نؤمن بأن الإنسان روح وجسد، ولكن عندما يخضع الطبيب جسم الانسان لأدق أجهزته وفحوصه وتحليلاته المخبرية، هل يستطيع أن يرى "الروح" فيه؟ طبعاً لا يستطيع. فأدواته بطبيعتها قاصرة عن هذه "الرؤية". ولكنا نقبل نتيجة فحوصه، ولا نستنكر عليه عدم رؤية الروح، ولا نكفره بل نشكره على دقته وأمانته، في حدود قدرته التشخيصية المحددة. ولكن، عندما يقوم الباحث في التاريخ والاجتماع، بأدواته البحثية المتوافرة لديه، بتحليل الجسم التاريخي المجتمعي ويكشف عن المؤثرات والعوامل الملموسة التي يستطيع رؤيتها في هذا الجسم، ويعجز بحكم قصور أدواته عن رؤية عالم الغيب، مقتصراً على عالم الشهادة، هل يجوز أن نستنكر عليه ذلك ونكفره، لأنه لم "يكشف" لنا عما نؤمن به من مغيبات تلقيناها إيماناً من تعاليم الدين، وهي تقع بطبيعتها فوق العقل الذي يستخدمه أي باحث في أية ظاهرة؟ كيف نتعامل مع هذه "الاشكالية" ولماذا نقبل من الطبيب ما لا نقبله من المؤرخ؟ إن طرح هذه الاشكالية والمناداة بحلها ليسا ترفاً ذهنياً. فالخطاب العربي الاسلامي السائد، برمته، ضحية هذه الاشكالية. يكتب باحثون اسلاميون في قضايا التاريخ والمجتمع الإسلامي من منطلق فهمهم الشخصي والقلبي للمعتقد الايماني ويتعاملون مع الظاهرة التاريخية الاسلامية من زاويتهم الايمانية الذاتية التي قد تختلف مع إيمان الآخرين في الدين الواحد بل في المذهب الواحد، وهؤلاء الباحثون أمناء مع أنفسهم ومع ما يعتقدون، ولكن للبحث العلمي منهجه المحدود والمحدد ولا يمكن إخضاعه لاعتبارات من خارجه أياً كان تساميها. ذلك أن سنن الله في خلقه واحدة لا تحابي مسلماً على غيره، ولا معتقداً إمانياً على آخر، ولا بد في البحث العلمي من مراعاة هذه السنن الإلهية - الطبيعية قدر الإمكان. "ولن تجد لسنّة الله تبديلاً"، فإن توافقت مع اعتقاداتنا وتفسيراتنا الذاتية للدين كان بها، وإلا فالحق أحق أن يتبع في نطاق البحث. ويبقى للاعتقاد مجاله وحرمته، في ما يتعدى "عالم الشهادة" أو نطاق البحث العلمي... يقرر العالم المسلم وحيد الدين خان في كتابه "الإسلام يتحدى"، من منطق الإيمان الاسلامي الراسخ: "في الكون سنن محكمة... وحتى المادة الجامدة لا يمكن أن تجري على غير نظام وإنما تتبع قوانين صارمة معلومة. واستناداً الى هذه السنن والقوانين الثابتة أصبح بإمكان العلماء التنبؤ بالوقائع الطبيعية المستقبلية... ما دام النظام الذي أودعه الخالق في الكون سائراً على ما هو عليه. وهذه الوقائع تشمل من الذرات الى الكواكب السحيقة في الفضاء...". وليس خافياً ان العقل المسلم في زمننا تعرض لشيء غير قليل من مغالطة مثل هذه الوقائع والحقائق عندما تمت تنشئة أجياله الجديدة على الاعتقاد بنزول الملائكة للحرب مع "المجاهدين" ضد الروس في أفغانستان وبقاء أجسادهم بعد الدفن زكية الرائحة، مما لم يقره الاعتقاد الديني الحق لأصلح الصالحين، كما اقتصر خبر نزول الملائكة على ما أثبته القرآن الكريم زمن التنزيل. وليس خافياً أيضاً انه على أساس مثل هذه الاعتقادات التي لم يقرها عقل ولا دين، تجرى اليوم أفعال القتل الحرام للنفوس البريئة. هذا مع التأكيد، من ناحية أخرى، ان المقاومة المشروعة حق أمام الاحتلال والعدوان. أما الباحثون المسلمون الآخرون ذوو الاتجاهات المصنفة "علمانية" أو علمية خالصة، فإنهم يتعاملون مع التاريخ الديني وظواهره باعتبارها ظواهر تاريخية بشرية بحكم قصور أدواتهم البحثية التي يستحيل أن تسبر أغوار الروح وعالم الغيب لدى أي باحث مؤمناً كان أم غير مؤمن، ولا يمكن أن يُلاموا في ذلك على الصعيد البحثي، لكنهم أمام الاعتبارات الاعتقادية السائدة لا يستطيعون طرح أفكارهم مباشرة وبصراحة بمعزل عن تلك الاعتبارات التي ينبغي أن تصان في نطاقها الخاص بها من دون أن تقحم أو يقحم عليها، فنراهم يغلفون أفكارهم بالكثير من الأدعية الدينية اللفظية والعبارات الاحترازية التي لا تتطلبها أساليب البحث العلمي والتفكير المستقل. وجميع من يقرأهم، بين السطور وفوق السطور، يرى أنهم يفكرون في حدود تلك الظواهر البشرية التاريخية... فحسب. هكذا يتولد لدينا بين أولئك وهؤلاء خطاب إسلامي مموه لا هو ديني خالص ولا علمي بحت، فتتوه أغراض الدين والعلم معاً، وتختلط اختلاطاً مشوهاً، فلا يسلم لنا أدب ديني يتسامى الى عالم الروح والغيب، ولا أدب تاريخي واجتماعي يقتصر على تلمس مواضع قدمه فوق تضاريس التاريخ والواقع. ولا بد للفكر الإسلامي المعاصر ليصبح قادراً على مواجهة التحديات العقلية والعلمية لهذا العصر من أن يصدر عن مستويين مختلفين من الخطاب: 1 خطاب إيماني وديني خالص، يلتقي مع العقل حيثما أمكن، لكنه يستقل ويتعالى عنه عندما يقتضي منهج الإيمان والغيب مثل هذا الاستقلال والتعالي، لأن طلب شهادة العقل في ما يتعدى قدرته بخاصة العقل الحديث كما سنوضح يضع العقيدة الدينية موضع التساؤل والشك. 2 خطاب عقلي يركز على معطيات الواقع في هذه الدنيا وهذا العالم ويساعد المسلم على التكيف مع واقعه، ولا يشرئب الى ما فوق ذلك من مغيبات تجنباً للخلط بين العنصرين المختلفين. سأل سائل ذات مرة أحد كبار "نقاد" العقل العربي عن هذه الإشكالية وهذا الخلط الضارب في صميم الخطاب الديني العربي، فما كان منه إلا أن رد بانفعال: "هل تشكك في عقيدتي؟!" وكأن عقيدته الشخصية هي مشكلة الأمة، وليس ازدواجية الخطاب الإسلامي برمته... فهل يستطيع منطق كهذا تأسيس خطاب جديد في مستوى العصر؟ أياً كان الأمر، فإن أكبر خطأ وقعت فيه التوفيقية العربية الاسلامية الحديثة إصرارها على أن الدين والعقل يتطابقان ويتفقان تمام الانطباق وتمام الاتفاق. فإذا كان الجانبان يلتقيان في مواضع مهمة من رؤية الحقيقة، فإنهما يختلفان في مواضع أخرى لا تقل أهمية وخطورة. وهذا ما دفع ناقداً فكرياً كالدكتور محمد النويهي الى توجيه مثل هذا النقد الى أبرز التوفيقيين المحدثين وهو عباس محمود العقاد الذي حاول اثباتاً لحقائق الغيب بمنطق العقل الخالص، بحسب تعبير النويهي: "الاكتفاء - بأنصاف الحقائق، والتهرب والمواربة، وغمط حجج الخصوم" بما قد يؤدي الى عكس المطلوب والانجراف الى "الإلحاد القاطع"! هذا إذاً إغفال منهجي بحق الدين والعقل معاً، أدى بدعاته أحياناً الى "تحايل" فكري لا يليق بأمانة الفكر والعلم من أجل إثبات تلك المقولة الخاسرة... وهي دعوى التطابق التام والمطلق بين العقل والإيمان: "ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً" - الآية. فهنا تساؤل الفهم البشري، وعماده العقل، عما يتجاوزه وهو الوحي الروح الأمين الذي هو من طبيعة مغايرة هي من أمر الله وعلمه... وعلينا ألا نحمل الدين والعقل أكثر مما يحتملان بتكرار شعار الإسلام دين العقل فهو دين العقل في ما يحتمله العقل، وهو دين الروح والوحي في ما يتجاوز ذلك، وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً. ومن واقع التجربة البشرية نشأ صراع حاد بين أنصار العقل وأنصار الإيمان في بداية الثورات العقلية والعلمية في أوروبا انتهى بطرفيه اللدودين الى الاعتراف بعقم ذلك الصراع والإقرار بالمكانة المشروعة للعقل والإيمان، كل في نطاقه، أي بضرورة التعايش بينهما كعنصرين يقوم بينهما اختلاف في الطبيعة والجوهر لا يمكن القفز عليه كما لا يمكن الإنسان أن يستغني عن أي منهما. ان العقل المسلم المعاصر المثقل بعبء النزعة التوفيقية مدعو الى الاقرار بهذا التمييز بين الإيمان والعقل، خصوصاً أن العقل الحديث قائم على منطق الديالكتيك والتناقض وليس كالعقل الفلسفي الاغريقي التوحيدي القائم على منطق الانسجام المستمد من المنطق الصوري الأرسطي، وهو ما وجد فيه التوفيقيون القدامى من فلاسفة الإسلام بغيتهم العقلية، وكانوا يسمون فلاسفته الاغريق ب"الفلاسفة الإلهيين" تأكيداً لمنطقهم التوحيدي المختلف كلياً عن منطق الديالكتيك الحديث الذي لا يمكن التوافق التام معه، إسلامياً أو مسيحياً أو دينياً بعامة، إلا بقدر كبير من "التحايل" الفكري، بخاصة في فكرة التوحيد. إن التوفيقيين الإسلاميين المحدثين الذين يحتفلون بعقلانية ابن رشد الايمانية يتحدثون في الواقع عن فصل غابر من تاريخ الفلسفة تجاوزه تطور العقل. فابن رشد الذي كان الشارح الأكبر لأرسطو، أقام فكرة توفيقه الحصري بين العقل والدين على أساس مفهوم العقل الأرسطي القائم على استحالة التناقض، أي الانسجام المطلق حيث أ لا يمكن أن يكون لا أ، وذلك جوهر الاختلاف بين منطق ارسطو ومنطق الديالكتيك الحديث الذي تأسس على جدلية العناصر... والتناقض الذاتي حيث أ يمكن أن يصبح لا أ بحكم توالد الشيء من نقيضه. هذه مسألة دقيقة في تطور المنطق، والعقل المؤسس عليه، لا بد للتوفيقية، أو بالأحرى "الوسطية" الإسلامية المحدثة من التنبّه اليه، والمبادرة بالتالي الى التمييز بين العقلي والديني، بخاصة على المستوى الغيبي وتأسيس خطاب ايماني توحيدي مستمد من روح العقيدة الاسلامية، أياً كانت طبيعة التطور اللاحق بالعقل والذي ينبغي تبيّنه في نطاق "عالم الشهادة" وهو المجال الطبيعي المشروع لعمل العقل. * مفكر وأكاديمي من البحرين.