لم يكن الإنفلات الاسرائيلي في غزة مجرد رد فعل على صواريخ القسام، ومع ذلك من الخطأ الانسياق وراء الحجة القائلة ان اسرائيل ليست بحاجة لمبرر، فهذه الحجة تعني في الواقع أيضا أنه ليس للقسام أو لغيره من وسائل القتال تأثير على اسرائيل وعلى سلوكها، وهذه حجة تهزم ذاتها. لم يكن الاجتياح الاسرائيلي بلا علاقة مع هذا السلاح البسيط الذي طوره الغزاويون ضد حال الجيتو التي يعيشونها، وهي حال فريدة في التاريخ الحديث، مليون ونصف مليون إنسان في سجن ببوابتين. ولا شك ان العنف الاسرائيلي المتركز في قطاع غزة وفي منطقتي جنين ونابلس هو بنيوي لمسألة فك الارتباط، لأنه لا يمكن فرض خطة من طرف واحد في حالة صراع من دون استخدام استثنائي للعنف. والمسألة ليست مجرد انسحاب من طرف واحد، بل إعادة انتشار بشروط ترى اسرائيل أنها تسهل سيطرتها على مناطق أخرى تريد ضمها في الضفة الغربية، وتسهل وضعها الدولي، وتجنبها الحديث عن تسوية لا تريدها ولا تستطيع الخوض فيها بقيادتها الحالية وبرأيها العام الحالي مقابلات شارون حول تجنب التفاوض مع سورية في رأس السنة العبرية في الصحف الاسرائيلية كافة، مقابلة دوف فايسغلاس مدير مكتب شارون لصحيفة"هآرتس"8/10/2004. لكن مسألة"صواريخ القسام"، إذا صحت هذه التسمية، لوصف هذا التسلح البدائي، تعكس أزمة اسرائيلية حقيقية في التعامل مع مبررات الجدار الأمنية، وفي شرح فك الارتباط من طرف واحد من دون تسوية، خصوصاً ان هذا السلاح في حالته الراهنة هو مجرد مؤشر على امكانات تطوير أسلحة أخرى أقل أو أكثر بدائية من طرف واحد في المستقبل، ولو اقتصر أثرها على تفنيد الحجج الاسرائيلية في القضايا المذكورة. واسرائيل أكثر من يعرف أنه من غير المعقول ان ترضى غزة ب"قسمتها ونصيبها"في الحياة، ان تكون في سجن، أي محتلة من الخارج خلف جدار، من دون حل لقضية السيادة الفلسطينية ومن دون تسوية عادلة. وأكثر من يعرف طبيعة السجن بعد السجين هو السجان. وبالتالي لا يساور السجان شك بأنها ستحاول ان تصدر مشكلتها للمجتمع في الدولة المحتلة. اسرائيل تعرف ذلك، وهي لا تصدق ديماغوجيتها الفارغة حول حضارة أو ثقافة"الإرهاب"التي بات بعض العرب يرددونها. إنها على علم بأسبابه ولذلك فهي قادرة على توقعه وحسابه. ولا شك ان اسرائيل ستحاول ان تجهض هذه الاحتمالات بقدر ما تسمح لها قدرتها العسكرية. وعندما تقوم بحملة إجرامية من النوع الجاري في غزة فإنها تحاول ان تعطي إجابة مركبة على عدة اسئلة في الوقت ذاته: منها اسئلة سياسية داخلية مشككة في جدوى ونجاح القوة العسكرية في قمع المقاومة الفلسطينية. وتنتقل الحكومة الاسرائيلية في الإجابة على هذا النوع من الأسئلة من عنف الى ألوان أخرى من العنف، ومن مرحلة الى اخرى من التصعيد لتشمل اجتياحات حربية الطابع ضد أحياء فقيرة، واغتيالات في دمشق... ومنها اسئلة استراتيجية متعلقة بإجهاض احتمالات تطور المقاومة بعد الانسحاب الاسرائيلي من طرف واحد كما ذُكر اعلاه. وقد سهلت عمليات التفجير في سيناء من دون أدنى شك الجهود الاسرائيلية في هذا الاطار. فهذه العمليات تربط للمرة الأولى بين شبكات الارهاب العالمية والقضية الفلسطينية بشكل يتجاوز التصريحات التي يدلي بها معلنو المسؤولية والتي تفسر معنى العمليات التي تقوم بها لصالح فلسطين الى تنفيذ مباشر لعمليات على حدود فلسطين تحمل عناوين فلسطينية. وبغض النظر عن مواقف الفصائل الفلسطينية المختلفة من السلام المصري - الاسرائيلي إلا أنها ترتبط جميعاً بعلاقات مع مصر، وهي ترغب في المحافظة عليها، كما انها لو سئلت لا ترى فائدة، بل ربما ترى ضررا، في التعرض للاقتصاد المصري او الاستقرار السياسي في مصر. والأهم من هذا كله ان التنظيمات السياسية عموماً قد تخلت علنا أو بشكل غير معلن عن العمليات ضد الاسرائيليين في الخارج. وهذه خطوة استراتيجية لفك الارتباط مع أي عنف من أي نوع آخر ضد المدنيين في دول خارج فلسطين، وهي خطوة حكيمة، لا يبادلها الاسرائيليون الحكمة بالمثل، كما هو معروف. إذ يحق لإسرائيل ما لا يحق لغيرها، فيما يتعلق بسيادة الدول. وتأتي عمليات سيناء التفجيرية في تعارض تام مع هذه الاعتبارات كافة. وهي اضافة الى هذا كله تمنح شارون الفرصة التاريخية لتعميق التنسيق الامني في المنطقة، وتمنح المبررات لتبرير هذا التنسيق بالمصالح الاقتصادية والسياسية التي لا يعتبرها الرأي العام مختلقة، فقد رأينا تعامل الرأي العام المصري مع تفجيرات اسوان التي غيرت تاريخ العنف الديني في مصر، وبعدها برأيي اضطر العديد من التنظيمات لتغيير توجهه حتى في السجن، فكم بالحري عندما تكون الجهات مرتبطة بتنظيمات غير مصرية؟ لا مجال إطلاقاً للتأويل في قراءة رد فعل الرأي العام المصري على هذه العمليات. وعلى رغم الجهدد المصري للتقليل من شأن هذه العمليات ودوافعها وأسبابها، في البداية على الأقل حفاظا على السياحة وتجنبا لضجة كبرى، إلا أن النظام سيتعامل مع الموضوع بجدية متناهية. لقد بدأ الوزراء الاسرائيليون بتوجيه الانتقادات لمصر بأنها تلكأت في فتح الحدود لفرق الإنقاذ الاسرائيلية وغيرها من التفاهات والترهات للاستهلاك الإعلامي التي تصلح لبروز هذا الوزير أو ذاك في فترات الهستيريا، حتى اشار شارون من جديد الى الأمر الاساسي، معنفاً وزراءه على سخافاتهم، خصوصاً وبرأيه المعبر عنه وبرأي غيره من"المختصين"، أنه لو كان الضحايا من المصريين فقط لما جاء الأداء المصري أفضل. والأمر الأساسي هو تجلي إمكان معانقة مصر في موضوع التنسيق الأمني في"مكافحة الإرهاب"، و"لا تكرهوا شيئاً عله خير لكم"، ومن لديه كلمة سيئة عن مصر فليحفظها لنفسه. واسرائيل كما هو معلوم لا تميز بين"إرهاب"وإرهاب. وتكال المدائح فجأة لمصر من كل مسؤول اسرائيلي وبتوجيهات من شارون نفسه وذلك لتشجيعها على التنسيق الأمني ولعب دور أكبر في هذا الاطار. ليس بالضرورة أن تستجيب مصر لهذه المحاولات، ولكن بات من المؤكد أن اسرائيل تدفع نحو مرحلة جديدة يتم فيها إقامة مسارت تنسيق أمني متوازية بينها وبين دول عدة في المنطقة. وزيادة التنسيق الأمني العربي - الاسرائيلي هو ما تتمناه اسرائيل أن يبقى بعد عدوانها الهمجي على قطاع غزة بعد التفجيرات. و"من دون هذه الواسطة"المتمثلة بعمليات لم يطلبها أحد، لاحظنا منذ بداية العدوان الاسرائيلي الأخير تستخدم الصحف العربية منذ فترة كلمة توغل... ولا نفهم مغزى هذا الاستخدام، ولكننا لا نريد ان نثير نقاشاً عربياً جديداً حول المصطلحات لاحظنا محاولة عربية حقيقية لتجاهله. بعض الصحف حاولت ألا تذكر الموضوع على صفحاتها الاولى في اليوم الاول، وذكره بعضها كخبر ثانوي على الصفحة نفسها. والمحاولة برأينا هي اصطناع تعب من القضية الفلسطينية، تصميم تعب، خلق مزاج من التعب ليس في المجتمع الفلسطيني بل في الرأي العام العربي: تعبئة من دون حدود، يتلوها تنفيس، يتلوه تعب وإحباط ثم لا مبالاة بما يجري. يبقى الأمر الوحيد المنعش وغير المتعب الذي يستحق ان يفرد له حيز إعلامي برأيهم هو النقاشات داخل القيادة الفلسطينية، أو حول القيادة الفلسطينية، أو حول الاسماء المطروحة، موضوع مثير دائما لسبب ما. ليتبق من المسألة الفلسطينية والجرائم الاسرائيلية أمر واحد متكرر هو السؤال حول دور القيادة الفلسطينية وضرورة تغييرها. يتعب ناصحو الفلسطينيون من كل شيء إلا من ترداد هذه اللازمة. وهي لا تصيبهم بالإحباط. هكذا تكون المثابرة أو لا تكون. وكأن الجرائم الاسرائيلية مجرد تفاصيل غير مهمة، وكأن أحد لم يسمع ولم يصغ إذنه للإعلان الاسرائيلي شبه الرسمي انها تنفذ في الواقع عقيدة عسكرية لمعاقبة المجتمع الفلسطيني على العمليات الفلسطينية لكي يضغط بدوره على الفصائل لوقف العمليات. هذا على رغم ان هذا الإعلان يتناسب حتى مع التعريف الرسمي الأميركي للإرهاب في ال"باتريوت آكت"التي سنّها الكونغرس بعد 11 ايلول سبتمبر. وقد عرفت الارهاب ب"التعرض بالعنف للمدنيين الاميركيين في أميركا أو خارجها بهدف التأثير على سياسة حكومتهم". واسرائيل تعلن بشكل شبه رسمي أن عملياتها تستهدف المجتمع الفلسطيني بهدف التأثير على سياسة قياداته. يمر هذا، ويمر ايضاً الفيتو الاميركي في مجلس الامن من دون ان يتم التساؤل بشكل جدي حول الموقف الرسمي العربي، حول رد فعل العربي على هذا الفيتو. كنا نتحدث عن مرحلة أميركية كذا ومرحلة أميركة كذا في تاريخ المنطقة: ترومان، كسنج ، كارتر، بيكر... الخ. وربما تكون المرحلة الحالية هي مرحلة شارون، مرحلة اسرائيلية للمرة الأولى على مستوى المنطقة، مرحلة مشاريع إسرائيلية. أما أولى عناصر هذا المرحلة الجديدة فتتمثل بالبنى والعمليات العسكرية والسياسية اللازمة لتهميش القضية الفلسطينية حتى عربيا، بشكل يتوافق مع المحاولة الاسرائيلية لتحويل خطة فك الارتباط الى الامر الوحيد المطروح في هذه المرحلة، لا خطط طريق ولا شطط في الطريق. من ناحية اخرى يتم تدويل محاولة إسرائيلية موازية في الكونغرس لمحاصرة سورية بتحويل قانون العقوبات الاميركي ضد سورية الى حالة دولية. ولا يمكن فهم قرار مجلس الامن إلا كلبنة أولى في عملية التدويل هذه، لا تعديل ولا دستور بل ضرب سورية والمقاومة اللبنانية. وأراهنك عزيزي القارئ ان أميركا ومجلس الأمن كانوا سيمرون على التعديل مرّ الكرام لو تخلت سورية عن بعض القضايا الاساسية بالنسبة للمرحلة الاسرائيلية، وهذه الأخيرة لا تشمل الحرص على الدستور اللبناني من تعديلات دستورية. وفي الحالة السورية يكاد شر البلية ما يضحك حتى المراقب المتجنب ليس البلاوي والشرور فقط، بل المتجنب حتى البلل. فاسرائيل تحاول ان تظهر سورية غير راغبة في السلام فعلاً، وتطالبها ب"الأعمال لا بالأقوال". ومن ناحية اخرى ترفض اسرائيل دون ان يرمش لها جفن التفاوض مع سورية لأن التفاوض يعني الانسحاب الى حدود الرابع من حزيران يونيو، ولا شيء آخر. إلا إذا غيرت القيادة السورية رأيها واصبحت"ديموقراطية"فعلا بخصوص أرض بلدها. بل وأكثر من ذلك، تدعي إسرائيل وتروج زوراً وبهتاناً أن سورية تمطرها بوابل من طلبات الاسترحام لاستعطافها للتفاوض. وهي تختلق التوسل السوري لكي تصطنع الوقاحة في الرفض. أي انها تريد أن تظهر صلافة لم يدعوها أحد اليها، مثل جلف يتحرش بالمارة لا لهدف إلا استعراض فظاظته. وسورية لم تتوجه لاسرائيل لا بقديم ولا بجديد، بل جددت التزامها بمواقفها المتعلقة بالتسوية والتفاوض، وهي لا تخسر بذلك شيئاً. وفي الواقع تضع اسرائيل باختلاقها حال التوسل النقاط على الحروف فيما يتعلق بموازين القوى في المنطقة. والنفس نفس اميركا، ونفس الضغط الاميركي المتواصل لابتزاز سورية:"اليدان يدا عيسوا والصوت صوت يعقوب"، كما جاء في التوارة. ولأنه لا توجد مبررات، ولا حتى بالمنطق الاميركي - الاسرائيلي لمواجهة سورية بالحرب، فإن الطريق الوحيد المتبقي هو استدعاء كل ما يؤدي الى اضعافها والمس بسيادتها والتشجيع للاستقواء عليها في هذه الظروف. وهذه بعض من"مزايا"المرحلة الجديدة التي تحاول اسرائيل دون شك أن تدفع المنطقة باتجاهها. وليس الامر بهذه السهولة طبعاً. فناهيك عن غباء الخريطة السياسية الداخلية والحزبية الإسرائيلية فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، هنالك قضايا بنوية تعترض طريق مرحلة إسرائيلية في المنطقة. فالوحيد القادر على احتلال دول في عالمنا في المرحلة الراهنة، أي من أنتج حربا في العراق لم يتحكم بايقاعها ولا بمنطقها، او بغياب منطقها. واسرائيل التي تحاول افتتاح مرحلة لها في المنطقة ستواجه تعقيدات تسهل أمامها تعقيدات اميركا في العراق. وكما انه من المفترض ان يعرف العرب طبيعة المرحلة التي تحاول اسرائيل تدشينها، كذلك يفترض ان تعرف اسرائيل حجمها، ولا بأس ان يعرف العرب ذلك ايضاً كي يكون هنالك حد لتهيبهم، فهم يتصرفون كال"مضبوعين"، والمعنى ليس في بطن أحد. * كاتب عربي.