أمعنا، أبعد فأبعد، في الخريف. لم أنتبه الى حلول الفصل الذي اذا تنشقنا فيه الهواء ملء رئتينا، تسبب لنا البرد بوخز خفيف بين ضلوعنا. وبات العثور على عنب الكولمان امراً محفوفاً بالصعوبات. لم يبقَ أمامي الا ا ن أوصي على عنب الخيم في قسم الخضار والفواكه في الطبقات السفلية من المخازن الكبرى. ولما كنت أقصدها يومياً صار الباعة يعرفونني، فلا يكد يلمحني احد منهم حتى يهرع الي مبتسماً، حاملاً صندوق الكرتون المزيّن برسوم عناقيد العنب. - انظري، أليس جميلاً هذا الكولمان؟ كانوا يقولون بتفاخر وهم يرفعون غطاء الصندوق لكي يتاح لي ان أعاين العناقيد. فبالنسبة لي كان العنب ثميناً كتذكرة دخول الى غرفة أخي. في أعقاب زيارة يوم السبت، يستعيد جناح المرضى سكونه المعتاد. كان أخي جالساً على السرير منكباً على قراءة احدى المجلات الرياضية. عندما غلقت الباب ورائي، أهمل مجلته وأشار الي بيده. فوق غطاء السرير لمحت الصورة اللامعة للحظة التي حسمت الفوز في بطولة اليابان للعبة البايسبول للمحترفين. - آه. - أجل. كنا اعتدنا ان نتبادل التحية على ذلك النحو المخيّب. وضعتُ علبة العنب في الثلاجة. لم ألحظ في داخلها سوى زجاجة مرطب للأوعية الشعرية. وكان أخي قد أخبرني انه يبقيها هناك لأن استعمالها وهي باردة يمنحه بعض الانتعاش. كانت الثلاجة، الخالية من اي أطعمة لا جدوى منها، مشرقة لا بل ساطعة اللمعان. - أعاني من التهاب حاد في غشاء الفم فأكاد لا أقوى على الكلام. أشعر بأن فمي ليس جزءاً مني. استدار نحوي وفتح فمه قدر استطاعته. فعل ذلك ببادرة صبيانية محببة بحيث لا أعير الامر من الاهتمام أكثر مما ينبغي. - يجب ان تُطلع الطبيب على ما تعانيه. فلا شيء يدعوك لتحمل كل هذا. لن تحتاج الى أكثر من علاج بسيط، قلت له بنبرة متفائلة. فأطبق فمه موافقاً، منصاعاً. أثناء الهنيهات التي أعقبت ذلك لم يبادر أحدنا الى الكلام. انصرف مجدداً الى تقليب صفحات مجلته وانكب بوداعة على قراءة جدول الترشيحات الفردية للسباق على الكأس. فيما لبثت جالسة على الأريكة بلا حراك. كانت الغرفة الخارجة للتو من عناية المرأتين بالخدمة أكثر اشراقاً ونظافة من المعتاد. هنا لا أشعر بوطأة الوقت اذا لم أجد ما أفعله. ففي وسعي البقاء لساعات من دون ان أفعل شيئاً. اذ يكفي ان أراقب أخي مستمتعة بنظافة غرفته التي لا تضاهى لكي أشعر بالرضى. كنت أجد الامر مستغرباً بعض الشيء، ان أتمكن من البقاء وحيدة، ومن دون مشقة، بقرب شخص ما، أسيرة مكان ضيّق لساعات طويلة، من دون ان أكلم احداً. أنفاسنا، ونبضنا والذبذبات المنبعثة من جسدينا، كانت تبدو في تناغم تام فلا حاجة بي الى التفكير في ما لا جدوى منه. عندما أكون جالسة الى الطاولة قبالة زوجي عند الثالثة فجراً أفكر في ما لا يحصى من الامور التافهة. ودائماً تعاودني ذكرى السائل الذي يغطي قفازات اللاتكس او النمال الناغلة داخل فمي. ولكن اثناء وجودي في الغرفة لا أشعر بضيق ابداً. * حلّ الشتاء مباغتاً، وكان اخي يزداد وهناً وحالته الصحية في تدهور متسارع، حتى اصبح، في آخر المطاف، عاجزاً عن أكل العنب. وحده سائل بلون العنبر او النبيذ يحقن، بمشقة، في عروقه، وينقط، قطرة قطرة، من أكياس صمغ اصطناعي، كأنه صلب. بعيد اعمال التنظيف الدؤوب، كانت الممرضة تأتي بالأكياس المملوءة بالسائل، والأنابيب المزودة بمغارز عند اطرافها، وبرزمة من الاكياس الصغيرة التي تحتوي إبراً مفرغة. وكانت تنصرف الى نزع الضمادات اللاصقة ووصل المغارز، وضبط وتيرة النقط. على ذراع أخي، الهزيلة البيضاء كأن لا قطرة دم واحدة تجري فيها، كانت تشد رباط الكاوتشوك لكي تبرز الأوعية الدموية، ثم تثبت الابرة والمغرز بضماد لاصق. حتى لو كنت ألبث طويلاً وأنا أراقب السائل ينقط قطرة قطرة حتى الدوار، كانت الاكياس دائماً تفرغ من محتواها فيتسرّب الدم الزهري الى مغرز الانبوب. عندئذ كانت الممرضة تعود الى الغرفة لتقوم ثانية بما قامت به في السابق ولكن بتتابع معكوس. اذ يلقى مباشرة بأكياس الصمغ الاصطناعي، والمغارز والإبر في مستوعب النفايات. لهذا السبب لم أعد مرغمة على فتح باب الحجيرة الثقيل حيث مستوعب النفايات. اذ لم يبق في الغرفة ما يتوجب رميه. في تلك السنة شهدت طوكيو موجة ثلج لم تشهده منذ عشر سنوات، وكان يتساقط يومياً بكميات لم يسبق لها مثيل. كانت تلك هي المرة الأولى التي اشهد فيها المدينة مكسوة بطبقة كثيفة من الثلج. ذات يوم، لدى نهوضي من النوم فوجئت بالثلجة الأولى. أثلجت طيلة النهار، وازداد الثلج غزارة وكثافة ولم يحل المساء حتى غطى كل شيء، السماء والهواء والريح. بعد ذلك تعاقبت أيام تليق ببلد ثلوج. وكانت نافذة الغرفة تومض بانعكاساته، حتى أثناء الليل. كان أخي الذي بات عاجزاً عن النهوض والسير، يسألني، وهو طريح الفراش، كيف أراه. فأحاول عندها ان أجيبه بالقدر الممكن من الكلمات. - أشبه بتساقط ما لا يحصى من بتلات الورد الأبيض. - كأن براعم البتولة تبعث من التراب. - هذا اليوم أشبه بالذرور، كأنه طحين. وأؤكد لك ان من يمشي عليه قد يغرق فيه. هكذا كنت أصفه له، وكان يلتفت الى النافذة ويجيب قائلاً: - آه، أحقاً؟ كنا نلبث مستغرقين في التأمل، هو يتأمل الثلج المكوّم على حافة النافذة، وأنا أتأمل خياله الذي صار أكثر فأكثر شفافية. كان عدد الطلاب يتناقص مع تزايد كثافة الثلوج. وبعد انتهاء الامتحانات كانت تنتظرنا عطلة طويلة، بل طويلة جداً. ولم يكن ذهابي الى المكتبة، بعد ظهر كل يوم سبت، ليخفف من وطأة وحشتها، اذ أجدها خالية تماماً . فأقوم بجولة على قاعة القراءة وقاعة الوسائل السمعية البصرية، فقاعة الأبحاث، ثم أنتقل الى قاعات الرفوف، كأنني في نزهة. كنت أكتفي بالتجوال في أرجاء تلك المكتبة لا أدري اذا كنت أود التفكير في شيء ما أو، على العكس، طرد كل الافكار من رأسي. أثناء تجوالي بين الأرفف، ولدى بلوغي الناحية المخصصة لحرف "إ" من قسم الأدب الأميركي المعاصر، غالباً ما كنت أصادف س. واقفاً هناك. لم يسبق لنا ان تواعدنا على اللقاء، كما أنني، في البداية، لطالما حسبت الأمر مستهجناً، ولكن نظراً لما يتمتع به من موهبة مميزة في مواساتي، كنت أوفر على نفسي طرح الاسئلة غير المجدية وأقضي بعض الوقت بصحبته. برهة من البساطة، نرشف خلالها فنجان قهوة في المطعم القديم خلف كلية ادارة الاعمال. كانت أرضية الشرفة التي أخليت من الكراسي والطاولات، مكسوة بالثلج، وما عاد ممكناً تناول القهوة عليها. اما في الداخل فكانت الحرارة خانقة وكم وددت ان أخلع سترة الصوف التي ارتديها تحت المعطف. الحديقة محتجبة تحت الثلج. ولا شيء يذكر بصفرة الجينكغو المرتعشة في مهب النسائم المنعشة. وكنت أشعر بأن الوقت الثمين المتبقي لأخي، ولي أنا، قد طمرته الثلوج على الرغم منا. - أعتقد أنهم غداً سيقفلون أبوابهم حتى الموسم الدراسي المقبل. - حقاً؟ سوانا، لم يكن هناك إلا شخص واحد، بدا انه استاذ، وقد فرد أوراقه وملفاته أمامه منكبّاً على تدوين بعض الملاحظات. اما النادلة فكانت متكئة بمرفقيها الى كونتوار الصندوق. - اذاً لن يسعنا بعد الآن ان نلتقي هنا. مع ان المكان محبب ورائع. حتى انني أتساءل اذا كان الموسم المقبل سيحل حقاً. يبدو لي ان ذوبان هذه الكمية الهائلة من الثلوج سيستغرق وقتاً طويلاً جداً، قلت وأنا أحدق في قطرات الماء السائلة على الزجاج. لا بد ان يحل في يوم ما. - ترى هل سيبقى اخي على قيد الحياة حتى ذلك الوقت؟ شبك ساقيه ثم فرّج بينهما تحت الطاولة، وحرّك قهوته بالملعقة، وفي النهاية لم يحِر جواباً. وهذا بالضبط ما أردته. فقط كنت أود ان أسمع كلماتي وهي تتكسر على صدره. - في الآونة الاخيرة بتّ أشعر بأن اللحظة باتت وشيكة. - م ... ماذا؟ - أخي... اللحظة التي ستشهد رحيل أخي. * مقطعان من رواية في عنوان "غرفة مثالية لرجل مريض" تصدر قريباً عن دار الآداب ترجمة بسام حجار .