في مقهى تحفة أشجار باسقة الطول كنت قد بنيت لي عادة في جوف الوقت القصير بتناول قهوتي الصباحية في هذا المقهى، أتناول إفطاري في مطعم الفندق وأرتشف قهوتي في هذا المقهى الذي أجد فيه شيئا من أفكاري تتوالد في ثنايا وقته وكانت هي تضع جسدها المتناسق على طاولة ليست بعيدة عني، بيني وبين موضع جسدها مساحة اتسعت لطاولة لتفصلنا وليبحر كل منا في بحر لا يشبه تلاطم أمواجه البحر الآخر، ارتشفت من قهوتي وفردت أمامي صحيفة لا تعرف هواء مدنيتي، لم أشعر بغرابة المكان يحتويني، لقد هربت من انفتاح الباب وانغلاقه وطواف الأوقات في مسيرة الأيام الماضية ففضلت هذه المدينة لارتوي منها شيئا من الانسجام والارتياح أخبار مدنيتي تلاحقني في هذه الصحيفة، لا استطيع أن أبعد أحرف مدينتي من الانغماس في تفكيري طويت الصحيفة جانبا وأرسلت نظراتي على مياه النهر لأرى الأشجار التي تحفه من كل جانب ولا يغيب عن نظري رذاذا النظر الذي يصنع مني بعداً عن مدينتي، لا أذكر في كل جلساتي بهذا المقهى أني قد ارتشفت من كأس الماء ما يروي ظمأي، دائماً أنثر بن قهوتي الممزوج بالماء في حلقي ليستقر في جوفي وأبداً لم أردف خلف قهوتي من ذلك الكأس ليأتي النادل يحمل ترسب البن في قاع فنجاني ويستأذن برف بعينه لي حول وضع كأس الماء على طاولتي لأمد له يدي مبدياً له عدم رغبتي فيه، دائماً يرف جفنه ودائماً أمد يدي... في لمحة عابرة لجسدها وجدت قهوتي ترتشفها، نظرت إليّ وكأنها تبحث عن تلك النظر عن تلك النظرة منذ بداية تولد عادتي في هذا المقهى، لم تكن الأيام تسمح لي برسوخ عادتي في هذا المقهى فالأيام الجميلة دائماً تخجل من سنين العمر لترحل بسرعة وكأنها قد اقترفت خطأ في حق العمر!!! تحسست بيدي على موضع قميصي العلوي، لمست قسوة وجود كرت مفتاح غرفتي واطمأنت نفسي قليلاً... - لا أعلم لماذا أفعل دائماً حركتي تلك حينما أخرج رغم معرفتي أن لديهم كرتاً آخر لغرفتي، قد أكون أبحث عن الأمان المفقود رغم وهمي به والمزروع في ثنايا تصرفاتي ومسافراً معهي لهذه المدينة. -...!!! استقمت واقفاً حينما قدم لي النادل ثمن فاتورة عادتي الصباحية ودائماً أزيد من رقم فاتورتي لأعطيه مجالاً ليسبغ ابتسامته لي عندما أدخل هذا المقهى...!!! قبل أن أنصرف من هذا المقهى لأخطي خطاي بجانب الواجهات الزجاجية لمحلات كثيرة تصطف بابتسامات من بها على الرصيف الطويل ألقيت عليها نظرة لأجدها ترسل لي نفس نظرتها الأولى لم أراها من قبل أو لم أنتبه لوجودها من قبل!!!... ولكنها رحلت بوجهها الممتليء قليلاً وشعرها الناثر على ظهرها وبلوزتها البيضاء إلى عقلي لترسم في كل التفاته تصوراً يحمل شبها لمواصفاتها!!. كل ما يعرض خلف الواجهات الزجاجية قد رأيته بالأمس، لا أهداف للشراء ولكن أبحث عما فقدته في مدينتي لأترك خطواتي تتخطى كل الخطوات دون أن أشعر أن هناك من يراقبني...!!! أوقفت خطواتي، ألتفت إلى الوراء، لأجد أن خطواتي قد سارت بي بعيداً عن مكان قهوتي الصباحية، كنت دائماً في مشواري الصباحي هذا أصل إلى الجسر الخشبي الذي يسقف النهر ويوصلني إلى الجهة المقابلة لجهتي ولكني عندما وصلت الجسر لم أدع خطواتي تنجذب لروتينها اليومي بهذه المدينة بل أقفلت راجعاً... متجهاً إلى المقهى الذي لا تزال طعم قهوته في فمي، في طريقي نحو المقهى وجدتها كما هي في نفس جلستها وخطفات نظراتها في خيالي وحينما حاذيت المقهى لفيت رأسي بلا شعور لمكانها ولم أجدها...!!! هذا الصباح لم أزحم فمي بلقيمات إفطاري كما درجت عادتي، كنت قد عزمت أمري منذ ليلة البارحة أن أغير من سيرة عادتي وأتناول إفطاري في ذلك المقهى الذي يحمل وجهها ونظراتها... «إنهن النساء... يغيرن كل شيء...»... ابتسمت لهذا الهاجس الصباحي وأنا أخطي خطاي نحو المقهى، جلست على طاولة مقاربة لطاولتي التي أعتدت عليها الأيام الماضية حينما وجدت طاولتي تغط بأجساد تمارس ما نويت فعله بتغير جذري لمسيرة عشرة أيام ماضية...!!! لم تفارق نظرات عيني مدخل المقهى ولا حتى طاولتها الخالية من جسدها، طلبت من النادل أن يحضر لي إفطاري بعدما قرأته من قائمة الإفطار التي أحضرها لي وكأساً من الشاي كما تعودت كل صباح في مطعم الفندق، نظر إلى باستغراب فلمحت له بابتسامتي ليرد على ابتسامتي بابتسامة عجلي... الوقت هنا يمر ببطء في انتظار موعد مجيئها، أو موعد رؤيتي لها، تناولت إفطاري الساخن وعيني تعيش نظراتها بين لقمتي والمقعد الخشبي العتيق الذي ينتظر احتضانا لجسدها، أسندت ظهري على ظهر المقعد وشكرت خالقي، أشرت بيدي للنادل الذي أتى لي مسرعاً حاملاً بوجهه نفس علامات الاستغراب وطلبت منه أن يحضر فنجان قهوتي المعتادة ككل صباح ريثما أبتاع صحيفتي العربية التي لا تعرف هواء مدينتي....... استقمت واقفاً وغادرت مكان المقهى بعدما تركت النادي يحمل أطباق إفطاري، مررت على طاولتها، لامست سطحتها براحة يدي متمنياً لحظتها لو كنت أحضن وجهها بعيني ويدي لا تلامس سطح الطاولة بل ما على الطاولة...!!! في طريقي نحو المتجر القريب لم تمل رقبتي من كثرة الالتفات لمدخل المقهى، كنت بكل ما أحمل من صدق مشاعري انتظرها...!!! بضع خطوات ووصلت إلى مدخل المتجر الذي اعتدت يومياً شراء صحيفتي العربية منه، كان الوقت مبكراً انتظرت ثوان حسب قول صاحب المتجر وجاء ذلك الوجه الأجنبي المحمر ملامحه والمنكوش شعره الذهبي حاملاً كل الصحف والمجلات لذلك المتجر، ابتسم بوجهي وألقى عليّ تحية الصباح بلغته، أومأت برأسي ونطقت له بكلمات بنفس كلمات لغته رداً على تحيته، انتظرت قليلاً ريثما انتهى صاحب المتجر من التوقيع على أوراق ذلك الوجه المحمرة ملامحه ومن ثم تصفيف الصحف المجلات على أرف المتجر ليسحب صحيفتي من بين الصحف ويمدها لي لأمد لامتداد يده قيمتها وأقفل خارجاً من متجره مصحوباً بابتسامته اتجهت نحو المقهى بخطى سريعة وجدتها جالسة على نفس طاولتها وعينيها تمسح طاولتي الخالية. مررت من جانبها مرتبكاً وكأني لم أراها، سحبت مقعدي ورميت جسدي عليه بسرعة. نظراتي ترتطم بنظراتها، كانت تتناول قهوتها الصباحية وعلى ملامحها إشراقة سكون، فردت صحيفتي أمامي، أتى النادل الذي زاد استغرابه من تأخري ووضع فنجان القهوة على طاولتي مع كأس الماء الذي يتوقع جيداً إنني لن أرتشفه، جفاف ريقي خيب توقعه، ارتشفت نصف كأس الماء ولم أرتشف قهوتي... إن هذا الصباح يحمل انتكاساً كبيراً في تصرفاتي وعاداتي...!!! كانت نظراتي تتراح لنظراتها التي لم تفارقني، استغربت كثيراً من ثبات نظراتها لوجهي...!!! ولأول مرة اتصفح صحيفتي وأمر مرور الكرام على خبر مكتوب بالبند العريض عن مدينتي دون أن يلفت انتباهي!!! ماذا فعلت هذه الفتاة بي؟...!!! كيف أسكنتني كل هذه التصرفات الجديدة علي؟...!!! تأملت بها وتأملت بي.. حفظت كل ملامحها واعتقد إنها رسمتني بإتقان في عقلها... طال جلوسي في المقهى على غير عادتي، شعرت بأن كل الموجودين في المقهى قد قرأوا كل أسطر نظراتنا، ليلة البارحة رسمت بها كل دقائق هذا الصباح... والآن عجزت أن أرى ما رسمته!! استصغرت نفسي كثيراً لعدم قدرتي على فعل أي شيء، هي هنا تنظر إليّ وكأنها تناديني وأنا هنا أراها ويعجزني الخوف عن فعل أي شيء، في وجهها لمحة جمال تجذبني إليها، لا تزال تنظر إليّ ولا زلت أنظر إليها، تجرأت وابتسمت لها، ولم تبتسم...!!! أحسست بشيء ما غريب في نفسي، رغبة غير ملحة في البكاء تقترب من عيني، وباعتيادية مسحت عيني، أدرت وجهي عنها وتركت نظراتها تتصفحني... دسست وجهي في صحيفتي التي لم أقرأ منها شيئاً... أفول توهج ابتسامتي أطاح بعقلي في أفكار غريبة، لم استطع أن أمنع نفسي من النظر لها ووجدتها لا تزال تنظر إلى...!!! لم تبتسم... لم تساعدني على طرد الخوف والارتباك... لم يكن هناك ما يشجعني على إيجاد كل أحلام ليلة البارحة على خريطة هذا الصباح... فجأة رأيت رجلاً كبيراً في السن يقترب منها، تأملته ملياً، شعر رأسه مبيض لا يسع لأي شعرة سوداء، كان حليق الوجه، متراكم التجاعيد، يحمل انحناء الزمن على ظهره، وقف بجانبها ومد يده بعدما همس لها بكلمات تمنيت أن تكون صراخاً في أذني، أشار بيده إلى النادل ودفع له ثمن قهوتها الصباحية، أمسك بيدها واستقامت واقفة،... تتحسس مكان مقعدها حتى لا تصطدم به، أمسك ذلك الأشيب بيدها ليقودها، استدارت ومدت يدها وعلقت نظراتها نحو مدى بعيد لا ترى فيه شيئا سوى السواد... كمدى نظراتها لوجهي!!.