يصوغ عنوان كتاب المفكر المرحوم بوعلي ياسين "بيان الحد بين الهزل والجد" النداء الأول والأكبر الذي ترسله روايات الميلودي شغموم الى قراءاتها، وحيث تستبطن الأهجية والمفارقة المشهدية والأسلوبية لذاعة النقد وعمق التحليل وكثافة التنظير، فتترجح قراءة الرواية بين الفلسفة والسخرية ويأتي ذلك بتفاوت منذ رواية الميلودي شغموم الجديدة "الأناقة" الى روايتيه الأوليين القصيرتين "الضلع" و"الجزيرة" واللتين أقرأني إياهما مخطوطتين، واقترحت صدورهما معاً بهذا العنوان، وتدبرت نشرهما في بيروت عام 1980، وكانت صدرت للكاتب قبل ذلك مجموعة قصصية واحدة، سيثنيها خلال اثنتين وعشرين سنة، صدرت له فيها عشر روايات، وثلاثة كتب لا بد من ذكرها، لما تشير الى ما للفلسفة والعلم عند الكاتب، كما هو الأمر مع المغربي الآخر سالم حميش، والكتب الثلاثة هي "المتخيل والمقدس في التصوف الإسلامي" 1991 و"الوحدة والتعدد في الفكر العلمي الحديث" 1982 و"تمجيد الذوق والوجدان" 1999 فضلاً عن ترجمته لكتاب "قيمة العلم" منذ عشرين سنة. وتتعلق الرواية الجديدة "الأناقة" على نحو خاص ومباشر في مغرب العقد الماضي ومفصل التغيير والتناوب كما جسّده تولي المعارضة التاريخية لشؤون الحكم، وذلك عبر شخصية زينب الرنجي التي يممت الى باريس عام 1973 لتدرس الفن، وتعرفت ثمة الى المرشح لمنصب الوزير الأول، وقارعته على السكوت عن اغتيال الشهيد بن بركة وأشاعت ان الرجل يحمل بطاقة عضوية حزب العمل الاسرائيلي. وها هي بعدما عادت الى البلاد محملة بهزائم عشرين سنة، وباتت المرشحة الأولى للتوزير، تلتقي بنجم هذه الأيام الذي شرح مبررات المشاركة في التغيير، وكل ذلك مما يشغل أيضاً رواية محمد برادة "امرأة النسيان" التي تزامن صدورها العام الماضي مع صدور رواية شغموم "الأناقة"، وهي مصادفة تزخر بالدلالة على هجس الرواية بزمن كتابتها. قبل ان نبلغ في رواية الميلودي شغموم ما تقدم، يطوّح بنا التخييل في الجذور والأصول، من البحر وعروسته الى القبيلة التي عرفت بقبيلة خنازير النساء لأن بنتين منها هما "نسخة واحدة" ربتهما الخنازير، واستقرتا على الهضبة التي ستصير مدينة تجتذب البحارة والتجار والمجانين والعقلاء والمغامرين والمرتزقة. يتحول هذا التاريخ الخالي من الجد والرموز، وكما تعبر الرواية، الى "حكايات شديدة الجدة" والى محتويات مادية محض، والحكاية كما يأتي في "كتاب النور في أخبار الشكور" هي انتماء ورجاء. لذلك تصير الأصول والجذور شاطئ السبع بنات اللائي لجأن ذات ليلة من سبع جهات حاملات سبع آلات مختلفات، وملأن الليل والنهار رقصاً وغناءً، حتى جاء الإسبان. انهن الصالحيات السبع، بنات الماء وبنات الهواء، الوليات اللواتي قاتلن حتى استشهدن واختفت جثثهن، فصارت البنات تأتي شاطئهن ليتعلمن الحياة أو الشجاعة". من هذا المهاد تنتقل الرواية الى 9/2/1998 في فصل "صباح الخير" والى زوال اليوم التالي في الفصل التالي "دعني كيف أصف". وتوالي الرواية كتابة زمن كتابتها متوسلة، شأنها في ما ابتدأت به، الأسلوبية التراثية السردية، والحوار بين الشخصيات، اضافة الى الوصف على غرار ما في كتابة السيناريو، وان يكن نصيب الحوار سيظل الأوفى، كما ستظل الفصحى فيه هي الغالبة، مهما يكن التهجين بالعامية المغربية، لكأن الكاتب تحاشى الحاجز الذي علا في روايته "خميل المضاجع" - مثلاً - أمام قرائه المشارقيين، جراء طغيان العامية المغربية. ولأن توزير زينب الرنجي هو مفتاح اللعبة الروائية، يبدو ان الرواية تسارع الى شواغل حقوق الإنسان والمعارضة والتغيير والعنف والبيئة والنسوية... فالمقدم أحمد الزيتوني يلعن "جدّ بوه صباح وجدّ بوها حقوق الإنسان" وعمر الصالحي يرسم شتات المعارضة مقابل رفع المخزن السلطة ليدٍ فيها حلوى ويد فيها عصا "أول البارحة فقط حاكموا شرطي بتهمة المس بحقوق الإنسان". وفي حوارات عادل وابراهيم وسواهما، في مقهى الحريزي وسواه، سنقرأ ان انتظار التغيير قد طال، والتغيير بدوره أطال انتظار التغيير "وها الكثيرون بدأوا يسبون التغيير قبل التغيير". كما سنقرأ وسم التطرف للجميع: الأمازيغيون والإسلاميون والنساء والرجال والأطفال الذي يواجههم المجهول. بهذا وبما سيلي، لا يعني الخطاب الروائي فضاءه المغربي وحسب، بل يعني - على الأقل - الفضاء العربي الإسلامي برمته. وهنا يأتي تقديم ابراهيم للتأويل على الوصف، واعتبار الأول علم العلوم ومنتهى المعرفة، كما يأتي قوله: "انكم لستم بحاجة الى كتّاب بالفعل، وانما الى شهداء لإرواء نهمكم الآتي من الرعب، الى أنبياء جدد يتحملون عنكم وزر الشهادة". وهنا يأتي مفهوم آخر للبلاغة كما يراها عادل، هو في ان تعكس كل ما يجدّ في المجتمع، وبخاصة التطلعات العميقة لدى الناس، والا ستظل تعبر عن الماضي، وليس عن الحاضر، وستظل غريبة، ويكون ممارسوها أقرب الى المستعربين. على ان رهان الخطاب الروائي هو على النظرية التي حملت الرواية اسمها: "الاناقة"، كما جاءت في الدراسة "اللعبة الروائية" التي قدمها البروفسور جمال العوني، بطلب من المعهد العالي وتمويله - كاليفورنيا - للبحث في الأشكال الخارجية. فالأناقة من الناحية التاريخية هي القناع، ثم الظل، ثم الفراغ، ثم البساطة، لكنها من الناحية التعبيرية الأهم هي أناقة البساطة وأناقة القناع وأناقة الفراغ وأناقة الظل. وإذا كان فصل "مساء الفصول الأربعة" سيقطع تقديم النظرية بهجوم الملثمين على شقة زينب الرنجي، ففي ما سيلي، سنرى أن أناقة القناع الأكثر شيوعاً في البلد، تقوم على وظيفة الإخفاء والتظاهر، وليست خاصة باللباس، بل "تهم كل ما ليس لك حقاً، وما لا يعبر عنك بالفعل"، وبالإمكان تسميتها أناقة الواجهة، أو أناقة الوظيفة أو المهنة، أما أناقة الخواء أو العري فهي توسيع لمفهوم اللباس كي يشمل كل ما يسعى الفرد أو الجماعة الى الستر به من غطاء ودور وذهب وعلاقات وكُفُنٍ وقبر، ومع ذلك يظل المرء عارياً. في المقابل تقوم أناقة البساطة كمزيج مما سبقها، يجمع بين العري والظل والصدى. وهذه الأناقة لا تزال - بحسب البروفسور العوني - نادرة عندنا، كأناقة التهكم، ولكن هي ما ينبغي ان يشكل القاعدة، لأنها تعبر عن أعلى ما ينشده الإنسان. وإذا كانت قد ظهرت في الغرب منذ قرنين، فهي عندنا ابنة أربعة عقود. وبتعميم مفهوم الأناقة يبدو لباس البهلوان هو الأناقة معكوسة، وهذا هو الشكر في هذا التعبير الذي يصدم السجع بالسيالة الحداثية: "الشكر أناقة وشكر النعمة بخاصة لياقة كالتحية كالابتسامة كالمودة وشر الناس الذواقة والعاقل الحكيم من تجنب الآه والأرق والأنين واستبدالها بالحمد والشكر والآمين في كل حين". على هدي من هذا النظر الفلسفي يلي خبر جماعة فريق النجدة وخبر الكوخو الذي اشتهر بالخنزير وبالكلب الشيطاني، لكأن ما يقوم به من الاغتصاب والقتل باسم تلك الجماعة، ولكأن تلك الجماعة - وشعارها القسطاس والإخلاص والشرف - تنهض معادلاً لما نرى من تحدي عبلة لأبيها الحاج محمد الرنجي، ومن اليوم الدراسي الذي نظمته جمعية مناهضة العنف بالتعاون مع منظمات حقوق الإنسان، حيث تصدت عبلة لعمتها زينب الرنجي رئيسة الجلسة، كما تصدت للجميع في تبرئتهم المرأة من أي أمر، وسخرت من الرجال الذين صاروا أعنف نسوية من قديسات الحداثة وراهبات المساواة. وتعود الأناقة في حفل البتول الذي يجمع زينب بالمرشح بمنصب الوزير الأول، لتغدو الكرم عند مدام المسكي، ولتكون في مواجهة العنف، ثم تختم البتول الرواية بقولها: "الحب أناقتنا الوحيدة، خارج الموضة، ضد الزمن، ضد الرجل، لمقاومة الشيخوخة، الحب الخير كله، لا خير سواه، في هذه الدنيا". هكذا تتوج بيان الميلودي شغموم في الحد بين الهزل والجد، وفي هذا التتويج يتلامع المنجز الروائي الذي حققه، وبالضبط حيث لا يزال ينتظر الرواية العربية الكثير، سواء على مستوى الرواية الساخرة أو على مستوى الرواية الفلسفية.