على رغم عدم وجود علاقات ديبلوماسية بين اميركا وايران رأينا كولن باول وزير الخارجية الاميركي يجلس بجوار وزير الخارجية الايراني كمال خرازي في مطعم يطل على البحر في منتجع شرم الشيخ، يوم الاثنين الماضي ويتبادلان"حديث عشاء مهذباً". كان ذلك بمناسبة مشاركتهما في المؤتمر الدولي الخاص بالعراق الذي عقد على ضفاف البحر الاحمر. ويعتبر هذا العشاء نوعاً من الاختراق اذ لم يسبق للولايات المتحدةوايران ان تحادثتا مباشرة منذ خمسة وعشرين عاماً، اي منذ انتصار الثورة الاسلامية عام 1979. بل على العكس كان هناك تبادل روتيني للشتائم والتهديدات وشكوك عميقة لدى كل طرف في نيات الطرف الآخر. ولعل جوهر الخلاف بين الطرفين هو المطامح الجيوسياسية المتنافسة: كل منهما يريد ان يكون الدولة المهيمنة في الخليج. فايران باعتبارها الجهة المسيطرة على الساحل الشمالي للخليج تريد ان يعترف بها كقوة اقليمية رئيسية. فهي بلد من سبعين مليون نسمة بمثابة عملاق تجاه البلدان العربية الواقعة على الساحل المقابل حيث تقيم اميركا حمايتها العسكرية والسياسية. هذه المنطقة الغنية بالنفط هي كما دلت على ذلك معركة السيطرة على العراق، عنصر حيوي في الهيمنة الشاملة التي تسعى اميركا الى تحقيقها في مواجهة المنافسين الجدد امثال الصين والاتحاد الاوروبي. ولا ادل على التنافس الاميركي الايراني من الجهود الحثيثة التي تبذلها اميركا لمنع ايران من دخول النادي النووي الذي تقتصر عضويته حتى الآن على اميركا وروسيا والصينوبريطانياوفرنسا والهند وباكستان واسرائيل. لا شك ان موضوع الصراع امر في غاية الاهمية. ذلك ان حصول ايران على القنبلة من شأنه ان يكبح التدخل الاميركي الاقليمي كما هي الحال في حرب العراق، ومن شأنه ايضاً ان يكسر احتكار اسرائيل لاسلحة الدمار الشامل. وسيصعب على الحليفين اميركا واسرائيل عندئد ان يتصرفا كما يحلو لهما وان يهددا خصومهما المحليين بضربات عسكرية لان ميزان القوى الذي كان يميل لمصلحتهما بشكل ساحق قد يتغير ويصبح عليهما بالتالي ان يقبلا وضع الردع المتبادل مع ايران وهو الامر الذي يعتبرانه كابوساً مفزعاً. ويبدو من وجهة نظر واشنطن وتل ابيب انهما قد خسرتا معركة منع الطموحات الايرانية من ان تتحقق، اذ تغلبت ايران على اميركا ديبلوماسياً بمساعدة دول الاتحاد الاوروبي ولم يعد بامكان اسرائيل ان تنفّذ تهديدات المتكررة بتدمير الصناعة النووية الايرانية نظراً الى المحاذير الهائلة لمثل هذه العملية خصوصاً انها، خلافاً لما وقع بالنسبة للمفاعل العراقي عام 1981، تفتقر الى الصدقية الدولية. وحققت ايران خلال العشرين سنة الماضية تقدماً كبيراً وضلعت في التكنولوجيا النووية بحيث تبدو على وشك صناعة اسلحة نووية. فهل يمكن وقفها عند حدّها؟ الجواب الارجح هو بالنفي، ذلك هو حكم معظم الخبراء. في الستينات من القرن الماضي استخدمت اسرائيل كل الحيل والاكاذيب والخدع والسرقات كي تصنع اسلحتها النووية. ويبدو ان ايران تحذو الآن حذوها. فهي تصرّ وتؤكد أن برنامجها النووي هو بكامله لأغراض سلمية مع انها حصلت على ما يبدو في الثمانينات من القرن الماضي على مخططات وعينات من الشبكة السرية التي كان يملكها العالم الباكستاني عبدالقادر خان. وقالت ايرانها انها لم تسع ولن تسعى الى الحصول على اسلحة نووية، وهي قد وقّعت على معاهدة منع انتشار الاسلحة النووية وعلى البروتوكولات الاضافية الملحقة بهذه المعاهدة التي تنص على السماح لحملات تفتيش مفاجئة تقوم بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية. كما انها التزمت تعاوناً وشفافية تامّين مع المنظمة الدولية في فيينا والتي يرأسها الدكتور محمد البرادعي. ولكن هل يمكن ان نصدق هذه التأكيدات؟ ايران بلاد واسعة وتجهيزاتها ومرافقها منتشرة في كل مكان وبعضها مدفون تحت الارض. لعل الصعوبة الكبرى في وقف البرنامج الايراني هي ان معاهدة منع انتشار الاسلحة النووية تمنحها الحق في تخصيب اليورانيوم لأغراض سلمية على رغم ان احداً لا يصدق بأن ذلك وحده هو ما يدور في خلدها. الديبلوماسية الاوروبية وإنقاذ ايران: تدخل الاوروبيون كي يجدوا حلاً ديبلوماسياً للمشكلة غير انهم نجحوا في تأجيل الازمة فقط، اذ توصلت بريطانياوفرنسا والمانيا التي يطلقون عليها اسم"الثلاثي الاوروبي" الى صفقة ديبلوماسية توافق بموجبها ايران من تلقاء نفسها وكبادرة حسن نية على وقف العمل في برنامج تخصيب اليورانيوم في حين تقوم بالتفاوض مع الاوروبيين على رزمة من الحوافز. ذلك ان ايران تطلب اشياء كثيرة فهي تطالب الاوروبيين بضمانات واضحة بشأن التعاون في الحقول النووية والتكنولوجية والاقتصادية. كما تطالب بالتزامات ثابتة بمراعاة مصالحها الامنية. وهي تنشد الدعم الاوروبي للوصول الى اتفاق تجارة وتعاون مع الاتحاد الاوروبي. انها تسعى في الواقع وبنجاح الى خلق فجوة بين اوروبا واميركا. وستبدأ المفاوضات الأوروبية - الإيرانية في أوائل الشهر المقبل حين يتم انشاء مجموعات العمل من الجانبين في الشؤون السياسية والأمنية. وقد تمضي شهور عدة قبل التوصل إلى اتفاق طويل الأمد، إذ أوضحت إيران أنها وافقت على وقف العمل في برنامج تخصيب اليورانيوم ما دامت المفاوضات مع أوروبا مستمر، واستبعدت تماماً أي تجميد"نهائي"للتخصيب. ومعنى ذلك أنه إذا لم تسفر المفاوضات عن النتائج التي تعتبرها إيران مرضية بالنسبة إلى رزمة الحوافز، فستستأنف العمل في تخصيب اليورانيوم. فمن الواضح أنها لم تتخلَّ عن مساعيها في القبض على ناصية دورة المحروقات النووية. ذلك أن التخلي النهائي عن برنامج التخصيب يستحيل على زعماء إيران اقناع شعبهم به، خصوصاً أن شعور الاعتزاز الوطني قوي جداً في البلاد. هنالك كثير من المعلقين الذين يقولون إن مطامح إيران النووية ستكون أهم اختبار لجورج بوش في ولايته الثانية. غير أن أميركا عانت حتى الآن خسائر ديبلوماسية واضحة. فآمالها بعزل إيران باءت بالفشل بفضل الأوروبيين. وبريطانيا، الحليف الأقوى في العراق، انضمت إلى فرنسا والمانيا في السعي إلى حل ديبلوماسي. والمحاولات الأميركية الرامية إلى طرح البرنامج النووي الإيراني في مجلس الأمن قد فشلت. وانتشار هذا البرنامج السري في انحاء متفرقة من إيران يجعل الإغارة عليه ومحوه من الوجود أمراً مستحيلاً. وأي محاولة لفعل ذلك ستكون على حد قول صحيفة"نيويورك تايمز"خطأ كارثياً. كيف يكون رد فعل إسرائيل؟ لقد صرح الأمين العام لحلف الأطلسي ياب دي هوب شيفر لدى عودته من زيارة لواشنطن هذا الأسبوع، بأنه"لم يشهد أي إشارة على أن أميركا تعد حرباً ضد إيران". وأضاف:"انهم أخذوا العبرة من حرب العراق هناك في البيت الأبيض". ولكن هل يمكن قول ذلك بالنسبة إلى إسرائيل؟ الخبراء الإسرائيليون سواء في وزارة الدفاع أو في وزارة الخارجية، وفي مجلس الأمن القومي أو في الكنيست، مهووسون بما يسمونه"التهديد"الإيراني. لقد أصبح هذا التهديد المزعوم يحتل الأولوية لدى واضعي خطط الدفاع الإسرائيليين. ولا يقتصر الخوف الإسرائيلي على تقدم برنامج إيران لصناعة الأسلحة النووية فحسب، بل على تطوير رؤوس نووية لصواريخ"شهاب 3"و"زلزال 3"البعيدة المدى. ويجدر التنويه بتصريح كولن باول نفسه قبل رحلته الأخيرة إلى الشرق الأوسط الذي قال فيه للمراسلين إنه اطلع على بعض المعلومات التي تفيد بأن الإيرانيين ناشطون في العمل على صنع أنظمة لايصال الصواريخ إلى أهدافها. ولقد أدى انتصار المحافظين في الانتخابات التشريعية في شباط فبراير الماضي إلى جعل السياسة الإيرانية، خصوصاً الدفاعية، أكثر سرية من أي وقت مضى، بحيث أصبحت أهداف إيران الاستراتيجية غامضة جداً بالنسبة إلى العالم الخارجي. فهل هي تسعى للحصول على الأسلحة النووية لأغراض دفاعية فقط - وهو أمر يمكن أن يكون مقبولاً - أم ان لها مآرب ومطامح أخرى؟ هل يمكنها أن تزيد من دعمها ل"حزب الله"في لبنان؟ لقد كان حادث ارسال طائرة من دون طيار من قبل"حزب الله"لتحلق فوق شمال إسرائيل عبارة عن"انتهازية"إيرانية خطيرة في نظر إسرائيل... فهل ستذهب إيران إلى أبعد من ذلك إذا حصلت يوماً على أسلحة نووية؟ لقد أعلن المفكر الاستراتيجي الإسرائيلي جيرالد شتاينبرغ أخيراً أنه كلما تباطأت إسرائيل في الرد على التهديد الإيراني ازدادت الإمكانات الإيرانية. فإيران قريبة من الخطوط الحمر الإسرائيلية. مثل هذه الأقوال لا بد أن تزيد من خطورة الوضع في منطقة بالغة التوتر. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الأوسط.