لعل اصعب ما تثيره مسألة خطف الرهائن في العراق، هو نظرة البعض لها باعتبارها جزءاً من اعمال المقاومة، او على الأقل احد وسائلها، ولكن ما هو اصعب من ذلك هو كيفية فك هذا الارتباط الذهني بين كلا الأمرين، بحيث لا يبدو احدهما وكأنه مرادف للآخر. وتنطوي استراتيجية خطف الرهائن في العراق على صورتين سيكولوجيتين يشخصان الى اي مدى وصلت عبثية المشهد العراقي، الأولى تخص الخاطفين انفسهم، وهي تنضح بمزيج من النرجسية والشعور بالقهر النفسي لديهم بحيث تبدو افعالهم وكأنها رد فعل لشعور بالعجز في وجه خصم قوي لا سبيل لرده إلا بتشتيت ذهنه عن هدفه الحقيقي، وهي صورة تشي باختلاط فكرة المقاومة مع التوجه الانتقامي، فلا يعرف ما اذا كان هدف الخطف هو جلاء المحتل، ام استغلال عجزه والإمعان في توريطه نفسياً ومعنوياً، ام تنفيذ جريمة في شكل اكثر احترافاً، ام وسيلة للربح السريع. وهي صورة تشبه في بعدها السيكولوجي احوال "جماعات الخلاص" التي توجد في بعض البلدان الغربية، وهي جماعات تؤمن بقدرتها الخارقة، على تحقيق مطالبها بأقل قدر من الخسائر وأكبر قدر من الظهور. وتشتد وطأة هذه الصورة عندما يصبح الخطف في نظر الخاطفين جهاداً وفرض عين، لا بد من القيام به، وأن التخاذل عنه قد يصبح ذنباً لا يغتفر، وعليه بات مشهد الخطف وكأنه عادة يومية تصحو عليها الفضائيات وشاشات العالم، ملثمون يختطفون نفراً من الأجانب في العراق، وتحت خلفية سوداء تحمل لفظ الشهادتين، وتعريف بالجهة الخاطفة، يقف الملثمون "الأفذاذ" في اعتزاز، يتلو احدهم بياناً تهديدياً بالقتل او النحر، ما لم تتم الاستجابة لشروط الجماعة ومطالبها "المجاهدة" التي ينتمي إليها، والتي لا يتعدى عدد افرادها - في الغالب - اصابع اليد الواحدة. في المقابل تأتي الصورة السيكولوجية الأخرى، وهي الخاصة بأهل المخطوفين وذويهم، وفيها تختلط المشاعر بين الأسى والحنق على حكومات المخطوفين وهمجية الخاطفين، الى الدرجة التي تلفظ فيها عائلات المخطوفين اي مبررات قد يسوقها الخاطفون، بل تلفظ فكرة المقاومة نفسها بالأساس. وتكتمل هذه الصورة عبر نظرات خوف تلحظها في عيون اهالي الضحية المختطف، وتسمعها في نحيبهم على فقيدهم، وذلك على غرار ما حدث في حال الرهائن الأردنيين والمصريين. وعلى عكس الصورة السابقة، تصبح افعال الخاطفين هنا ارهاباً فعلياً، وترهيباً نفسياً لأهالي الضحايا، حتى وإن كانوا من الديانة نفسها والعراق الواحد. فمن يتصور ان يتم نحر رهينة لم تستجب دولته لمطالب "المجاهدين"؟ وكيف يعقل ان يتم التهديد بذبح رهينة من بين رهائن عدة محتجزين في شكل زمني تنازلي، ما لم تتفاعل الدول المعنية بشروط الخاطفين؟ لعل ابسط ما تكشفه تلك الصورتين، هو اننا إزاء حال مرضية، تزداد استفحالاً كلما تأخر علاجها، وهذه الحال تلخيص لشعور عام بالعجز، وانعكاس لمزيج من المشاعر والأحاسيس المتضاربة لدى الخاطفين التي تراوح ما بين الشعور بالضعف في مواجهة من هو اعتى، الى الشعور بالقوة في مواجهة من هو اكثر استعداداً لمجاراتهم في مطالبهم، فضلاً عن الشعور بالرغبة في الانتقام وتخليص حسابات قديمة، مع اطراف لا يكون لهم علاقة بما يحدث في العراق اصلاً، وإنما فقط مجرد رغبة في إثبات الذات واختبار قدرتها على مجابهة الآخر، وذلك في اي ميدان وتحت عباءة اي قضية. وقد يفسر هذا المنطق الجهادي بعض خلفيات عمليات الاختطاف، كما هو الأمر مع الصحافيين الفرنسيين ومحاولة الخاطفين مقايضتهم بمطالب لا تمت للأوضاع في العراق بصلة، ناهيك عن قتل أفراد من جنسيات ليس لها علاقة بغزو العراق واحتلاله بالأساس. وهنا يبرز السؤال: هل يحقق الخطف أهدافه؟ باختصار، هل تمكن الخاطفون من دحر الاحتلال وخلخلة عقد التحالف الأجنبي في العراق؟ الاجابة هنا قد لا تشفي صدور الخاطفين، فبتحليل بسيط لبعض وقائع الخطف السابقة، يمكن القول انه اذا كانت بعض دول التحالف قد سحبت قواتها من العراق استجابة لمطالب الخاطفين، إلا أنها لم تكن القاعدة في أكثر المواقف، بل مجرد استثناءات، وكثيراً ما كان يتم التعاطي مع قضايا الخطف من جانب الدول المهددة بمنطق العناد وعدم اعطاء فرصة للخاطفين لتحقيق مآربهم التي تعني نجاح استراتيجيتهم واحتمال استمرارها. وهو ما وضح بشدة في الموقف الايطالي الذي رفض أكثر من مرة الانصياع لمطالب الخاطفين وسحب القوات الايطالية من العراق. أي ان استراتيجية الخطف لم تحقق نسبة النجاح التي أمل الخاطفون بتحقيقها، في مقابل ذلك أثرت هذه الاستراتيجية سلباً على المقاومة العراقية الحقيقية، وبات اللبس والخلط بينهما أمراً بديهياً، الى الدرجة التي جعلت البعض ينكر على العراقيين حقهم في مقاومة الاحتلال الأجنبي. هذا بالطبع ليس دفاعاً عن الوجود الأجنبي في العراق، بقدر ما هو محاولة لفصل المقاومة عن أعمال الانتقام والتصفية، وإذا لم يكن في استطاعة أحد أن ينكر على العراقيين حقهم في مقاومة الاحتلال، إلا أنه من غير المنطقي أن يشجع أحد أيضاً على فقه النحر والقتل اللاإنساني لأفراد كل خطيئتهم أنهم ذهبوا الى العراق لأسبباب مختلفة، إما طلباً للرزق، وإما تنفيذاً لقرار اتخذته حكومة أحدهم، من دون أن يملك سلطة رفضه. ناهيك عن عدم اتساق هذه الأفعال مع مبادئ الإسلام السمحة، والتي تحرم قتل النفس البريئة إلا بالحق، والحق هنا أن يكون المقتول قد ارتكب خطأ مباشراً في حق القاتل، أو أن يكون الرهينة قد ساهم في محاربة الخاطف. ووفقاً لما هو مرئي يصعب القول ان ظاهرة اختطاف الرهائن ستختفي فجأة من العراق، خصوصاً في ظل حال التسيب الأمني السائدة هناك، ونظرة البعض لها باعتبارها مهمة دينية، أو مهنة تجارية قد تدر عليهم ارباحاً بأسهل الطرق وأسرعها. ويصبح تعاون حقيقي بين العراقيين، هو أفضل سبيل لوقف مثل هذه الأفعال التي أخذت من المقاومة أكثر مما أعطتها. * كاتب مصري.