منذ ثلاثة عشر شهراً كتبنا في هذه الصفحة بالذات مقالاً بعنوان:"الرهان من يرحل أولاً: عرفات أم شارون؟""الحياة"26 تشرين الأول/ أكتوبر 2003. وورد في هذا المقال:"أن الشعب الفلسطيني يذبح من وريد غزة ورفح إلى وريد رام الله وجنين ونابلس والخليل، وأصبحت أخبار التهجير والتقتيل وتدمير المنازل كسائر الأخبار اليومية والرئيس ياسر عرفات يناشد الضمير العالمي ولا حياة لمن تنادي، بل لا حياءَ لمن تنادي". وعرض المقال لما أطلق عليها"وثيقة جنيف"والتي تم التوصل إليها بين جانبين فلسطيني وإسرائيلي غير رسميين للمرة الأولى وقلنا أنه بعد فشل الحلول الاسكندينافية أوسلو والحلول الأميركية كامب ديفيد وواي ريفر تم التوجه إلى"الحل السويسري". وأضفنا أن ما يخشى أن ينطبق على"وثيقة جنيف"الصفة التقليدية التي عرفت بها الساعة السويسرية: أي أنها لا تقدم ولا تؤخر! نضيف: أما الرهان الكبير المتداول، في حينه، في الساحة الفلسطينية - الإسرائيلية هو الآتي: من يرحل أولاً: ياسر عرفات أم آرييل شارون؟ ولم يكن المقصود بهذا التساؤل المدلول المباشر لتعبير"الرحيل"بالمعنى الصحي أو الجسدي بقدر ما كان القصد يتركز على المعنى السياسي باعتبار أن الرئيس الفلسطيني من حقه - حتى ذلك الحين أن يعد على أصابع يديه كم رئيس وزراء تعاقب على الحكم في إسرائيل وبقي هو صامداً. من مناحيم بيغن، إلى إسحق شامير، إلى إسحق رابين، إلى بنيامين نتانياهو إلى شيمون بيريز إلى إيهود باراك. وتوقعنا في ذلك المقال أن شارون وشركاه يراهنون"على غياب أو على تغييب ياسر عرفات، فالقرار متخذ وينتظر التنفيذ التوقيت الملائم". وكتب العديد من المحللين الإسرائيليين مقالات مفادها"أن التفكير السياسي في إسرائيل يتلخص اليوم بأمل أن يموت ياسر عرفات أو يزداد مرضه فيتوقف عن أداءَ دوره". ويجب أن نضيف إلى كل ما سبق"مشاعر القلق التي عبرّ عنها الرئيس الفرنسي جاك شيراك عندما يشير إلى أن اغتيال الرئيس ياسر عرفات أصبح في قلب وفي صلب برنامج شارون". وما أشبه اليوم بالبارحة. فمناسبة التذكير بهذا الكلام هو الرحيل المفاجئ - والغامض والسريع! - للرئيس ياسر عرفات من دون معرفة السبب الحقيقي والفعلي الذي أدى إلى هذه الوفاة حتى كتابة هذه السطور على الأقل. وفي غياب المعلومات الطبية الدقيقة لا ندعي معرفة بمثل هذا النوع من المعلومات. ولكن حول كل ما أحاط برحيل الرئيس عرفات يحق لنا أن نطرح بعض التساؤلات. - أولاً: من الأمور الملفتة أن الإعلام الإسرائيلي هو الذي تولى قيادة تغطية تطور حالة الرئيس عرفات الصحية. وحتى عندما كان يتم نفي وفاته في المرحلة الأولى من فترة الأربعة عشر يوماً كان الإعلام الإسرائيلي يؤكد وبشكل قاطع حتمية الوفاة آجلاً أم عاجلاً. ونحن لا نؤمن في العادة بسهولة بنظرية"المؤامرة"لكنه كان أمراً مريباً ومثيراً للاستغراب أن تملك إسرائيل السر الكبير عن مصير عرفات في حين كانت بعض الوجوه الفلسطينية تخرج من مستشفى بيرسي العسكري الفرنسي وهي تنفي كل المعلومات السلبية عن وضع الرئيس عرفات وتؤكد أن"حالته مستقرة"وأن الغيبوبة التي دخل فيها ليست دائمة ألخ... وإذ كان المطلوب في مثل هذه المرحلة تهدئة خواطر ومشاعر الفلسطينيين والعرب عن حالة الرئيس الفلسطيني فلا يجوز بحال من الأحوال تغيير أو تبديل الوقائع الطبية وأشاعة معلومات غير صحية. - ثانياً: لماذا تم تغييب الطبيب الخاص والمشرف على علاج الرئيس الفلسطيني منذ ربع قرن وهو الدكتور الوقور وزير الصحة الأردني السابق أشرف الكردي وعدم الطلب إليه الانضمام إلى سائر أعضاء الفريق الذي سافر مع"أبو عمار"من رام الله إلى فرنسا ؟ فالدكتور الكردي يعرف السجل الكامل الصحي للرجل، وفي هذه الحال بالذات كان وجوده ضرورياً. هذا مع تسجيل التقدير للبعثات الطبية التي قدمت من مصر ومن تونس متطوعة لكن تبقى الأولوية للطبيب الخاص. فلماذا تم استبعاد الدكتور الكردي عن فترة العلاج في باريس وعدم مشاركته في تحليل دم الرئيس عرفات، والذي فهمناه من المقيمين على المستشفى أنه لا يعاني من سرطان الدم لوكيميا. ثم توقف إعطاء المعلومات عن حقيقة المرض الذي اختطف حياة الرئيس الفلسطيني بفترة زمنية تقل عن أسبوعين؟ - ثالثاً: لقد استخدمت السيدة سهى عرفات القانون الفرنسي الذي يمنع أحقية وأفضلية الحصول على المعلومات عن المريض إلى أقرب شخص له. ويقال أن إدارة المستشفى العسكري التي قدمت كل التسهيلات لعرفات وعائلته وزواره بناء على تعليمات عليا، سلمت السيدة سهى عرفات ملفاَ يتضمن السبب الحقيقي الذي أدى إلى وفاة الزعيم الفلسطيني. ولأن الرجل شخصية عامة فمن حق الناس أن تعلم هذه الحقيقة وبالتحديد من مصدر فلسطيني. - رابعاً: كيف سمح القادة من أبو مازن إلى أبي العلاء إلى سائر الوجوه الفلسطينية البارزة بدفن جثمان ياسر عرفات من دون الإصرار على تشريح جثته قبل إتمام مراسم الدفن خصوصاً أن الجثمان بعد مغادرته القاهرة أثر المأتم الرسمي المهيب بحضور جميع الزعماء العرب من اختلف معهم ومن اتفق معهم ياسر عرفات، قد أصبح في عهدة الفلسطينيين، وكان الواجب يقتضي كشف السر الكبير والموافقة على تشريح الجثة لمعرفة أسباب الوفاة. فلماذا لم يحدث هذا الحماس الفلسطيني إلا بعد الضجة الإعلامية التي أثيرت ودفعت السلطة البديلة الموقتة لأن تطلب من سلطات المستشفى الفرنسي ملف وفاة الرئيس عرفات؟ ونصل بعد كل هذه التساؤلات الشرعية المشروعة إلى حقيقة معينة لا يريد الكثير من الفلسطينيين والعرب الاستماع إليها، ربما لأننا لم نتعود المصارحة والمكاشفة وقبول الحقائق كما هي. وتقول المعلومات وهي غربية المصدر أن التكسر الذي أصاب صفائح دم الرئيس عرفات نجم عن مادة معينة فيها"نوع معين"من السم الذي يعمل على فصل الكريات الحمر عن الكريات البيض بسرعة مذهلة ومخيفة. وتضيف المعلومات"وهنا الجانب الأخطر"أن دوراً إسرائيلياً وفلسطينياً قد شارك في وضع النهاية لحياة الرئيس عرفات وذلك عن طريق تزويد بعض المسؤولين عن إعداد الغذاء والطعام للرئيس الفلسطيني من قبل أطراف إسرائيلية. وتنتهي المعلومات إلى طرح الشكوك بأن عرفات قد توفى ب"تهريب إسرائيلي وتسريب فلسطيني"!؟ ونحن ننشر هذه المعلومات على ذمة مصادرها الديبلوماسية الغربية وننتظر النفي أو التأكيد لحسم هذه المسألة. فأن يرحل زعيم بحجم ورتبة ياسر عرفات من دون معرفة السبب الحقيقي لوفاته ليس له أي تبرير تحت أي شعار. ونرجو أن يوفق ناصر القدوة أبن شقيقة عرفات في مهمته بالحصول على الملف الطبي الكامل هذا إذا أعطي له كاملاً وإلا تكون هذه المهمة في ذمة السيدة سهى رفيقة درب ياسر عرفات مع النتاج الجميل الصبية زهوة 9 أعوام التي وقفت مذهولة وهي تشهد مراسم نقل جثمان والدها إلى مثواه الأخير من دون أن تتمكن من مواكبته إلى مقره الأخير في رحلته الأخيرة إلى رام الله. ونصل إلى السؤال الأكبر الآخر، وهو: لماذا هذا السعي إلى التخلص من ياسر عرفات؟ والجواب ليس صعباً أو معقداً عندما نعلم أن آرييل شارون حاول مراراً وتكراراً الإجهاز على الرئيس الفلسطيني وتصفيته جسدياً لكنه كان يمنع في اللحظات الأخيرة من قبل الأميركيين. ثم عمد إلى فكرة الحصار وهي ذلك النوع من الموت البطيء والذي أمضى فيه الرئيس الفلسطيني فترة ثلاث سنوات من دون ان يتمكن من مغادرة مكتبه في المقاطعة. أليس هذا النوع من السجن المؤبد ذلك الاغتيال التدريجي لصحة عرفات ومعنوياته؟ يضاف إلى كل هذه الاعتبارات النفخ الأميركي في قِرَب الرئيس جورج دبليو من أن وجود ياسر عرفات هو العقبة الرئيسية أمام السلام وخير الفلسطينيين بين الدولة أو ياسر عرفات؟! والآن ماذا حدث؟ لقد غاب الزعيم الفلسطيني أو تم تغييبه عن المسرح العام والذي شغله لفترة تزيد على أربعة عقود، فهل سيتم تعبيد الطريق لقيام الدولة الفلسطينية! وفي برقية العزاء البروتوكولية التي بعث بها الرئيس الأميركي والذي لم يذرف الدموع الكثيرة على الفقيد، حرص على القول بأن رحيل ياسر عرفات يعتبر"فرصة تاريخية أمام التوصل إلى حلول للأزمة"، وأن الطريق أصبح ممهداً أمام فريق فلسطيني جديد لإجراء حوار معه حول المرحلة المقبلة. لكن الرئيس بوش كان في عجلة من أمره، إذ أعلن في واحد من خطبه التي قدم فيها بعض التعيينات في إدارته الجديدة"أن الدولة الفلسطينية يمكن أن تقوم العام 2009"في حين أن المتوقع كان في مطلع العام القادم 2005 عملاً بما ورد في"خريطة الطريق". هل من أحد يذكرها بعد؟ وهكذا يتأجل الحلم الفلسطيني أربع سنوات جديدة دون أي ضمان. فأي صدقية للوعد الأميركي الجديد إذا كانت كافة الوعود السابقة قد جري نقضها والتراجع عنها حتى من دون إبداءَ الأسباب والموجبات لذلك؟ ثم أن رحيل عرفات المفاجئ أوقع العديد من الأطراف الفلسطينية في حيرة من أمرها بشأن الاتفاق على المرحلة المقبلة. وكان كثير من المراقبين استبشر خيراً بتأمين انتقال سلطات وصلاحيات الرئيس عرفات إلى كل من محمود عباس أبو مازن وأحمد قريع أبوعلاءَ وروحي فتوح كرئيس مؤقت للسلطة الوطنية خلال فترة الستين يوماً والمقرر أن تجري خلالها الانتخابات العامة والتي جري تحديدها في التاسع من كانون الثاني يناير العام 2005 بسلاسة، لكن الخلافات والتعدديات التي برزت بين كل فصيل فتح على سبيل المثال وبين الفصائل الأخرى بعضها مع بعض كحركة"حماس"و"الجهاد الإسلامي"و"الجبهة الشعبية"لا تبشر بأن مثل هذه التعددية سيبقي دائما تحت مظلة الديموقراطية، مع أننا نأمل ونرجو ذلك. لأن الاختبار الكبير أمام الفصائل الفلسطينية كافة بدون استثناء هو مدى تحقيق قدر حقيقي وفعلي وصادق ومهم من وحدة الموقف الفلسطيني، وهو السلام الأمضى الذي يمكن أن يتمنطق به الفلسطينيون سواء في تعاملهم مع إسرائيل شارون أو مع الإدارة الأميركية الجديدة - القديمة. والملف الفلسطيني - الإسرائيلي سيعرف آخر محطة له في عهد الوزير كولن باول بعد بضعة أيام عندما يحضر إلى المنطقة في آخر زيارة له بعد استقالته، وعلى هامش مشاركته في مؤتمر شرم الشيخ حول العراق وبعد ذلك سينقل هذا الملف بكامله إلى سيدة الخارجية الأميركية الفولاذية كوندوليزا رايس والتي حيرت بعض المراقبين أين يضعونها في التصنيف العام داخل إدارة بوش: هل بين الصقور المتشددين؟ أم بين الحمائم المعتدلين؟ أم هي في واحدة بين المنزلتين، وأنا بتواضع أرجح هذا الاحتمال الأخير. على أن العمل الديبلوماسي يقتضي بالدرجة الأولى من الجانب العربي عدم اتخاذ موقف سلبي سبق من تعيين الدكتورة رايس وزيرة للخارجية الأميركية، والأنجع من ذلك هو العمل على كيفية بناءَ حوار يعتمد على علاقات متوازنة تحكمها المصالح المشتركة وفي هذا الكسب السياسي المشروع بالإضافة إلى التبادلات الاقتصادية التي ترسي العلاقات على قواعد ثابتة. بعد رحيل ياسر عرفات عهد انقضى ولن يعود بالتأكيد. فالرجال التاريخيون لا يتكررون بسهولة. لكن الثورات الخصبة كالثورة الفلسطينية لن تحرم من رجالات وأشبال يجمعون ما بين خبرة النضال وتجاربه القاسية وبين اندفاعة الشباب التي تقدم التضحيات الشخصية والبشرية. ويبقى المطلوب إجراءَ مراجعة جذرية من قبل خلفاءَ عرفات في المسؤوليات الفلسطينية لتحديد توجهات المرحلة المقبلة من النضال مع إسرائيل.والأهم هو توحيد البندقية الفلسطينية ووضع الحوارات الإيديولوجية والعقدية جانباً حتى لا يعطي شارون المزيد من الفرص لحصد المزيد من أرواح الفلسطينيين يومياً. وهناك مقولة كان يرددها بعض العرب المهزومين : لقد خسرنا الأرض لكننا حافظنا على النظام! وبئس هذه المقولة. ومع رحيل ياسر عرفات يجب أن يقال: خسرنا النظام والدولة ولم نستعد الأرض بعد. ومرة أخرى: كيف مات ياسر عرفات؟ شقيقه الدكتور محسن عرفات صرح أمس السبت بأن وزير الخارجية الفرنسي بارنييه أبلغه شخصياً في باريس يوم الوفاة"أنه ليس من مصلحة الفلسطينيين الإصرار على إعلان سبب الوفاة في الوقت الحاضر". ومثل هذا الكلام يزيد من حالة الحيرة والغموض. * كاتب لبناني.