في إحدى رسائلها الشخصية، قالت روزا لوكسمبورغ إن العالم ينتهي بالنسبة لذبابة تغلق عيونها للمرة الأخيرة. لم تستوقفني وقتها تلك الجملة بشكل خاص. كنت في مطلع شبابي من جهة، وكنت من جهة ثانية بصدد مهمة صعبة هي اختيار جزء صغير من كتاب مراسلاتها الضخم لترجمته إلى العربية. وكنت مفتونة بشخصية روزا لوكسمبورغ وقيادتها للحزب الشيوعي الألماني القوي، ومعارضتها للينين، وتخطي ثقافتها العميقة حدود الفكر الفلسفي والسياسي إلى الموسيقى والأدب. وما كان يبدو لي - لنا - وقتها تناقضاً أو أمراً غرائبياً، ذاك الاهتمام الشديد بأناقتها وأنوثتها، بحيث أن بعض الرسائل لصديقات لها، وهن أيضاً مناضلات معروفات، كانت ترمي من ورائها الى طلب ثياب بعينها أو أدوات زينة تنقصها... في السجن! إلا أن تلك الاشارة إلى الذبابة - المخلوق التافه - ونهاية العالم، كانت أكثر ما أعجب والدي، الذي أصر بقوة على رأيه، لافتاً نظري إلى أهمية الأمر. فهو قال إن هذا الموقف هو مفتاح فهم كل ما عداه لدى روزا لوكسمبورغ! مستطرداً أن فكراً يتكلم عن التاريخ والبشر والطبقات ولا يكترث بالإنسان، بالمصائر الفردية، لا يمكن أن يكون ثورياً ولا تقدمياً ولا إنسانياً، وانه لا يمكن إلا أن يعيد انتاج الأهوال. كان والدي مشدوداً دائماً إلى الوقائع التي كان الآخرون يرونها هامشية أو بديهية. وقائع عايشها منذ قرر في مطلع شبابه، هو الآخر، أن يغادر الإطار التقليدي أو الموروث لبيئته الأصلية، فانتسب إلى الحزب الشيوعي وأصبح مناضلاً... مزعجاً، قلقاً، شكاكاً، ومتحرراً من القوالب، تحركه قناعاته والبحث عن الفعالية وعن الانسجام بين الأمرين. فكانت الحالات القطيعية تثير دوماً ريبته واشمئزازه، فيحكي كيف أنه حاول أن يعرف - أن يفهم لا أن يقبل أو يُقر - الدوافع التي حملت رفيق رضا، ابن مدينته والمناضل العمالي والنقابي الصلب، على تسليم فرج الله الحلو، قائد الحزب الشيوعي اللبناني آنذاك وصديقهما الشخصي، إلى مخابرات عهد الوحدة، مما أدى إلى تصفيته. وكيف أن النبذ الذي تعرض له رفيق رضا بعدها كان أشد من عقوبة الإعدام، وكيف أن حالات نبذ سابقة حدثت، لأسباب غير موجبة بتاتاً بحسب رأيه، كمخالفة الاجماع أو معارضة القائد، وكانت هي الأخرى إعداماً. بعد روزا لوكسبورغ بعقود، بل بما يقرب من قرن كامل، وبمناسبة وفاة جاك دريدا قبل أسبوع، استعيدت جملته التي تبدو كإعادة صوغ أكثر أناقة لجملتها، حيث قال إن "الموت في كل مرة فريد، نهاية العالم". وهو يتكلم عن اشكالية الموت بشكل عام، تلك التي تقع في قلب نشوء الفلسفة والدين، وليس عن القتل تحديداً، هذا الذي قال بشأنه الكتاب الكريم إنه إذا طال انساناً واحداً بريئاً فكأنه قتل الناس جميعاً. النهاية المأسوية لحياة كينيث بيغلي، البريطاني الذي جرى ذبحه منذ أيام في بغداد، تستحق أن يُستحضر لها ذلك. فعلاوة على كون الرجل اتُخذ "رهينة" بفعل انتمائه إلى جنسية بعينها فحسب، ومن دون أن تكون له صفة رسمية أو تقريرية حيال سياسة حكومة بلاده، مما يعني أنه بريء، فهو مذ خطف لم يتوقف عن التوسل والرجاء، كما عن توجيه الانتقاد القاسي لسياسة المستر بلير ولغزو العراق واحتلاله ولما تمارسه فيه حالياً قوات الاحتلال. وتحرك في الاتجاه نفسه ذووه في بريطانيا، بفعالية وبلا لبس، بل استمروا بعد قتله في تحميل الحكومة البريطانية ثمن دمه. ليست النية من ايراد ذلك تحديد درجات البراءة بحسب الموقف السياسي، بل سد الذرائع كما يقال، وأيضاً ما يضيفه موقفه السياسي هذا من إثارة إلى قصة إعدامه. والسؤال الساذج يتعلق بقدرة إنسان على قتل رجل تعاطى معه على امتداد أسابيع وأيام متوالية، أطعمه واستمع إليه وصوّره وتفاهم، بل تواطأ معه بالضرورة، وكما تظهر الشرائط المبثوثة على شاشات التلفزيون. أما أن يسعى الرجل إلى الهرب من محتجزيه، فأمر طبيعي ولا يغير من الموقف شيئاً. وما الفارق بين قاتل بيغلي، الذي كلف نفسه عناء جز رأسه وفصله عن جسده وذلك الضابط الإسرائيلي الذي أطلق عامداً متعمداً النار على التلميذة الفلسطينية الصغيرة في قطاع غزة، رغم تبيّنه لطفولتها - براءتها - بل لم يكتف بالرصاصة الأولى القاتلة، فأفرغ بعد ذلك مخزن بندقيته في جسدها القتيل. - فهل يمثل اختلاف الموقع، بين المحتل والمقاوم، عذراً لممارسة هي على قدر متشابه من بشاعة المعنى؟ - وهل ثمة فصل بين الوسيلة والهدف، بين الشكل والمضمون؟ أم ان كل ثنائية منهما هي معاً جزء من سيرورة واحدة ومفضية إلى نتيجة محددة، وهل يمكن الوثوق بمن هو قادر على ارتكاب بشاعات كالقتل العمد وبدم بارد، كوضع السيارات المفخخة في الأماكن العامة على أمل زرع الفوضى لأنها تقلق الأميركان، فيقتل الأطفال بالعشرات مرة واحدة في بعقوبة، كما حدث قبل فترة قريبة، أو يقتل المارة لا على التعيين في بغداد كما لا يتوقف عن الحدوث؟ - هل يبرر تلقي الفظاعات ممارستها؟ هل الظلم الذي لحق ويلحق بالفلسطينيين والذي يفوق الخيال، ومعاناة العراقيين الرهيبة، تبيح للشعبين أي رد كان؟ لا يتعلق الأمر بالفعالية، رغم الشرعية السياسية، التكتيكية والاستراتيجية، لمثل هذا السؤال، ورغم الشك الشديد في أن تكون ممارسات العنف العشوائي قد خدمت بأي درجة من الدرجات القضية الفلسطينية أو يمكنها أن تخدم القضية العراقية. لا يتعلق السؤال بالفعالية، بل بالمبرر، بصعيد يجري غالباً تجاهله واحتقاره وكنسه بقفا اليد بوصفه حذلقة أو تعبيراً عن رقة في غير مكانها، وهو صعيد الصلة بين السياسة والأخلاق، بالمعنى القيمي العميق لهذه الأخيرة، ذاك الذي يشكل ركيزة لا يقوم بناء اجتماعي من دونها. - هل يمكن التمييز بين موت وموت؟ وإذ يقال إن العراقيين يُقتلون بالمئات كل يوم، فلماذا تقوم الدنيا إذا قتل بريطاني أو سواه، فإن ذلك يتضمن اتهاماً بأن هؤلاء القلقين إما يعتبرون الأفراد الغربيين أعلى قيمة من الجموع الفقيرة في البلدان الفقيرة. لكنه أيضاً، وفي المقابل، يتضمن أن القتل الفردي أقل قيمة من القتل الجماعي وأخف. يا للهول و... يا للكفر!