في السابع من شهر آب اغسطس عام 1981 أعلن خادم الحرمين الشريفين فهد بن عبدالعزيز، وكان يومها ولياً للعهد، مشروعاً للسلام تضمن النقاط التالية: أولاً، انسحاب إسرائيل من جميع الأراضي العربية التي احتلت عام 1967 بما فيها القدس العربية. ثانياً، ازالة المستعمرات التي أقامتها إسرائيل بعد عام 1967 في الأراضي العربية. ثالثاً، ضمان حرية العبادة وممارسة الشعائر الدينية لجميع الأديان في الأماكن المقدسة. رابعاً، تأكيد حق الشعب الفلسطيني في العودة وتعويض من لا يرغب فيها. خامساً، توضع الضفة الغربية وقطاع غزة لفترة انتقالية تحت اشراف الأممالمتحدة ولمدة لا تزيد عن بضعة أشهر. سادساً، قيام الدولة الفلسطينية المستقلة بعاصمتها القدس. سابعاً، تأكيد حق دول المنطقة بالعيش بسلام. ثامناً، تقوم الأممالمتحدة أو بعض الدول الأعضاء فيها بضمان تنفيذ تلك المبادئ. وفي السابع عشر من شهر شباط فبراير عام 2002، أي بعد حوالى أكثر من عشرين عاماً، أعلن ولي العهد السعودي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، عبر إحدى الصحف الأميركية مبادرة، لعلها من أهم التطورات التي شهدتها القضية الفلسطينية عبر خمسين سنة. فقد عرض ولي العهد السعودي اعترافاً وتطبيعاً كاملين من جانب الدول العربية مقابل انسحاب إسرائيلي كامل من جميع الأراضي العربية المحتلة بما في ذلك القدسالشرقية. وبما أن ولي العهد السعودي قد قرر - في أعقاب الاهتمام العربي والاقليمي والدولي المتزايد بمبادرته - عرض المبادرة على مؤتمر القمة العربية المزمع عقده في بيروت في أواخر شهر آذار مارس الحالي، وحيث ان الملك فهد كان عرض مبادرته للسلام على قمتي فاس عامي 1981 و1982 حيث تبنتها قمة فاس الثانية بعد تعديلات طفيفة، فقد رأى كاتب هذه السطور أن يعيد نشر مقال له نشره في مجلة "الوسط" بتاريخ 6 حزيران يونيو 1994 وفيه عرض وتحليل للظروف التي سبقت ورافقت واعقبت مشروع فهد للسلام، وكيف أنه ما بين فاس الأولى التي انقسمت وفشلت في الالتئام لتبني مشروع فهد للسلام وفاس الثانية التي أقرته وتبنته، تم ضم الجولان وغزو لبنان في أقل من عام. والغرض من إعادة نشر المقال ليس عقد مقارنة بين المبادرتين اللتين تنتميان إلى عصرين مختلفين عربياً ودولياً. فقد تم ما بين عصر وعصر جلوس العرب مع الإسرائيليين إلى طاولة المفاوضات وتحقق السلام بين إسرائيل وأكثر من دولة عربية، ووقعت اتفاقية أوسلو وتعثرت وقام صدام حسين بغزو الكويت وضرب العراق، وقامت السلطة الوطنية الفلسطينية وتكاثف الاستيطان وزادت الطرق الالتفافية ومصادرة الأراضي، وجرت مفاوضات كامب ديفيد الثانية وقامت الانتفاضة، وجاء ارييل شارون حاكماً وكُسرت شوكة التفوق الإسرائيلي وتصاعد العمل الاستشهادي واعتقل زعيم الشعب الفلسطيني في مكتبه، وتلاشى الاتحاد السوفياتي وسقط حائط برلين وتوحدت المانيا وانتهت الحرب الباردة وتوجت أميركا زعيمة للعالم بلا منازع وسادت العولمة لإذابة ثقافات الشعوب في الصهريج الأميركي، وانفجر بركان 11 أيلول سبتمبر وقامت الحرب على الإرهاب وابتز المسلمون واضطهدوا وتحولت المقاومة إلى ارهاب بما فيها الانتفاضة. ومن ليس مع أميركا فهو ضدها. وعرف القاموس السياسي تعابير مبتكرة مثل "محور الشر". إن الهدف من إعادة نشر المقال هو دعوة إلى التبصر والاستفادة من تجارب الماضي. فالمشهد على المسرح السياسي العربي منذ مبادرة فهد حتى مبادرة عبدالله لا يزال على حاله وان ساءت بعض الجوانب فيه وتدهورت، فالوسيط الأميركي النزيه لا يزال منحازاً وغائباً وقد تحول إلى ثور هائج بعد 11 أيلول، والإرادة العربية مغيبة حتى الغيبوبة. والعجز العربي تكرس حتى أصبح من الخصائص المميزة لهذه الأمة. والمزايدات العربية مستترة ومعلنة ما زالت مستمرة تقول في الغرف غير ما تفصح في العلن. والفلسطيني الصامد المقاتل يقف وحيداً منسياً من قبل أقرانه العرب الذين يتفرجون عليه بانبهار واعجاب وهو يواجه الآلة العسكرية الإسرائيلية الهوجاء. والضربة الثانية للعراق تكاد تكون أكيدة ووشيكة. وكل من على المسرح يخضع إلى املاءات واشنطن حفاظاً على النظام والذات. ولا بد من التذكير في هذا المقام أنه عندما تبنت قمة فاس الثانية مشروع فهد للسلام شكلت القمة لجنة سباعية قوامها الجزائر والمغرب وتونس والسعودية ومنظمة التحرير وسورية والأردن، وذلك لنقل المشروع إلى الدول الكبرى. وقد عارضت أميركا آنذاك المشروع وأيدته أوروبا. ولكن المشروع ما لبث أن تلاشى كالأزاهر في الربى. فماذا يا ترى سيفعل العرب في قمة بيروت، هل سيختلفون كما اختلفوا في قمة فاس الأولى حول مشروع فهد للسلام؟ هل سيتبنون مشروع عبدالله للسلام بألفاظ بلاغية وانشائية رقيقة خالية من أي محتوى ثم ينفض السامر ويعود كل إلى بيته؟ هل سيتم تركيب أرجل ويدين للمشروع مع آلية تشكل أداة اقتحام ومواجهة ومخاطبة لكشف زيف ادعاءات إسرائيل حول السلام؟ هل ستبلور قمة بيروت في هذا السياق خطاباً سياسياً عربياً جديداً نخاطب به العالم ونغيّر بموجبه صورة العرب المزرية التي فرضت عليهم فرضاً بعد 11 أيلول بغطرسة أميركية ودهاء دعائي إسرائيلي؟ هناك مثل عربي قديم يقول: "الخيل الأصيلة لا تظهر إلا في آخر السباق"، فلعل وعسئ. وفي ما يلي نص المقال وقد نشر تحت عنوان: "القصة الكاملة لمشروع فهد للسلام": آن الأوان لوضع حد للغط الذي يظهر بين الفينة والفينة حول ظروف صدور المبادرة لتصحيح الوقائع ووضع المبادرة في اطارها التاريخي السليم تأليفاً ودوافع ونتائج ،وذلك تسهيلاً دقيقاً للباحثين والدارسين وتسجيلاً اميناً للاحداث التي سيعتبرها المؤرخون مستقبلاً جزءاً لا يتجزأ من تاريخ القضية الفلسطينية. ولا يغيب عن بالنا ان مبادرة الملك فهد بن عبدالعزيز للسلام قد تحولت في قمة فاس الثانية في ايلول 1982 الى مشروع عربي يمثل أول خطة سلام عربية لحل الصراع العربي - الاسرائيلي. من هنا أهمية تسجيل الوقائع كما عرفناها وعشناها لا كما تراءت لنا ونقلت الينا. وان كنت ابيح لنفسي هذا الدور فلأنني شاركت منذ عام 1977 وحتى عام 1982 في جميع الاجتماعات الفلسطينية - السعودية على أعلى مستوى. ولست أنسى وانا اذكر عام 1982 انني كنت اجلس بجانب الأخ أبو عمار في صالون مطار الرياض يوم 5 حزيران يونيو 1982 حين دخل أحد مرافقيه العسكريين بعد دقائق من هبوط الطائرة وقدم له ورقة تقول ان هجوماً اسرائيلياً قد بدأ على جنوبلبنان. ويومها التفت اليّ أبو عمار وقال: "هذا ليس هجوماً بل اجتياح شامل". وقابلنا خادم الحرمين الشريفين وبعد مشاورات مطولة اقترح الملك فهد على أبي عمار ان يبقى خارج لبنان حتى يحتفظ لنفسه بحرية الحركة. ولكن أبو عمار اصر على العودة ليكون مع المقاتلين وفي وسطهم كما قال. وقفل عائداً الى بيروت عبر دمشق بعدما كلفني البقاء في الرياض للتنسيق. وانا في هذا العرض سأسمح لنفسي بكشف بعض ما سمعت وعايشت تكريساً للحقيقة واحتراماً لها وذلك من أجل القاء الضوء على مبادرة السلام السعودية والظروف التي احاطت بها. بادئ ذي بدء أود ان اقرر انه ليس للفلسطينيين بعكس ما قيل وتردد اية علاقة مباشرة أو غير مباشرة بصدور "مشروع فهد للسلام". فالمشروع وضعه الرجل الذي يحمل المشروع اسمه. والقيادة الفلسطينية لم تطلب من المملكة السعودية اعلان المشروع ولم تستشر قبل صدوره، وان احداً من المسؤولين الفلسطينيين لم يساهم في صياغته. وانا اعلم علم اليقين ان الاخ الشهيد أبو اياد لم يساهم في صياغة المشروع ولم يعلم بصدوره الا من وكالات الانباء مثله مثل غيره. فمشروع السلام عمل سعودي صرف أملته اهتمامات دولة عربية كالسعودية بالقضية الفلسطينية. والبحث في المبادرة السعودية بين الطرفين الفلسطيني والسعودي بدأ فقط بعد صدورها ولم يجر أي حديث بشأنها قبل ذلك. وقد توسع البحث في المبادرة بين الطرفين قبل انعقاد قمة فاس الاولى في تشرين الثاني نوفمبر 1981. والقيادة الفلسطينية لم تؤيد المبادرة لاعتبارات تحالفية عربية في ذلك الوقت. بل ان القيادة الفلسطينية عارضت المبادرة في مؤتمر وزراء الخارجية العرب الذي عقد في فاس قبل القمة. اما بالنسبة للدوافع الكامنة وراء صدور المبادرة فان الهجوم الاسرائيلي المحتمل على لبنان كان اعتباراً حاضراً دوماً في جميع الحسابات السياسية ولكنه لم يكن الاعتبار الوحيد. وحتى نعرف دوافع المشروع لا بد أولاً من القاء نظرة على الموقف السعودي من اتفاقيتي كامب ديفيد ما عبر عنه الملك فهد في حديث صحافي في منتصف شهر ايار مايو 1979. ففي معرض رفضه للاتفاق اورد الملك فهد الاسباب التالية: أولاً: يسقط حق الشعب الفلسطيني في العودة والاستقلال. ثانياً: يهمل مدينة القدس وما تمثله من قيمة دينية وتاريخية ومعنوية. ثالثاً: يتجاهل منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. رابعاً: يكرس الوجود الاسرائيلي العسكري في الضفة والقطاع وهضبة الجولان. خامساً: يبقي على المستعمرات الحالية ويشجع اسرائيل على بناء المزيد منها. سادساً: يعطي اسرائيل حقاً قانونياً في استمرار السيطرة على المياه والأرض في الضفة والقطاع. سابعاً: يتنكر لأكثر من نصف الشعب الفلسطيني الذي يعيش في المنفى. وعلى رغم مرور حوالى خمسة عشر عاماً على هذا الحديث الصحافي، إلا أن معظم النقاط الواردة في الحديث ما زالت معلقة تنتظر الحل الذي استعصى عليها كالقدس والعودة والاستقلال والمستوطنات والمياه. وهذه القضايا هي التي شكلت في ما بعد صلب "مشروع فهد للسلام" الذي ما زال حتى اليوم يمثل القضايا الاساسية التي سيتم بحثها بعد عامين وهي الاستقلال والقدس والمستوطنات وحق العودة. إن مشروع فهد للسلام املته مجموعة من الاعتبارات والتطورات في المنطقة تشمل مصر وسورية ولبنانوالعراق واسرائيل وفي مقدمها زيارة الرئيس السادات لإسرائيل واتفاقيتا كامب ديفيد اللتان اعقبتا الزيارة. فقد انسلخت مصر اقوى البلاد العربية عن الجسم العربي السياسي وتمزقت الأمة من هول الصدمة، واشتد التحدي العربي والفلسطيني لاسرائيل التي ازدادت غطرسة وبطشاً في ظل قيادة مناحيم بيغن وسيطرت على العالم العربي موجة من الضياع الفكري والسياسي واصبح السؤال: اذا كنتم ترفضون كامب ديفيد فما هو البديل لديكم؟ في ظل هذه الاجواء وبينما كان الرئيس السادات في زيارة لواشنطن لتنشيط العمل باتفاقيتي كامب ديفيد اعلنت "مبادرة فهد للسلام" يوم 7/8/1981. وقد لخص الملك فهد الدوافع وراء مشروعه في حديث الى وكالة الانباء السعودية بتاريخ 3/11/1981 على النحو التالي: أولاً: راعينا صدور اعلان المبادئ خلال وجود الرئيس السادات في واشنطن ليعمل على احياء اتفاقيتي كامب ديفيد. وكان هذا عاملاً اساسياً في توقيت صدور الاعلان وللرد على محاولة الاحياء وللتدليل على ان لدى العرب بديلاً ايجابياً ومعقولاً. ثانياً: التهديد الاسرائيلي المستمر لسورية والذي بلغ ذروته خلال أزمة الصواريخ مما هدد الموقف برمته في المنطقة. ثالثاً: ضرب المفاعل النووي العراقي وما سببه ذلك من زيادة التوتر والغليان. رابعاً: التصعيد العسكري الاسرائيلي الوحشي في لبنان وضرورة احتوائه والرد عليه. خامساً: اعادة انتخاب مناحيم بيغن رئيساً للائتلاف الاسرائيلي الحاكم بغالبية صوت واحد وما تعنيه تلك الغالبية الهزيلة من ضرورة اعتماد ذلك الصهيوني المتعصب على الاعمال العسكرية المسرحية للمحافظة على مركزه. سادساً: تسلم شارون حقيبة الدفاع في الحكومة الاسرائيلية وما يعنيه ذلك التعيين بالنسبة لعسكري مغامر قرر تكريس وقته وجهده لاقامة المستعمرات الجديدة في الاراضي العربية المحتلة وزرع المستوطنين فيها. سابعاً: استباق المرحلة الجديدة من التنسيق الاميركي - الاسرائيلي والتي بدأت بعد الانتخابات الاسرائيلية. وقد ظهرت الآن ملامح تلك المرحلة من خلال الحديث عن تعاون استراتيجي بين البلدين لم تظهر تفاصيله بعد. ولا بد من الاشارة في هذا المجال الى ان الملك فهد قال عندما اعلن مشروعه انه "يتضمن مجموعة من المبادئ التي يمكن الاسترشاد بها وهي مبادئ سبق للأمم المتحدة ان اقرتها واعادت تأكيدها مراراً". كما ان الملك فهد اضاف يوم صدور مشروعه ان "تنفيذ مثل هذه التسوية يتوقف على ثلاثة شروط واقعية ومعقولة لا بد من تحقيقها وهي: أولاً: وقف الدعم الاميركي اللامحدود لاسرائيل. ثانياً: وضع حد للغطرسة الاسرائيلية التي يمثل مناحيم بيغن أبشع صورها. ثالثاً: التسليم بأن الرقم الفلسطيني هو الرقم الاساسي في المعادلة الشرق الأوسطية. لعل في النقاط سالفة الذكر ما يكفي لشرح الاسباب والدوافع وراء مشروع فهد للسلام. ولعلي اضيف مما عرفت ان المشروع جاء ليحقق هدفين: أولهما: ملء الفراغ السياسي الذي احدثته اتفاقيتا كامب ديفيد من حيث طرح بديل معقول يستقطب اجماعاً عربياً على تسوية للصراع. ثانياً: تجسيد اهتمامات المملكة السعودية بالقضية الفلسطينية ورغبتها في لعب دور مميز يضمن للشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة. والرئيس جيمي كارتر أبلغ كاتب هذه السطور "ان السعوديين مهتمون بالقضية الفلسطينية اكثر من أي قضية اخرى وانهم يقبلون تعديلات طفيفة في حدود 1967 مع اسرائيل، ولكنهم متصلبون من حيث التزامهم بضرورة قيام دولة فلسطينية مستقلة وانهم الحكام العرب الوحيدون الذين قابلتهم وكانوا متمسكين بقوة بضرورة قيام دولة فلسطينية حتى في الجلسات الخاصة. وقد سجل كارتر رأيه هذا حرفياً في مذكراته في الصفحتين 287 و302. وتجدر الاشارة هنا الى أن "مشروع فهد للسلام" الذي صدر قبل حوالى 15 عاماً قد تميز بالتالي: أولاً: لم يستند المشروع الى قرار مجلس الأمن 242 وبالتالي فإنه أشار فقط الى فكرة التعايش بين دول المنطقة من دون فكرة الاعتراف ضمن حدود آمنة. ثانياً: تنبه المشروع منذ ذلك الوقت الى خطورة المستوطنات ونص على إزالتها. ثالثاً: طرح المشروع فكرة الفترة الانتقالية ولكن لبضعة أشهر وليس لمدة خمس سنوات. رابعاً: نص المشروع على أن القدس هي عاصمة الدولة الفلسطينية. خامساً: أشرك المشروع الأممالمتحدة في عملية السلام وأعطاها مسؤولية ضمان تنفيذ المبادئ التي نص عليها. أما بالنسبة للقول بأن الاتحاد السوفياتي هو الذي عرقل المبادرة فان في ذلك تبسيطاً للامور من حيث تجاهل الدور الاميركي النشط في التصدي للمبادرة لافشالها. فكلنا يعلم ان المبادرة صدرت في ظل الحرب الباردة وفي عالم تتنازعه القوتان الاعظم. وكان من الطبيعي ان يقف الاتحاد السوفياتي ضد مشروع السلام وذلك بحكم تكوينه الايديولوجي وموقعه المعادي للامبريالية وتحالفاته العالمية وتحديداً مع الدول العربية الرافضة آنذاك لفكرة التسوية السلمية. ومع ذلك فان موقف السوفيات بالنسبة للشأن الاسرائيلي والقبول بدولة اسرائيل كان لفظياً اكثر منه واقعياً. وليس أدل على ذلك من الرواية التالية التي قالها لكاتب هذه السطور الاخ ابو عمار. ففي مطلع الثمانينات اتيح للاخ ابو عمار ان يقابل بريجنيف للمرة الاولى في موسكو بعدما كانت زياراته السابقة للعاصمة السوفياتية تقتصر على اللقاء مع من هم ادنى من بريجنيف رتبة. ويقول ابو عمار انه ما ان صافح بريجنيف واستقر الاثنان في لقاء ثنائي خلف طاولة المفاوضات حتى بادره بريجنيف بالسؤال التالي مفتتحاً المفاوضات: متى ستعترفون باسرائيل؟ وذهل أبو عمار ازاء السؤال ومن صاحب السؤال الذي كان يفترض ان يكون رمز الرفض لكل مظاهر الامبريالية الغربية في المنطقة العربية وفي ارجاء المعمورة. ولا ننسى ان السوفيات ادخلوا تعديلات جذرية على سياستهم فاصبحوا اقرب الى الموقف الاميركي بخاصة بعد البيان السوفياتي - الاميركي لعام 1977 ومبادرة بريجنيف. أما الحكومة الاميركية الممثلة بادارة ريغان فقد وقفت موقفاً معادياً من مشروع السلام قولاً وفعلاً، قولاً لان الادارة الاميركية كانت تعتبر ان اطار السلام الوحيد كان اطار كامب ديفيد الذي سعت الى توسيعه ليشمل الفلسطينيين وبقية العرب. وبالتالي فان اية صيغة سلام اخرى تعتبر مناقضة للسياسة الاميركية. ولم تكتفِ الحكومة الاميركية بهذا الموقف بل سعت عملياً الى افشال المشروع عن طريق اعتماد خطة باشرت فوراً بتنفيذها لحمل الاطراف العربية على التصدي للمشروع وافشاله. ولعل المجال والظرف الآني لا يسمحان بالدخول في تفاصيل التحرك الاميركي ضد مشروع السلام الذي نص على انسحاب اسرائيل من الأراضي العربية المحتلة عام 1967 وازالة المستوطنات واقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس مع حق العودة للاجئين الفلسطينيين وتعويض من لا يرغب في العودة. ونكتفي في هذا المجال بذكر اسم جون مروز الذي اوفده الكسندر هيغ وزير الخارجية الاميركي الى المنطقة العربية اكثر من مرة بهدف افشال مشروع السلام. ولعل الموقف الاميركي الذي قاده هيغ يفسّر رفض السعودية سياسات وزير الخارجية الاميركي لدرجة ان استقالة هيغ في 25/6/1982 فُسرت على انها نتيجة ضغوط سعودية. فقد نشرت صحيفة "صنداي تايمز" بتاريخ 27/6/1982 وعلى عرض صفحتها الأولى معلومات تحليلية تقول ان الملك فهد الذي كان يسعى لاحتواء الاجتياح الاسرائيلي للبنان ووقف اطلاق النار، أدرك ان هيغ كان يعرقل مساعيه حتى يمكّن اسرائيل من احكام سيطرتها على بيروت. وقالت الصحيفة ان هيغ استقال بعد تهديد من الملك فهد باعادة النظر في وجود الارصدة السعودية في البنوك الاميركية وحظر بيع النفط الى الولاياتالمتحدة واقامة علاقات ديبلوماسية مع الاتحاد السوفياتي. ولا بد من التأكيد هنا ان بعض الاطراف العربية عارضت مشروع السلام ليس بتأثير اميركي ولكن لحسابات اقليمية ومحلية، ولأن آثار زيارة الرئيس السادات للقدس لم تكن قد استوعبت بالكامل فكان المناخ النفسي والسياسي غير مهيأ لمبادرة جديدة. من أجل ذلك انهارت قمة فاس الأولى في تشرين الثاني نوفمبر 1981 حين لم يتمكن العرب من الاجماع على مشروع فهد للسلام. وقد وصل الأمر ببعض العرب الى حد القول في قمة فاس الأولى: لماذا نتقدم نحن بمشروع سلام ولماذا لا تفعل اسرائيل ذلك؟ ناسين أو متناسين من المهزوم ومن المنتصر ومن القوي المسيطر عسكرياً ومن الضعيف العاجز عن تحقيق الحد الأدنى من التضامن العربي. ومن يتمحص اليوم مشروع السلام وبنوده بنداً بنداً لا بد ان يترحم ويقول: "أين كنا وكيف اصبحنا". وبعد أقل من عام اجتمعت قمة فاس الثانية في أيلول 1982 وتبنت مشروع فهد للسلام بعد ادخال تعديلات طفيفة علي،ه وتحول المشروع الى خطة سلام عربية باجماع عربي بعدما سقطت كل الانتقادات والاعتراضات. فماذا حدث بين فاس الأولى وفاس الثانية، وكيف قبلت فاس الثانية ما رفضته فاس الأولى؟ إن ما حدث بين القمتين يمكن ايجازه على النحو التالي: أولاً: قامت اسرائيل بضم الجولان مستفيدة من جو الفرقة والتناحر الذي خلفه فشل قمة فاس الأولى ومستكملة بذلك كما ادعت نظامها الدفاعي المستند الى اقامة مستوطنات في الخطوط الامامية. ثانياً: قامت اسرائيل باجتياح الأراضي اللبنانية حتى وصلت الى العاصمة بيروت. وأدى ذلك الى تدمير البنية التحتية للوجود الفلسطيني في لبنان وخروج المقاتلين الفلسطينيين ومنظمة التحرير منه. ورافق ذلك قصف وحشي للمخيمات الفلسطينية والمدن اللبنانية بما فيها العاصمة بيروت. واثبت الاجتياح الاسرائيلي ان الارادة العربية غائبة وعاجزة. وباستثناء سورية التي دخلت المعركة نداً قوياً لاسرائيل على رغم خسائرها في المعدات فقد وقف العرب يتفرجون على اسرائيل وهي تحتل للمرة الأولى عاصمة عربية وتقتل الشعبين اللبناني والفلسطيني بلا هوادة، وتطارد المقاتلين الفلسطينيين أمل القضية الفلسطينية وذراعها الضارب في وجه اسرائيل الى ان أبعدتهم ومعهم منظمة التحرير مئات الأميال بعيداً عن وطنهم المحتل الى تونس والعراق واليمن والسودان الخ. ثالثاً: اثبتت اسرائيل عملياً مرة اخرى انها تستطيع ان تعربد في الأراضي العربية بلا رادع وأنها القوة العسكرية التي لا تضاهى في المنطقة العربية. رابعاً: ثبت ان جبهة الصمود والتصدي عبارة عن لافتة وأنها لا تقوى على الصمود أو التصدي. خامساً: أدركت القيادة الفلسطينية بعد حصار دام ثمانين يوماً ان تضامن العرب معها في وجه اسرائيل مجرد أحلام وأوهام. واختارت الابحار من بيروت الى الأراضي الهيلينية وأرست سفنها في أثينا بعيداً عن الشواطئ العربية. وذهب العرب الى قمة فاس الثانية فتواضعوا وتخلوا عن غرورهم وسقطت الاقنعة العنترية والنزعات النابليونية وقبلوا بمشروع السلام. وماذا يضير حكومة الولاياتالمتحدة هذه المرة ان يُجمع الحكام العرب، وهم على تلك الحال من الهوان والتفكك، على مشروع سلام يطمح الى اعادة الاسرائيليين الى حدود 1967 واقامة دولة فلسطينية، وأصبحوا لا يقوون على الدفاع عن عاصمة عربية هي بيروت احتلتها جيوش اسرائيل واقامت فيها. وهكذا العقل العربي. تقع كارثة اجتياح لبنان عام 1982 فنقبل في فاس الثانية "مشروع فهد للسلام" الذي قتلناه في فاس الأولى عام 1981. وتقع كارثة احتلال الكويت وحرب الخليج عام 1990 فنقبل عام 1991 بمؤتمر مدريد وبالمفاوضات الثنائية المباشرة وكل المحرمات الوطنية التي رفضناها على مدى سنين. ان الخط البياني لتعاطي العقل العربي مع تطورات الصراع العربي - الاسرائيلي يستحق جردة ضميرية من كل منا تشمل مراجعة جذرية وصادقة لذاتنا ونمط تفكيرنا ومستوى ثقافتنا وثبات أخلاقنا ونوعية قيمنا ومسلك حكامنا ومدى حريتنا في التعبير والتفكير والفعل. ان هذا الخط البياني يتطلب وقفة تأمل من جانب مراكز الأبحاث والدراسات والمثقفين والمفكرين من أبناء هذه الأمة. فتاريخنا عبارة عن موقف متشدد ثم كارثة ثم موقف بلا تشدد ثم تراجع عن الموقف الى قبول بأقل من الموقف ثم بكاء على الاطلال. وما أنا الا من غزية ان غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد. * كاتب، عضو المجلس الوطني الفلسطيني.