ضربت "الست أم احمد" بيدها على صدرها وشهقت بقوة لدى سؤالها عن موقفها من رغبة ابداها احمد 25 عاماً للاستقلال بحياته بعيداً عنها وعن "أبو احمد" وبقية اخوته، لانه كبر، وتساءلت بحنق وغضب: "كِبر؟ كِبر على أمه؟ وحتى لو كان كبر، يهجرنا؟ ثم من اين سيأتي بالخلو والمقدم والاقساط اللازمة لينتقل الى شقة خاصة به؟ إن راتبه يكفيه بالكاد للمواصلات وساندوتشات الفول". وبعيداً من بيت "أم احمد" الآيل للسقوط منذ ما يزيد على سبعة اعوام في أحد احياء القاهرة الغارقة في الفقر، جاء رد فعل السيدة آريني زوجة رجل الاعمال المرموق مطابقاً لموقف "أم احمد" الشاجب، وإن خلا من "الشهقة". ضربت بيدها ايضاً على صدرها، لكن برقة وقالت: "Impossible، تامر 29 عاماً لن يخرج من فيللا ابيه إلا حين يعثر على ابنة الحلال، وسأدبر له فيللا قريبة". وإذا كانت "أم احمد" والسيدة آريني استنكرتا في شدة استقلال ابنيهما بحياتهما بعيداً عنهما طالما انهما لم يتزوجا بعد، فإن الاستنكار كان حتماً سيتحول الى صدمة عصبية شديدة لو كان السؤال يتعلق بابنتيهما. فمن الثوابت المصرية التي لم تفلح العولمة والهيمنة الغربية في زعزعتها، مسألة معيشة الأبناء مع الاهل في بيت واحد حتى لو كانوا الابناء بلغوا من العمر أرذله، فالابن والابنة لم ولن يتركا بيت الاهل إلا إذا جاءت ابنة او ابن الحلال، أو سافر احدهما للدراسة أو العمل، لا سيما بالنسبة الى الذكور. وإذا كان استمرار وجود الابن والابنة في بيت الاهل بعد سن السادسة عشرة أو الثامنة عشرة في الدول الغربية أمراً مثيراً للدهشة، الا ان استقلال الابن عن حياة الاسرة برغبته أمر غير مقبول في المجتمع المصري بسبب العادات والتقاليد. وعلى رغم ذلك، استقل محمد عبدالعزيز 35 عاماً بحياته لكنه كان مجبراً. فهو من سكان احدى قرى محافظة اسيوط. جاء الى القاهرة منذ ما يزيد على عشر سنوات بعدما تخرج في كلية التجارة، بحثاً عن فرصة عمل في العاصمة، وفعلاً حصل على وظيفة في مصرف حكومي بعد وقت قليل من البحث وكثير من الوساطة، وظل طوال سنوات عدة يعيش في شقة مفروشة يتقاسم دفع ايجارها مع زميلين له. وبفضل حرصه في الإنفاق، وقطعة الارض التي كان يمتلكها ابوه وباعها، تمكن من تسديد الجزء الاكبر من ثمن شقة في مدينة 6 أكتوبر على مشارف القاهرة. ويقول محمد: "هذه الشقة هي كل ما أملك، لذا فما زلت ابحث عن إبنة الحلال التي ترضى ويوافق اهلها على قبول عريس يملك شقة لُقطة لا غير"، أي أنه غير مستعد للمساهمة بأي شيء آخر في الزيجة. ولما كانت تلك الشروط مثبطة لعزم عرائس عدة يحلمن بما هو أكثر من ذلك بكثير، فإن عبدالعزيز توقع أن يبقى وضعه الاجتماعي على ما هو عليه حتى إشعار آخر. ويروي محمد كيف تمكن من فرش بيته فيقول: "على مدى العام ونصف العام الماضي تمكنت من فرش الشقة تدريجاً وبالاسلوب الذي كنت أحلم به، والفضل في ذلك يعود الى شيئين: "الوسيط" و"المناصرة". ويوضح عبدالعزيز المقبل على حياة العزوبية بروح رياضية فضل جريدة "الوسيط" الاسبوعية الاعلانية: "كنت اتابع قسم اعلانات الاثاث المنزلي المستعمل، وأتصل بأصحاب الاعلانات التي تتشابه مواصفاتها وذوقي الخاص، وكنت اطلب ممن يتوافر له جهاز كومبيوتر متصل بالانترنت ان يرسل لي صورة فوتوغرافية لقطع الاثاث المعنية، وتمكنت بهذه الطريقة من شراء غرفتي نوم، وسفرة ومكتبة ضخمة تحوي حالياً كتبي، وشرائط الكاسيت والفيديو والاسطوانات المدمجة الخاصة بي، إضافة الى جهاز تلفزيون 26 بوصة. صحيح ان ذلك استغرق وقتاً طويلاً، لكنني امتلكت ما أردت". ويشير عبدالعزيز الى أنه دفع في غرفة نومه المصنوعة من الخشب الارو، والمكونة من فراش ضخم، و2 كومود، وتسريحة، وخزانة ملابس "بلاكار" ست ضلف، 3500 جنيه، بينما سعرها في السوق لا يقل عن ثلاثة اضعاف ذلك. أما غرفة الطعام، فطراز "لوي سيز" لويس السادس عشر بالنحاس وتتكون من 2 بوفيه، وطاولة بيضاوية مع ثمانية مقاعد بألفي جنيه فقط، أما المكتبة فدفع ثمنها 400 جنيه. ويقول إنه اضاف نحو ألف جنيه لما دفعه نظير خدمات "الاستورغي" الذي نظف وأعاد دهان الاخشاب فبدا الاثاث كأنه جاء لتوه من صالة عرض راقية، وهنا بدأ دور "المناصرة" في تأثيث شقة عبدالعزيز. والمناصرة منطقة شعبية متاخمة لحي محمد علي الشعبي والعريق في آن. شوارعها بحاراتها وأزقتها، مجموعة من ورش المصنوعات الخشبية من مقاعد وطاولات واسرّة وخزانات وكل ما يوضع في البيوت مصنوعاً من الخشب. وتكمن اهمية هذه المنطقة في أنها تصنع البنية الاساسية للغالبية العظمى من محال بيع الاثاث، بجميع مستوياتها في مصر. ومن المناصرة، أتى عبدالعزيز ب"الاستورغي" الاختصاصي في تنظيف الاخشاب وتلميعها وهو الذي أعاد الحياة الى الأثاث القديم. أثاث عبدالعزيز القديم - الجديد اشبه بصفر على اليسار أمام محتويات شقة او بالاحرى "ستوديو" منة 29 عاماً، التي تزوجت بعد قصة حب دامت خمس سنوات في الجامعة، وطلقت بعد معارك ومشاحنات زوجية استمرت عشرة شهور. منة نموذج لما يمكن ان يطلق عليه Career woman أو امرأة تحترم عملها في شدة، تدرجت في سنوات قليلة في عملها في احد فنادق القاهرة الكبرى، ووصلت الى منصب اداري قيادي، وعقب طلاقها اشترت شقة صغيرة لكن حديثة وأنيقة جداً في عمارة فاخرة في حي مصر الجديدة الراقي على بُعد ناصيتين من بيت والدها. اشترتها وأثثتها ونقلت ملابسها وحاجاتها الشخصية اليها، ثم دعت والدها ووالدتها ذات مساء على العشاء، واصطحبتهما الى شقتها الجديدة التي لم يعلما عنها شيئاً، وهناك ابلغتهما انها ستعيش وحدها، لانها نضجت وتحتاج الى مساحة وخصوصية لن تجدهما في بيت العائلة. وبعد انتهاء حال الهرج والمرج التي سادت الاسرة برمتها، بدءاً من الوالدين، ومروراً بالأعمام والاخوال، وانتهاء بالاقارب من الدرجتين الثالثة والرابعة، ابدى الجميع إعجابه بالشقة الجديدة، بمن فيهم ابن خالتها الذي اتهمها ب"الانحراف". وعلى رغم ان الشقة لا تتكون إلا من غرفة واسعة تقوم بمهمة الاستقبال والمعيشة والطعام والمطبخ الذي يقبع في احد اركانها، إضافة الى غرفة نوم صغيرة وحمام، إلا ان تأثيثها كلف ما يزيد عن 90 ألف جنيه مصري. مكونات الغرفة الخارجية اريكة ابتاعتها من محل يبيع الاثاث الاميركي المستورد بسبعة آلاف جنيه، وطاولة مستديرة من المحل نفسه ب12 ألف جنيه، ومكتبة صغيرة مفرطة في الحداثة ب15 ألف جنيه وتحوي اجهزة موسيقية، وجهاز تلفزيون بنحو عشرة آلاف جنيه، أما المطبخ والحمام، فقد ابتلعا مبلغاً مشابهاً، إذ أدخلت منة "جاكوزي" طالما حلمت به الى الحمام. وتقول "منة" إنها راضية بنسبة 90 في المئة عن حياتها، فهي ناجحة جداً في عملها، وتملك مملكة صغيرة هي شقتها الخاصة بها التي تشبه البيوت السينمائية، لكن يزعجها اللقب الذي اضحت معروفة به بين سكان العمارة وهو "الست التي تعيش وحدها".