إذا كان اللقاء السوري - العراقي يبدو محرماً أو شبه محرم منذ عشرات العقود، فإن ذلك ظل ينتظر تعبيره الروائي، حتى جاءت رواية السوري غازي العلي («سموات الوحشة» - دار الكوكب، رياض الريس 2009) التي لم تنتظر ما يقال عن ضرورة «التخمّر» للرواية، أي ضرورة أن تنتظر الرواية سنوات يتناسب طولها مع القدرة على الكتابة عن حدث جلل. غامرت «سنوات الوحشة» في المطابقة بين زمن كتابتها وزمن أحداثها، ولنضف الآن زمن قراءتها، شأنها في ذلك شأن الكثير من جديد الرواية العربية مما يلتبس بالشهادة، ويحف به مزلق المرحلية والراهنية. يتعلق الأمر بطوفان العراقيين الذين ناهزوا المليون ونصف المليون ولجأوا إلى سورية، وبخاصة دمشق، وتحديداً منها ذلك الحي الطرفي بموازاة طريق المطار: حي جرمانا الذي شكّل الشطر الأكبر من فضاء رواية «سموات الوحشة». ففي هذا الحي تقيم العراقية رحاب التي تبدأ الرواية بها كمومس يصادفها الصحافي السوري خالد عرب، الذي تربطه الصداقة مع الفنان التشكيلي جهاد. ويصادف خالد عند جهاد تلك العراقية، فيكتشف أنها فنانة تشكيلية قطعت الحرب دراستها في كلية الفنون. وترجو خالد أن يُبقي أمرهما سراًً، فأمها مريضة وليس لها من معيل إلاها، وأبوها وأخوها قتلا في سيارة مفخخة في بغداد. تلعن رحاب الأميركيين الذين احتلوا العراق وجعلوها عرضة للتشرد والحاجة؛ ويتجدد لقاؤها مع خالد عرب، وتحكي له قصتها منذ الطفولة حتى عملها في دمشق بدوامين، ولكن بما لا يعادل أجر البيت. وها هي تتعهر وتنتظر الفيزا التي سيرسلها لها ولأمها، الخال المقيم في هولندا. ومما تكتب رحاب لخالها أن من اللاجئين العراقيين من هو حاله «مثل حالنا، يعيشون على الكفاف، أما حرامية المواسم (لصوص فترة الفوضى التي جاءت بعد الاحتلال مباشرة)، فإنهم يصرفون الدولارات بالبلاهة، بعضهم أقام مشاريع بمئات آلاف الدولارات، والسوريون يتهمونهم بغسل أموال مسروقة من العراق. العراقيون هنا قلما يعملون. منذ الصباح طوابير أمام السفارات للفيزا. أما النساء العراقيات اللواتي كان يسميهن صدام بالماجدات، فقد تحول بعضهن إلى عاهرات، إما بدافع الحاجة أو بدافع البطر». وتحدّث رحاب خالها عن «معركة جرمانا» مما قد يكون لا يزال عالقاً في ذاكرة كثيرين، وهي نشبت بين شباب الحي ورهط من العراقيين إثر تعرض أحدهم لشابة سورية. وفي موازاة خط العراقية في الرواية، يأتي خط الشاب زهير الذي يقصد الراقصة الشرقية كاميليا لتعينه على تحقيق حلمه: أن يكون أول رجل في سورية يمتهن الرقص الشرقي، مثله مثل بعض شبان أوروبا ومصر ولبنان والمغرب! وقد أيقنت كاميليا للوهلة الأولى أن «الأنوثة المنسكبة على جسده المتسق النحيل تنم عن خلل فيه يجعله الأقرب من الشلة إليها». وإذ يخبر زهير أمه بخبره مع كاميليا، تجن، فيرد عليها قائلاً: «ألم تصفقي لرقصي وأنت تندبين حظ شقيقاتي البنات اللواتي كنت أرقص أفضل منهن؟ ألم تجعليني ألبس مثلهن، وأضع على وجهي مثل الذي يضعنه على وجوههن، فما الذي حدث الآن لكي تمنعيني من عمل ما أحب؟». تروي كاميليا علاقتها المبتورة مع أهلها، وكيف تركت عملها في مؤسسة صحافية، وهي الجامعية التي درست الفلسفة، لأن رئيس التحرير أرادها خليلة. أما زهير (زوزو) فكانت الأنوثة تضج في كل قطعة من جسده، بوجود شقيقاته أو مع رفاقه في الكافيتريا. لكنه مع كاميليا يشعر أن تلك الأنوثة تسقط بين قدميها، ويحلم بها كأي رجل، ويخاطبها محتداً: «الرقص شيء والرجولة شيء آخر». وإذا كانت كاميليا تصل بينه وبين صاحب الملهى حيث يرقص، فنجاحه يدوي. وتصل كاميليا بينه وبين زميلها سابقاً خالد عرب الذي أجرى حواراًً مع الحالة الفريدة في البلد: الشاب الذي يمتهن الرقص الشرقي. ومما يقوله زهير: «أظن أن الموهبة لا توقفها عادة ولا عرف اجتماعي» وكذلك: «عندما أرقص، فإن ذلك يتطلب مني بعض الأنوثة، علماً أن هذه الصفة موجودة عند أي رجل، ولكن بنسبة مختلفة عما هي عند المرأة، ولكنني لم أحاول أبداً أن أظهر مفاتن جسدي». وينفي زهير أن يكون شاذاً أو مثلياً. يغضب الحوار والدة زهير الذي يُضرب في الشوارع، يتصفح اللافتات التي تعلن عنه وسط مهرجان من الألوان والخطوط والزخرفات، ويودع حالة التصقع التي تسم روحه. غير أن اثنين يختطفان المسكين ويعتديان عليه، فيروي مأساته لكاميليا، ويداور الانتحار، ويقسم على ألاّ يعود إلى الرقص، فتتبدد مغامرة الرقص في الرواية، بكل ما تكتنزه من دلالات، سواء ما تعلق منها بالجسد أم بالمجتمع أم بالفن. تشكيل روائي في الخط الروائي الآخر، خط رحاب، يحضر الفن التشكيلي في الرواية. فمرسم جهاد «نسيج عنكبوتي تداخلت فيه اللوحات والبراويز والفراشي وعصارات الألوان والخرق والورق، وكانت القذارة المنحدرة من أعلى الستارة على شكل خطوط طولانية، تتهاطل إلى أسفل في صخب متفرج». وكان رسم الأربعيني جهاد لرحاب لوحة تروم أن تحييها في حجاب ألوانه، لتقول الحكاية في الرواية: «كان يا ما كان في قديم الزمان، فنان موهوب من الشام، أحب فتاة بغدادية تنطق بالحسن والكمال». وقد بدأ جهاد يرسم لوحة رحاب عندما شعر أن علاقته بها بدأت تتشرنق. أما لوحة رحاب، فجاءت بغير ما عرف عن جهاد من حبه للألوان الصارخة، وجعلته للمرة الأولى يكتفي بالأبيض والأسود. وإذا كانت رحاب سترسم في مرسم جهاد، فهي لن تبادله العشق، لأن العشق أخذها إلى خالد كما أخذ خالد إليها. وهنا يأتي الخط الروائي الثالث، خط خالد الذي يشبك خطي رحاب وزهير المتوازيين، فينهض البناء الروائي المحكم والمدل بجديلة الخطوط الثلاثة. يتوزع خط خالد بين الماضي والحاضر. في الأول تحضر تجربته في السجن، وما يكتبه من مذكرات عن تلك التجربة منذ الاعتقال حتى الإفراج، حين يرى في ما يرى النائم أن «نفسي تعرت من جسدي(...) إلى أن وجدتني أتزود بجسد آخر لا يشبهني - أرى المحقق نفسه الذي تركته قبل ساعات يرتدي جسدي ووجهي». وقد أثبت الكاتب ملاحظة في ختام روايته تؤكد أن بعض ما جاء بين قوسين في الرواية، أُخذ عن الأنترنيت بتصرف من مذكرات سجين مجهول. وسواء أكان ذلك حقاً أم هو من قبيل التقية، فقد اتقدت الرواية كلما كانت تجدل في خط خالد الماضي بالحاضر، إذ يتداخل صوت المحقق بصوت رحاب فيعجز خالد عنها. أحب خالد رحاب وأراد الزواج بها، فإذا بالعار «يدب حثيثاً في عروقها، بعدما شعرت للمرة الأولى وهي في دمشق، أنها أصغر مما كانت تعتقد، بعدما غدت تستقبل زبائنها واحداً تلو الآخر، في تلك الغرفة الكئيبة». لقد كانت أمها القشة التي قصمت ظهرها، وللمرة الأولى تشعر رحاب أنها أصغر من أن تكون إنسانة، كما تصرح لخالد الذي تباغته، بعد كل ذلك، عذريتها! يرسم وصول الفيزا نهاية الرواية، حيث تؤثر رحاب الهجرة على الزواج من خالد الذي يودعها ملتاعاً: «آه يا رحاب... لو أنني فقط التقيتك في مكان ما غير هذا المكان وفي زمان غير هذا الزمان». وكانت رحاب من قبل قد أصمّتْ عن نداء جهاد، لكأن الرواية ترسل إشارتها إلى استحالة هذا الحب العراقي - السوري. وكما تبدد الرقص يتبدد الحب، وتكتمل الخسارة في رواية مميزة، لعبت لعبة العناوين الطويلة التي لازمت روايات فواز حداد. ومن المعلوم أن باختين سمى رواية الاختيارات تلك الرواية ذات العناوين الطويلة التي تضم تفريعات كثيرة. وقد كان هذا النمط من العنونة سائداً في الكتب الكلاسيكية، بحيث يسعى الكاتب الى شرح الكتاب (أو الفصل) من خلال العنونة بأسلوب مباشر. لكن العنونة ليست سوى لعبة واحدة مما لعبت الرواية، إن باللغة أو بالبناء المتفرع المجدول، وبتلمّس النبض الإنساني العميق وتحويل الشهادة على الحاضر أو الراهن إلى سردية بديعة.