صدرت عام 1990 رواية "امرأة القارورة" للعراقي المقيم في سويسرا: سليم مطر. وثمّن فيها جورج طرابيشي ويوسف الشاورني فانتازيتها وأسطوريتها وثمّن زكريا تامر فيها ذلك التخييل القادر على التحول الى واقع شديد الصلابة. من أجل دراسة رواية مطر الجديدة "التوأم المفقود"* لا بد من العودة الى "امرأة القارورة" ابتداء بالمرأة التي حملت الرواية اسمها - لقبها، أو بتوسل العجائبي وازدواجية السارد أو بإيقاع الحرب العراقية الإيرانية، وانتهاء بالرحلة السندبادية الى أوروبا أو بذكريات الطفولة أو بوعي الذات والآخر أو بالوشاح الصوفي... يتصدر رواية "التوأم المفقود" المؤسسة العربية 2001 مقتطف من جلجامش ومقتطف من "ألف ليلة وليلة"، وهذا يستحضر للقارئ قصة السندباد البحري العجيبة ومؤاخاته للحمال. ومنذ البداية تنهض الشخصيتان المحوريتان في الرواية: الراوي غريب وشيخه ومعلمه وشفيعه توما الحكيم، وسيعرفنا الراوي في الفصل الخاص بالأخير ان اسمه يعني بالآرامية: التوأم. وكما في بداية الفصل الأول المخاض سيفتتح معظم الفصول قول للحكيم، فضلاً عما سيلي في بطن بعض الفصول. ويبدو قول الحكيم بعامة خلاصة نظرية لكل فصل، تتعاضد مع ما سبق وما سيلي، لتشكل فكرية الرواية - أطروحاتها في العرفانية. ليست خلاصات الحكيم سوى بيانات لهذا الملحق، كما أن الحكيم نفسه ليس سوى تعلّة الراوي - لئلا نقول قناة الكاتب - لإرساله نظره أو نظريته وفكره أو فكريته في الرواية. وهذا ما تجلوه الوحدة الأسلوبية لقول الحكيم ولقول الراوي، مما يعبر عن وحدة صوتيهما، وثالثهما: "التوأم" ولا سيّما في الفصل الخاص بتوما الحكيم. بدأت حكاية غريب ليلة اندلاع حرب الخليج الثانية 17/1/1991، حين كانت مارلين - زوجة غريب - في مخاضها في المستشفى وهو يصحو على صوت يستغيث: "أرجوك أنقذني من الضياع والموت. أنا أخوك يا غريب... أنا توأمك أرجوك خلصني". أما شيخه فيؤكد ان لدى كل إنسان ثنائية - وسيكرر ذلك في فصل "متاهة أنا... هو..." - يولّد صراعُهما الشيزوفرينيا. لكن لعبة غريب وتوأمه، كلعبة آدم وصاحبه في رواية "امرأة القارورة" ليست مرضاً نفسياً، بل لعبة روائية في التجربة الروحية الحاسمة: التجربة العرفانية التي تستدعي الفعل الصوفي في الرواية. تطغى الخطابية على حضور هذا الفعل في الرواية، عبر "رسالة" الحكيم التي يبلغنا إياها غريب في بيانات افتتاحيات الفصول غالباً. وإذا كانت الفصول بعد ذلك تجسد او تمشهد الفعل الصوفي بخاصة، وتفجر التخييل والعجائبي بعامة، فالخطابية تحضر من حين الى حين، عبر الملخصات والوقفات السردية. كذلك يبدو الأمر مع الفصل الثاني "سيدة القارورة" والذي يحيل على عنوان رواية سليم مطر الأولى. فمن حكمة الحكيم: "إن الوطن حاضر حتى في ضمائر أبنائه الملحدين" الى المرقص الذي يقصده غريب، ويستحيل الى الوطن، الى صوت التوأم يرتجّ كأنه من "نشيد الوجود" مخاطباً غريب: "تعال سأحكي لك حياتك وتحكي لي حياتي" الى تدفق الوصف البديع لبحيرة جنيف وانبثاق الحورية الغامضة منها، حاملة قارورة خشب، من ذلك نصل الى "وحدة الوجود"، إذْ تتوحد سيدة القارورة بالبحيرة فالكون، وإذ تُرجّع مما سبق في رواية "امرأة القارورة" ما ترجّع. من متاهة الى متاهة يرحل غريب، ولكل متاهة فصل، فتقوم الرواية بالرحلة التي يشتبك فيها السيري بالميتولوجي. وبداية ذلك تكون في الفصل الثالث "المتاهة الإيطالية الذي يفتتحه الحكيم بتعليل صراع إنسان العصر مع ذاته في تجاهله إياها والهرب منها "نحو بهرجات حياة مصطنعة". ويوالي الحكيم كأنه يلخص الرواية: "إن السفر الحقيقي هو الذي يجري في متاهات الروح، في خبايا الذاكرة، في الذات السرية المتحررة من قيود الزمان والمكان". ويحدثنا غريب ان متعته الكبرى هي السفر في الخيال: "إن تخيل الحياة، ظل بالنسبة لي، أكثر متعة وحرية من معايشتها". في هذا الفصل - المتاهة، يلتقي غريب بالفتاة التي ثمل معها في نفق محطة المترو إبان وصوله الى روما، فيفكر بالسؤال "الغريب" الذي يهابه الرجال: ماذا لو وجدت نفسك امرأة؟ أستطيع بكل حرية التعبير عن ثنائيتي الشخصية... أحس بأني إنسان... نعم مع المرأة أنا إنسان كامل". على أن هذا التوحد والاكتمال الإنساني الذي فصمته الذكورة، لا يفتأ يقترن في الرواية بصورة الأنثى الصوفية. فإلى ما تقدم مع "سيدة القارورة"، سيلي في فصل - متاهة "أنا"... هو..." الغزل الصوفي لغريب بإيمان: حبيبة عهده بالمراهقة. ويتصل بهذا النظر الصوفي للمرأة ما ترسله الرواية في اللذة والجسد. فتوما الحكيم يقول في متن "المتاهة الإيطالية": "إن فعل اللذة هو فعل الحياة، وهجر اللذة يدفع البدن لهجر الحياة والسير بدروب الموت والعودة الى عوالم الأبدية". يعلم الحكيم صاحبنا كيف يداوي بدنه من خلال مداواة روحه. والحكيم الذي يعرف عن غريب كل شيء يخاطبه: "إن توأمك هو دربك... أكمل بحثك حتى نهايته وستعرف سره". وفي التعبير المعهود عن وحدة الوجود، تأتي الذئاب وديعة الى الحكيم وغريب الذي كان جازماً عندما هاجمته بأنها "مختصر كلي لجميع الناس الحمقى الذين استغلوا طيبتي وسببوا لي الأذى في حياتي"... وما إن ينسجم غريب مع بدنه المتلوي والمتسامي حتى تباغته كائنات غريبة، هي الذئاب التي شرعت تشكل دائرة وهي تحوم حوله وحول الحكيم، تلعق الهواء كأنها تشارك في الرقص. وبالدبك واللطم والبزخ والهوسات والتمرغ في الأرض، يبلغ غريب "ذلك الوجد الذي تتفكك فيه مكونات الجسد، وتصير أثيرية"، ويمحي لديه الفرق بين رؤى الوجود ورؤى دواخله، فتمتزج الأشياء وتنعدم حدود الزمان والمكان. يقود الحكيم غريباً الى المكتبة المخفية تحت الأطلال، حيث ألواح حجر بكتابات مسمارية، ورقائق جلد بلغات آرامية، وكتب مسيحية ومانوية بالسريانية، مما توارثه النساك وترجموه. وفي المكتبة باب لن يدخله غريب حتى ينضج. وفيما يمضي الوقت قارئاً، يعود التوأم إليه فجأة، كما تظهر "سيدة القارورة"، فيكرر ما سبق، وبالإفقار عينه للفعل الروائي لمصلحة جهارة القول الخارجي. يمضي غريب في نفق "غريب"، وتتكشف الجدران عن رسوم وكتابات من سلفوا، فيركض من دون ان يبلغ مصدر الضوء الذي يلوح في النهاية، ويصير جزءاً من الأرض، ويقول كأنما الحكيم هو الذي يقول: "الإنسان ما هو إلا معبر ... بين البدن والروح... بين المادة والمطلق..." وفجأة تشرخ صمت النفق انفجارات وضجيج طائرات: أنها الحرب، وإنه العراق: إنه الواقع. وبالعودة الى الواقع نعود الى بداية الرواية لنتقرى في شخصية غريب وحكايته وعيه الذات الفردية والجماعية ووعيه الآخر والعالم. ولا مناص هنا من اعتبار السيرية في الرواية. فاسم "غريب" كما يسرد هو "جمعة" و"جمعة الحلفي" هو اسم الكاتب سليم مطر. ومن المفارقة هنا ان جمعة الحلفي هو أيضاً اسم الشاعر الشعبي العراقي المعروف. وينتسب غريب - جمعة كما يسرد في الرواية الى ذلك الجيل الذي قررت الحكومة العراقية توحيد تواريخ ميلاده في 1/7، يوم موت "تموز" إله الخصب الأسطوري. وإذا كان "غريب" يؤسس استثنائيته في اسمه الأصلي، أو في طفولته كما تقدم، فهو يؤسس لتوأمته بسيرة أسرته: بدءاً من الأم التي لا تذكر إن كانت أنجبت توأمين، الى العشيرة التي تسرّ أن لجمعة - غريب توأماً ضاع في طوفان، أو مات، أو لا يزال حياً. وفي الحاضر، في بداية الرواية، يؤسس غريب لتوأمته بحاجته الى توأمه. يهرب غريب من استغاثة توأمه ليلة اندفاع الحرب، الى شوارع جنيف التي تفاجئه بصخبها بكلمات الحرب - العراق - الكويت - اميركا ويروح الكون كله يصرخ باستغاثة توأمه العراق العراق. فماذا يفعل ذلك الهارب من حرب الخليج الأولى الى جنيف خريف 1981، وهو يحمل الجنسية السويسرية بعدما تزوج من مارلين، وقضى ما بين الحربين متحاشياً أدنى صلة بالعراقيين أو العرب المنفيين؟ عبر الفصول التي تستعيد ماضي غريب في العراق أو سورية أو لبنان، وعبر الفصول التي يتقصّى فيها أثر توأمه من سويسرا الى إيطاليا ويوغوسلافيا وبلغاريا وتركيا، يترجّع تجنيس الآخر كالعهد بالرواية العربية الحضارية، كما تترجّع الردة التي درجت بين ذوي الماضي الثوري - الشيوعي أو القومي أو الماركسي... - الى مآل ديني إسلامي سياسي أو صوفي أو إيماني عموماً، كما في حال غريب التي تذكر من هذه الزاوية بما آل إليه بطل رواية حيدر حيدر "شموس الغجر". وعلى نحو آخر اكثر استواء ونقدية يبدو وعي غريب - لنقل وعي الرواية - للعالم، في البؤرة السويسرية التي اشتغلت عليها رواية غادة السمان "ليلة المليار" على وقع الحرب الأهلية اللبناانية، أو رواية بهاء طاهر "الحب في المنفى". وإذا كان لرواية "التوأم المفقود" - على رغم سيل الأخطاء الإملائية والنحوية والطباعية - ان تدلل بحداثيتها في بنائها وتخييلها واستثمارها التراث السردي والميتولوجي والتاريخي، والمتناصات الشعرية من حاوي والسياب وأبي فراس الحمداني...، فهي ليست أول رواية روحانية عرفانية عربية، كما يشاء السؤال عن ذلك على غلافها، فقد فعلت الصوفية والعرفانية فعلها في الرواية العربية، على نحو غير حاسم كما في روايات عدة للطاهر وطار وحيدر حيدر وأحمد يوسف داوود وممدوح عزام... وعلى نحو حاسم كما في روايات شتى لجمال الغيطاني ومويلم الروسي وعبدالخالق الركابي وإدوار الخراط... وكان من ذلك الاشتغال على التقمص والتناسخ والحلولية واتحاد العناصر ووحدة الوجود واللذة والمعرفة... مما لون اللغة وفجر التخييل، كالسؤال عن الغموض أو الباطني أو تنكّب التاريخي والمادي أو تسليط الفردي أو طغيان الذاتي، كذلك عن الإيمان والخلود والطبيعة والماوراء من بين المفردات الإنسانية الكبرى.