لكل فصل من فصول رواية "أريانة" حكاية وامرأة، ابتداءً بفصل "أمارة" الذي يتعاون على سرده ويشتبك فيه كلٌّ من "لمسلك" و"العربي الشيهب"، مثلما سيفعلان في بقية الرواية. ومنذ البداية، حيث، يحذر "الشيهب" صاحبه من هذا الوقت، يعقب "لمسلك" أن الآخر يحكي عن نفسه "وكأنه يحكي عني، يتماهى بي". وسيتوالى مثل هذا التعقيب لتنجلي مبكراً لعبة تشظّي "لمسلك" في توأمه، كما ينبئه صوت يدعي أن اسمه "الراضي"، أي الاسم الذي كان والد "لمسلك" سيطلقه عليه، قبل أن يكتشف أن امرأته حامل بتوأمين، فسماهما: مالك ومملوك، فمن هو "لمسلك"؟ هل هو ملوك عزيزي أم العربي الشيهب أم سليم الناظمي، أم انها لعبة القرين في هذه الرواية؟ في انتظارٍ للجواب لن يطول، يحدّث الشيهب قرينه عن المرأة التي يصطحبها كل مرة من المكان نفسه إلى المكان نفسه ومع السائق نفسه، ويتساءل: هل هي صورة حلم وذكرى؟ أم هي البغي المقدسة والصبية الجنّية والمرأة الحية؟ أم هي الخلاص والوهم الفاتن الملغز المعذب الممتع المخدر المنبه؟ يتساءل الشيهب أمام "لمسلك" أيضاً عن لغز المرأة الذي يكابده، وهو الصحافي الكبير حلاّل الألغاز: "هل يعقل أن أعيش حالاً كهذه، بين النار والماء، بين اليقظة والنوم، بين الحياة والموت، بين العقل والجنون، كائناً وغير كائن؟". لكن هاتفاً سيهتف ب"لمسلك": "لماذا تصرّ على تفكيك هذه اللذة التي تسميها اللغز؟ اترك جسدك يكتشف. قد يكون الجسد الحل، الخلاص". وهكذا يصير السؤال عمّن يكابد لغز المرأة ولغز اللذة في هذا الالتباس بين هاتين الشخصيتين الروائيتين، وهو الالتباس الذي سيلي مع سواهما. في صفحة "افتح قلبك" ينشر "لمسلك" لغزه مع المرأة التي سيسميها "أمارة"، وتبدو كأنها في كفن، غاطسة في السواد مثل من سيلين؟ أم ستتقمصهن؟ أم ستتشظى فيهن؟ في الرواية. لكن الصحف ستتناقل أن "لمسلك" سرق من "الشيهب" قصة، والشيهب تقدم بدعوى ضده. ويلي ذلك الفصل الثاني - متعنوناً باسم "حليمة" - كحوارية بين التوأمين تتشبه بالسردية التراثية الرصينة، لتنكشف لعبة التوأمة والقرين كلعبة لتعدد الأصوات الجوانية. فأسماء "لمسلك" تتخاصم، وألوانه تتعارك، وهو يرى توأمه في نفسه وفي الناس وفي الكثير من أصواته وأصدائه. وإمعاناً في اللعب، يقول إذ ينظر إلى المرآة: "ولكن الأصوات التي تنبعث في المرآة لم تكن سوى همسات أشباح أعرفها ولا أعرفها، غريبة وأليفة في نفس الوقت إلا شبح الناظمي أو "العربي الشيهب"". يقدم هذا الفصل قصة حليمة زوجة الناظمي التي يبدو أن الأمن دبّر لها مكيدة الجلسة الخليعة مع شامية وتونسية وفلسطيني وعراقي ولبناني، بينما يؤكد الناظمي أن أولاء من الأممية الدولية القومية. وتفر حليمة إلى تونس، ثم تعود بصحبة تونسي، ويؤسسان شركة للمعلوماتية، سيرحل التونسي حين تفلس. أما حليمة فتستقر مع الناظمي الذي يكذّب مرضها وموتها، ثم ينتحر. ويختتم "لمسلك" هذا الفصل متسائلاً: "كيف أفهم كل هذا، بخاصة عودة أصواتي، وأنا في عنق الزجاجة؟". وبمثل ذلك سيختتم الفصل التالي: "كانت كل أسمائي وصفاتي وأصواتي، كأنها في معركة، وأنا عائد في الطاكسي نفسه، لكن لسان العربي الأشهب كان أقواها". يحمل هذا الفصل الثالث اسم تلك التي تعنونت الرواية باسمها "أريانة". وهنا تحضر للمرة الأولى، ولكن على لسان "رابية" الملتبسة كسائر شخصيات الرواية. ففي هذا الفصل الذي جاء بصيغة مونولوج الراوي، تبدو رابية الجاهلة أو المحتالة أو الولية أو الساحرة أو العاهرة أو أم أريانة، وكذلك هي العائدة من ميلانو مع زوجها، حيث كان يعمل مغنياً في الأوبرا منذ ربع قرن. وسيكمل السائق حكاية رابية في الفصل التالي الذي يحمل اسمها، فيزيد إبهام الرواية إبهاماً، ويتقدم بها إلى ما يلونها من الفلسفة - بما يسوقه في الخوف - سواء في التأمل أو الحكمة أو التحليل، وبالرشاقة المعهودة للميلودي شغموم في تشغيل الفلسفة في رواياته. في الفصل الخامس "شمس البحر" تذهب الرواية أبعد في "التفلسف" عبر أصداء محاضرة السيدة الفرنسية حول ثقافة الجسد في الجنوب، وابتداءً بتعليق الصحافي البوطي: "كأنهم استنفدوا الكلام عن الجسد في الشمال" وبتعليق الصحافية مريم: "أوَلم يعد لهم جسد"، بعدما ذاب الجسد في الكلام، لفرط ما تحدثوا عنه. والفرنسية التي عرّفت الجسد ببيت اللحم الذي نسكنه، اختتمت محاضرتها بالدعوة إلى العودة إلى الطبيعة، لكن امرأة غاطسة في السواد تعقّب، فتعد المحاضرة استمراراً متردياً للنزعة الاستشراقية، ومملوءة بالكليشيهات. وتأخذ على الفرنسية أنها لم تميز بين الجسد والجسم والبدن، فتنصرف الفرنسية احتجاجاً على ما عدته معاملة إرهابية، بينما تتابع المعقبة "تفلسفها" في الحوار الذي يجريه لمسلك معها، فتذهب إلى أن الجسد يتجلى في العين، واللغة الأولى للجسد هي العين، أما لغته الثانية الظاهرة فهي الهيئة العامة، والأسنان أيضاً لغة، وهناك لغات أخرى، والجسد يوجد مصغراً في أسفل القدم. وبعودة "لمسلك" إلى البيت تكرر له ما سلف مع سواها، وروى للشيهب، فتخيل الشيهب أنه بطل القصة، وكتبها وعنونها بالعبارة التي يفتتح بها الرواية: "هذا الوقت ليس الزمان". وأعتقد أن "لمسلك" سرق القصة منه! بين قدر أقل من "التفلسف" وقدر أكبر من الأحداث والأخبار، تمضي الرواية حثيثاً في فصولها التالية، وشخصياتها تتكاثر، وفضاؤها يترامى من المغرب إلى الأندلس. فسائق الطاكسي الذي يُعلن اسمه أخيراً "بهلول" يحلم ب"منية" التي سيصادفها "لمسلك" في رحلته إلى الأندلس في مهمة صحافية، جرياً خلف "أريانة" ولغزها. وستكون تلك المصادفة نهزة لتقديم حكاية منية المسافرة لتتزوج ألمانياً جمعها به الانترنيت، وهي تحلم بضمان مستقبلها ومستقبل العائلة، وبذلك "الآخر" الذي تضيق البلد كلما اتسع، وبه يحلم الجميع. وقبل ذلك سنرى رابية تقرر أننا "لا نلتقي الحب إلا عندما نكون أصبحنا مستعدين لذلك، قادرين عليه". كما سنرى الشيهب يقرر أن الحب مكر الغرائز، ويقرر: "الناس خلقوا وهماً سموه الحب ليبرروا في هذا الوقت الذي ليس الآن ميولهم الحيوانية". تشظي رابية الحكي في فصلين - حكايتين قديمتين، أولاهما للكلب داني والكلبة دانية، والحكاية الثانية هي للمقعد سمعان وعبدته مسعودة التي ينشد الأعمى زيدان الزواج منها. وهاتان الحكايتان - مثل حكاية حليمة - تعززان حضور الأسلوب التراثي السردي في الرواية التي تمضي بعدهما إلى الأندلس، حيث يحل "لمسلك" في بيت فلورا ألفيرانو مديرة معهد الفنون الأندلسية في إشبيلية. ومن ألفيرا إلى الراقصة غلوريا إلى رامون كالا الكاتب التافه الذي يسحر القراء، تنضفر حكاية أريانة التي صارت الراقصة الأولى للفلامنكو في فرقة ألفيرا، على رغم أنها راقصة باليه، لكنها اعتزلت الرقص والحب بعدما خانها ثديها. على رامون كالا كانت تتنافس المرأتان اللتان بحسبه لا أحد في العالم يُحسِن الفلامنكو سواهما: غلوريا وأريانة. وها هنا تصل الرواية باشتباك أصواتها إلى منتهاه، حيث يبدو ل"مسلك" وهو عائد من رحلته أن رامون ليس سوى العربي الشيهب، وأن أريانة بالنسبة الى رامون ليست سوى حليمة حين تبكي، أو غلوريا حين تضحك. وهكذا تظل أريانة تترجح بين الوهم والحقيقة: فراشة وحرباء وثعبان كما ترسمها غلوريا، وفاتنة للجمهور حين تحرك بطنها في الرقص، ومفتونة بأدوار النساء ذوات العاهات في رقصها، ووفية لعطرها. وبعبارة واحدة: أريانة حكاية ملغزة، والرواية التي تحمل اسمها تلعب لعبة القرين كما لعبها منذ عقود سليمان فياض في روايته "أصوات"، وكما لعبها للتو سليم مطر في روايته "امرأة القارورة" و"التوأم المفقود". أما الميلودي شغموم، فيتوسّل هذا اللعب لتصريف الفلسفة في الحب أو الجسد أو الصور أو الرقص أو الآخر، بينما تظل امرأة اسمها أريانة سؤالاً بلا جواب. وعبر تصريف الفلسفة وتشغيل سؤال أريانة في الرواية، بدت الحكاية هي الحامل الروائي بامتياز، ملوحةً بنسبها في التراث السردي في حكايات حليمة ومسعودة والكلبين داني ودانية. على أن النزوع الحداثي للرواية قد يكون أرهق الحكاية بضبابية الشخصيات وتلغيزها - ما عدا رامون كالا - وبالتركيز على رصد دخيلة من يحكي أو تحكي، وهو ما بلغ مداه في فصل "أريانة"، وتواتر معقباً على محاورات الشخصيات في الفصول - الحكايات الأولى، قبل أن يهدأ ويفسح للرحلة إلى الأندلس، حيث طلعت شخصية رامون كالا، لتتميز على شخصيات الرواية جميعاً، فتنافس "أريانة" على بطولة الرواية، على رغم كل ما حشده الكاتب لهذه البطولة. * المركز الثقافي العربي، بيروت 2003.