث في الانتقال بالحوار المتوسطي إلى مرحلة جديدة. وعكس التركيز على الجزائر شعور الحلف بوجود تهديدات عسكرية لأمن أوروبا يمكن أن تأتي من الضفة الجنوبية للمتوسط وحتى من بلدان الساحل والصحراء التي باتت مصدر قلق معلن للإدارة الأميركية لأنها تشتبه بكونها قاعدة خلفية للحركات التي تصفها ب"الإرهاب". ويمكن القول ان زيارة الامين العام للحلف الاطلسي هي إحدى ثمار معاودة تعريف الأمن الإقليمي في المنظورين الأوروبي والأميركي لمواجهة التهديدات الجديدة والحصول على تسهيلات عسكرية في المناطق الجنوبية المغاربية المتاخمة للصحراء الكبرى لمراقبة تحركات الجماعات المسلحة والتدخل عند الاقتضاء. وسيشكل الاجتماع المشترك بين وزراء خارجية بلدان الحلف والبلدان المتوسطية السبعة في الثامن من الشهر المقبل في بروكسيل منطلقا لمناقشة هذا الدور السياسي المستجد مع الشركاء في جنوب المتوسط والذي تبلور في القمة الأخيرة للحلف في حزيران يونيو الماضي في اسطنبول. إلا أن الاتجاه إلى تكريس تعاون سياسي وأمني إقليمي لم يلغ الترتيبات الثنائية بين أعضاء الحلف والبلدان المغاربية. ومن هذه الزاوية شكلت زيارة شيراك لليبيا فرصة لطرح الرؤية الفرنسية الخاصة لدور الحلف على البلد المغاربي الوحيد المستبعد من الحوار والذي أظهر على ما يبدو رغبة بالالتحاق به. وسواء تأكد وجود تلك الرغبة الليبية أم لا، فالثابت أن القذافي سعى من خلال استضافة شيراك إلى استكمال حلقات التطبيع مع البلدان الغربية الرئيسية تمهيدا لأخذ ليبيا مكانها في الأطر الإقليمية بدءا بالشراكة الأورومتوسطية وانتهاء بالتنسيق الأمني في غرب المتوسط المعروف بحوار "4"3" الذي مازالت مستبعدة منه. وكانت استضافتها اجتماعا لوزراء خارجية "5"5" في وقت سابق من العام الجاري إشارة لتلك الرغبة بإدماجها في المسارات الجديدة على اختلاف أنواعها وغاياتها. أما على الصعيد الثنائي فكان لافتا أن شيراك الذي امتنع من مخاطبة القذافي في مثل هذا الوقت من العام الماضي عندما جمعتهما قمة "5"5" في تونس أظهر حماسة لبناء علاقات مستقبلية مع ليبيا في أعقاب اجتماعه مع القذافي أول من أمس وشدد على ضرورة فتح صفحة جديدة من التعاون الثنائي. ويمكن اعتبار التفاهم الفرنسي - الليبي في أفريقيا أبرز عناوين التوافق في المرحلة المقبلة بعد عقدين من الاحتكاكات التي وصلت إلى حد الصدام العسكري في تشاد. ومن الثمار المتوقعة للتوافق الذي كرسته زيارة شيراك تطوير موقف باريس من إدماج ليبيا في المسارات المتوسطية المختلفة وحتى في الحوار مع حلف "ناتو" الذي تبقى لفرنسا كلمتها فيه على رغم التباعد بينها وبين واشنطن. ودلّ اجتماع وزراء خارجية "5"5" الأخير في الجزائر على أن الدور الفرنسي مازال طاغيا بين الأطراف الأوروبية أسوة بالصورة التي ظهر عليها في قمة تونس. وكان وزير الخارجيه الفرنسي ميشال بارنييه يتحدث باسم الأوروبيين عندما حض البلدان المغاربية على التركيز على الاندماج الاقتصادي في ظل تسمّم العلاقات السياسية بينها، أسوة بالتجربة الأوروبية. وعكست تلك الرسالة أحد أركان الرؤية الأوروبية لمستقبل العلاقات بين الضفتين بحلقاتها المتكاملة الأمنية والسياسية والاقتصادية.