بيروت – منى حمدان* "يريدونني أسيراً أو طريداً أو قتيلاً، وأنا أقول شهيداً، شهيداً شهيداً"، تصريح أطلقه الرئيس الفلسطيني الراحل من مقر حصاره في رام الله عام 2001، حيث أمضى حوالي ثلاث سنوات تحت الاقامة الجبرية، ولم يبرح مقرّه إلاّ للعلاج في مستشفى فرنسي حيث أسلم الروح. صباح يوم الخميس 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2004، أعلن رسمياً عن وفاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في مستشفى "بيرسي" في باريس. ومنذ ذلك اليوم لم تهدأ الأصوات المتهمة لإسرائيل باغتيال الزعيم الفلسطيني بالتسميم له، لم يتقبّل أغلبية الفلسطينيين فكرة موت رجل ك"أبو عمار" بطريقة طبيعية!. وتكتسب الذكرى التاسعة لرحيل رمز القضية الفلسطينية معنى إضافياً هذا العام، إذ تأتي غداة ظهور تقرير سويسري "يؤكّد تعرّض عرفات لمادة البولونيوم 210" القاتلة. وفي ذكرى الرجل الذي شغل الناس في حياته، وبعد سنوات على رحيله، دعا ناصر القدوة، ابن شقيقة أبو عمّار إلى نقل ملف التحقيق في وفاته الى الجمعية العامة للأمم المتحدة. عرفات مات مسموماً! في 6 تشرين الثاني/نوفمبر 2013، أفاد خبراء الطب الشرعي السويسريون، الذين حللوا الأغراض الشخصية للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، أنهم عثروا على مستويات قاتلة من "البولونيوم-210" في عينات أًخذت من جثة عرفات. رحلة البحث عن حقيقة وفاة القائد الفلسطيني استمرت أكثر من عام. بدأت في تموز/يوليو عام 2012، حين بثّت قناة تلفزيونية وثائقياً عن عرفات، في الذكرى الثامنة لرحيله، خلص إلى أن "معهد الأشعة الفيزيائية" في لوزان السويسرية، عثر على كمية غير عادية من البولونيوم، بعد تحليل عينات بيولوجية من الأغراض الشخصية لعرفات، سلّمها المستشفى الفرنسي إلى أرملته سهى. فعاد الحديث عن "اغتيال" رمز القضية الفلسطينية إلى واجهة المشهد الفلسطيني والعربي. ودفع الشريط الوثائقي السلطات الفرنسية إلى فتح تحقيق جنائي في قضية وفاة عرفات، فأعلن معهد "الفيزياء الاشعاعي" في لوزان أنه سيبدأ فحوصاً مخبرية على رفات الزعيم الفلسطيني الراحل، بعد أن نال موافقة أرملته سهى عرفات، أدى في وقت لاحق إلى سماح السلطة الفلسطينية نبش قبره واستخراج ستين عيّنة من رفاته، وتسليمها إلى علماء طب شرعي من فرنسا وسويسرا وروسيا. وفور تأكيد الخبراء السويسريين أن نسب البولونيوم التي عثر عليها في رفات عرفات "تشير إلى توّرط طرف آخر"، تبادلت السلطة الفلسطينية وإسرائيل الاتهامات حول "اغتيال" قائد الانتفاضة الفلسطينية. واتهمت "حماس" إسرائيل بقتل عرفات، في حين طالب مسؤولون فلسطينيون بتشكيل لجنة دولية للتحقيق في وفاته، وأعلنت السلطة الفلسطينية أنها تدرس الخيارات القانونية بعد الكشف عن موت عرفات اغتيالا. أما في إسرائيل، التي نفت أن تكون قد قتلت عرفات، فقد ظهر من يتهم زوجته سهى بقتله. من هو ياسر عرفات؟ يتفق مؤيدو الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ومنتقدوه على أنه رمز القضية الفلسطينية. فهو رجل كرّس حياته لخدمة هذه القضية، عمل على المطالبة بحق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره، وقاد الكفاح المسلح من بلدان عربية عدة منها الأردنولبنان وتونس. ولد عرفات في القاهرة في 24 آب/أغسطس عام 1929. ورغم أنه عُرِف باسم ياسر عرفات، فإن اسمه الحقيقي هو محمد عبد الرحمن عبد الرؤوف القدوة الحسيني. كان والده تاجراً فلسطينياً عاش في مصر ومات بعد 20 عاماً من مولد ياسر عرفات، ويحيط الغموض ببعض تفاصيل فترة شبابه. اتخذ اسم "ياسر" وكنية "أبو عمار"، أثناء دراسته في كلية الهندسة بجامعة القاهرة، إحياءً لذكرى مناضل فلسطيني قتل وهو يكافح ضد الانتداب البريطاني. ظهرت مواهبه في القيادة منذ سنوات شبابه المبكر كناشط وزعيم سياسي. وقد انجذب في البداية إلى جماعة "الإخوان المسلمين"، لكنه سرعان ما اعتنق فكر الكفاح المسلح ضد إسرائيل عقب "نكبة" عام 1948، وقيام دولة إسرائيل فوق ما يزيد عن 70 في المئة من مساحة فلسطين. بعد ذلك بفترة قصيرة، أسس عرفات سراً حركة "فتح"(عام 1959)، مع عدد من الناشطين الفلسطينيين الذين كانوا يعيشون في الشتات. وكشف عرفات في ما بعد عن قيامه في ذلك الوقت بجمع بنادق من مخلفات الحرب العالمية الثانية من الصحارى المصرية لتسليح حركته. منح عرفات عام 1956 رتبة ملازم في الجيش المصري، وشارك في حرب السويس من العام نفسه. واكتسب أثناء خدمته في الجيش المصري خبرة في العمليات العسكرية، واستخدام المتفجرات، أهّلته لقيادة الجناح العسكري لحركة فتح الذي عرف باسم "العاصفة"، وبدأ عملياته عام 1965. وقامت عناصر العاصفة بشن هجمات على إسرائيل من الأردنولبنان وقطاع غزة الذي كان يخضع للحكم المصري. عام 1969 انتخب المجلس الوطني الفلسطيني ياسر عرفات رئيساً للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، فكرّس منذ ذلك اليوم تطبيق سياسة المقاومة المسلحة لتحرير فلسطين. في 13 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1974 دخل إلى الساحة الديبلوماسية من بابها الواسع، من الأممالمتحدة. يومها ألقى خطاباً اعتُبر تاريخياً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة قال فيه: "جئتكم بغصن الزيتون مع بندقية الثائر، فلا تدعو غصن الزيتون يسقط من يدي.. الحرب تندلع من فلسطين والسلم يبدأ من فلسطين". وبعد أن عاش عرفات اثنين وستين عاماً من حياته رافضاً الزواج مكرّساً وقته للثورة الفلسطينية وهموم شعبه، فاجأ "الختيار"، وهو اللقب الذي أطلقه عليه الفلسطينيون، العالم عام 1991 بالزواج من مستشارته سهى الطويل التي كانت تبلغ من العمر يومها 27 عاماً، وانجب منها فتاة. وفي مقابلة مع "الحياة" قالت سهى: لم أتزوج ياسر عرفات، تزوجت أيضاً الرمز والوطن والقضية. عاش الزعيم الثائر متنقلاً بين مصر، الأردن، لبنان وتونس، حتى الأول من تموز/يوليو عام 1994، ذلك اليوم الذي اعتبر تاريخياً في حياة عرفاتوالفلسطينيين، يوم عاد إلى غزة تطبيقاً للاتفاق الفلسطيني – الاسرائيلي، الذي كان قد تم التفاوض عليه، سراً في أوسلو، تحت رعاية الأميركيين، والذي عُرف في ذلك الحين باتفاق "غزة - أريحا أولاً"، وبدأ مسيرة سلام مرت بصعوبات بالغة. هو السلام الذي قال عنه عرفات، في مقابلة مع "الحياة"، إنه "أصعب من الحرب". وفي السنة نفسها فاز بجائزة نوبل للسلام بالمشاركة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين وشيمون بيريز، رئيس حزب العمل الإسرائيلي في ذلك الوقت. وبحلول عام ألفين توقفت تماماً عملية السلام، واشتعلت انتفاضة الأقصى ودخل الفلسطينيون والإسرائيليون في حلقة دامية من أعمال العنف. في كانون الأول/ديسمبر 2001، وعقب وقوع سلسلة من الهجمات الانتحارية الفلسطينية، قامت الحكومة الإسرائيلية بقيادة آرييل شارون، خصم عرفات القديم واللدود، بفرض حصار عسكري عليه داخل مقره في مدينة رام الله بالضفة الغربية. وكان رد فعل أبو عمار على حصاره إعلانه أنه "يتوق للشهادة"، مطلقاً عبارته الشهيرة "يريدونني أسيراً أو طريداً أو قتيلاً، وأنا أقول شهيداً، شهيداً شهيداً". في حزيران/يونيو عام 2002، اشترط الرئيس الأميركي جورج بوش تغيير القيادة الفلسطينية ورحيل عرفات لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، فكان رده: "لا أحد سيطردني من الأراضي المحتلة". الأيام الأخيرة في تشرين الأول/أكتوبر 2004، ظهرت علامات التدهور الشديد والسريع لصحة "الختيار"، الذي نقل في نهاية الشهر عينه، إلى مستشفى بيرسي في فرنسا، على متن طائرة مروحية. هناك بقي أقل من شهر في قسم العناية الفائقة، إلى أن أعلنت وفاته في 11 تشرين الثاني/نوفمبر. ونقل جثمانه في اليوم التالي إلى القاهرة حيث أقيمت له جنازة مهيبة شارك فيها عدد كبير من رؤساء وقادة الدول العالم العربية والأجانبة، ثم نقل بواسطة مروحية مصرية إلى رام الله حيث دفن، بعد رفض إسرائيلي قاطع السماح بتحقيق "وصية" أبو عمار بأن يُدفن في القدس. نجا الزعيم الفلسطيني من الموت عشرات المرات، إلا أنه في المرة الأخيرة خانته القوة والقدرة على المقاومة، فترك العالم يتساءل عمّن قتل الرجل، الذي أراد أن يموت شهيداً!. *إعداد