على رغم التوتر الذي يشوب العلاقة بين العلمانية الغربية والأقليات المسلمة بين الحين والحين، إلا أنها تظل واحدة من أفضل العلاقات بين الكيانات الحضارية المختلفة، بل يمكن القول إن العرب، إلى ما قبل العقد الأخير هيأوا مناخاً من الحرية للدعوة الإسلامية ربما لم يتوافر لها في الأغلب الأعم من الدول الإسلامية ذاتها. حتى جاء القرار الفرنسي بحظر الحجاب في المدارس الرسمية بما يشبه الانقلاب في هذه العلاقة، لأن السجالات الطويلة التي سبقت إصدار القرار تستبعد افتراض الجهل في الجانب الفرنسي بما يمثله الحجاب من وظيفة وفريضة شرعية ملزمة للمرأة المسلمة، وكونه ليس مجرد رمز ديني يتساوى في ذلك مع رموز دينية أخرى تم حظرها ولم يأتِ بها أي ذكر في كتبها المقدسة، وهو الأمر الذي يعمل على شرحه وإبلاغه للسلطات الفرنسية الآن، فقهاء ومفكرون وجهات إسلامية عدة. وقول الرئيس شيراك إن الحجاب يتناقض مع مبادئ العلمانية الفرنسية هو محاولة لإلباس السياسي ما هو أيديولوجي. فباستثناء العلمانية المادية المتطرفة التي تم تطبيقها في الاتحاد السوفياتي وبعض الجمهوريات الاشتراكية الأخرى ظل الفكر العلماني يعمل على التفريق بين تدخل الاعتقاد الديني في السلوك العام للأشخاص والسلوك الخاص. وبينما تم استبعاد التدخل الأول فإنه وقف موقف الحياد من التدخل الثاني، فهذه هي المنطقة المحظورة التي تتقاطع فيها مبادئ كثيرة أخرى مثل الحرية الدينية وحقوق الانسان، وهي جميعاً ما يلتزم به الدستور الفرنسي. ولا يمكن القول بأية حال إن خيار الإنسان ستر أعضائه من دون ارتباط ذلك بأية شارات محددة، هو أمر يخرج عن دائرة السلوك الخاص للإنسان ولا يتكافأ من حيث الضمانات التي تكفلها له الدساتير العلمانية الغربية ومبادئ حقوق الإنسان مع خيار العُري. وقول الرئيس شيراك إنه يرى في ارتداء الحجاب سلوكاً عدائياً للحضارة الغربية قول يعكس تصاعد حدة التوتر بين الغرب والالتزام الاسلامي خصوصاً. فسواء كان المسلمون الملتزمون معتدلين أو غير متعدلين فمن بينهم تأتي معظم مخاوف الغرب الآن، ومن ثم ينبغي تقليص الأقلية الإسلامية الضخمة الكائنة في فرنسا بهذا القرار الملتف فلا يكون أمام المسلمين الملتزمين خيارٌ سوى التنازل عن التزامهم أو الاحتفاظ به بعيداً عن البلاد. حقاً إن القرار ما زال خاصاً بالمدارس الرسمية ولكن لا بد من النظرپإليه في سياق التوجه العام للبلاد. وهكذا فإن القرار يطرح الى السطح إشكالية أكثر خطورة وهي إشكالية العلاقة بين العولمة والخصوصية والمعايير التي تحكمُ كلاً منهما. ففرنسا التي رفعت شعار الخصوصية الثقافية في مواجهة نمط الحياة الأميركي تعادي أحد أشكال الخصوصية الشخصية للإنسان المسلم. واذا مضت دول غربية أخرى في الاتجاه نفسه فإن تداعيات المسألة وانعكاساتها ستوقف كثيراً من المد المتصاعد للعولمة الغربية. * كاتب مصري.