الجيش يتقدم لتطهير وتأمين جنوب الخرطوم    «الأخضر الشاب» يقترب من العرش الآسيوي    غداً.. تسليم 4 جثامين إسرائيليين مقابل 625 أسيراً فلسطينياً    المحكمة العليا تدعو إلى تحري رؤية هلال رمضان يوم الجمعة 29 شعبان    تجمّع مكة الصحي يكمل تجهيز 8 مستشفيات و 43 مركزًا صحيًا    إقامة أسبوع التوعية بمرض الحزام الناري بالمملكة    ضبط 6 وافدين لممارستهم أفعالا تنافي الآداب العامة في أحد مراكز المساج بجدة    بموافقة خادم الحرمين.. توزيع 1.2 مليون نسخة من المصاحف وترجمات القرآن في 45 دولة    «صفقة القرن» بين واشنطن وكييف    مدير الأمن العام يرأس اجتماع قادة قوات أمن العمرة    الدولار يتراجع إلى أدنى مستوى في 11 أسبوعًا    لموظفيها العزاب : الزواج أو الطرد    بحث أهمية الأمن السيبراني في الإعلام الرقمي ودور الذكاء الاصطناعي بهيئة الصحفيين بمكة    5 عادات شائعة يحذر أطباء الطوارئ منها    أمانة الشرقية: مواقف السيارات مجانية    الكويت تسجل 8 درجات تحت الصفر في أبرد أيام فبراير منذ 60 سنة    الحسم في «ميتروبوليتانو»    السعودية تتصدر مؤشر الأعلى ثقة عالمياً    وزير الدفاع يبحث العلاقات الاستراتيجية مع مستشار الأمن القومي الأمريكي    لاعبون قدامي وإعلاميون ل"البلاد": تراجع الهلال" طبيعي".. وعلى" خيسوس" تدارك الموقف    القيادة تهنئ أمير الكويت بذكرى اليوم الوطني لبلاده    وزير الدفاع ووزير الخارجية الأميركي يبحثان العلاقات الثنائية    مملكة السلام.. العمق التاريخي    اجتماع سعودي-أمريكي موسع يناقش تعزيز التعاون العسكري    أكد ترسيخ الحوار لحل جميع الأزمات الدولية.. مجلس الوزراء: السعودية ملتزمة ببذل المساعي لتعزيز السلام بالعالم    وافدون يتعرفون على تأسيس المملكة في تبوك    سفير خادم الحرمين لدى فرنسا يقيم حفل استقبال بمناسبة «يوم التأسيس»    تأسيس أعظم وطن    تشغيل «محطة قصر الحكم» بقطار الرياض اليوم    وسط ترحيب لا يخلو من ملاحظات.. البيان الختامي لمؤتمر الحوار: الحفاظ على وحدة سوريا وسيادتها.. وإعلان دستوري مؤقت    شهر رمضان: اللهم إني صائم    اليمن.. مطالبة بالتحقيق في وفاة مختطفين لدى الحوثيين    السعودية.. قبلة الدبلوماسية المتجددة    «ساما» يصدر لائحة المقاصة النهائية    خفاش ينشر مرضاً غامضاً بالكونغو    وكيل إمارة الرياض يطلع على تقرير الموارد البشرية    الأمن المجتمعي والظواهر السلبية !    عبدالعزيز بن سعد يرعى حفل إمارة حائل ب«يوم التأسيس»    نائب أمير الرياض يُشرّف حفل سفارة الكويت بمناسبة اليوم الوطني    أمير تبوك يرأس اجتماع الإدارات المعنية باستعدادات رمضان    النحت الحي    جبل محجة    ليلة برد !    اختبارات موحدة    البرتغالي لياو على رادار الهلال    120 خبيرًا ومتخصصًا من 55 دولة يبحثون أمن الطيران    البنيان: هدفنا تعليم ضمن أفضل 20 نظامًا في العالم    مسابقة الوحيين في إندونيسيا..التحدي والتفوق    مدير الأمن العام يتفقّد جاهزية الخطط الأمنية والمرورية لموسم العمرة    فيصل بن بندر يرعى احتفاء «تعليم الرياض» بيوم التأسيس    سعود بن نايف يطلع على مبادرة «شيم»    أنشطة تراثية في احتفالات النيابة العامة    النائب العام يبحث تعزيز التعاون العدلي مع الهند    سقوط مفاجئ يغيب بيرجوين عن الاتحاد    دونيس: مهمتنا ليست مستحيلة    تقنية صامطة تحتفي بذكرى يوم التأسيس تحت شعار "يوم بدينا"    155 أفغانيا يصلون إلى برلين ضمن إجراءات إيواء الأفغان المهددين في بلادهم    «الصحة»: تحصّنوا ضد «الشوكية» قبل أداء العمرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شيراك وشيخ الأزهر والحجاب : في كيفية صنعنا ل... أعدائنا
نشر في الحياة يوم 04 - 01 - 2004

كأنهم كانوا على أهبة الاستعداد. ما ان أصدر الرئيس الفرنسي قراره بمنع الحجاب في المدارس الرسمية، حتى استنفر ضده رجالُ الدين وأترابُهم من القادة و"المفكرين" الاسلاميين. وبسرعة تبعث على الحسد: رئيسُ الدولة الايرانية، شيوخٌ ومراجعُ "اجتهاد"، مفتون سابقون وحاليون، زعماءُ دينيون تلفزيونيون، وحتى زعماء دينيون - سياسيون ناشئون. كلُّهم وقفوا وقفةَ رجلٍ واحد، وقالوا "لا للقانون!". أحدهم أصدر فتوى ضده، والآخر طالب بمقاطعة البضائع الفرنسية، والثالث اعتبر ان القانون الفرنسي "ضد الاسلام" يقف خلفه "الصهاينة"، ذلك "لأن الإسلام يتكاثر في أوروبا ويدخلُ الناسُ فيه أفواجاً". وذهب رابع الى التحذير: "إن كانت فرنسا تمنع الحجاب الآن على المسلمات، فهي ستجعل المسلمين يشربون الخمر غداً". فيما لم تتوانَ احدى الصحف القومية - اليسارية عن اتهام شيخ الأزهر، الدكتور سيد طنطاوي، بأنه "خذلَ المسلمين في معركة شيراك". فهذا الشيخ وقف وحيدا بحكمته، إذ قال "إن القانون شأن فرنسي، ونحن لا نتدخل في شؤون فرنسا الداخلية".
والجامع بين اطراف هذا الاستنفار "المشيخي"حدّة اللهجة والعصبية الفائقة. كلهم أنشدوا اللحن الواحد إياه: "فرنسا! بلد التعددية والحرية! بلد حرية الاديان! تقمع المسلمين في واحدة من عقائدهم!؟"... إستنكار مَن التقط في غريمه عيباً بعد طول معايبة!
لقد أصيبوا بنشوة القوة ونسوا أنفسهم في غمرتها. نسوا انهم يفعلون تماماً ما يؤاخذون فرنسا عليه. ففي ايران، كما في أروقة المشايخ، بل عند الظهور معهم على شاشة التلفزيون، على المرأة ان ترتدي الحجاب على رأسها. هذا قانونهم، حتى لو كانت هذه المرأة غير مسلمة. يفرضون قانون حجابهم أينما استطاعوا، ولو حلّلت لهم الدولة، لفعلوا مثل إيران: كل النساء يُحجبن قانونيا، ومهما كانت ديانتهن! أما فرنسا، وهذه من ميزات الأعداء، ف... ديموقراطية. ولأنها كذلك، عليها تغيير دستورها وقوانينها من اجل إرضاء شيوخ لا يقف أحد ضد طغيانهم!
لم نرَ يوماً المشايخ، سُنةً وشيعة، موحّدين، كما توحّدوا ضد شيخ الأزهر وضد الرئيس الفرنسي. ما السر؟ ما الذي يجعل الحجاب عاملا موحدا بين مشايخ مختلفي المذاهب والتكوينات؟ لمَ هذا الهوس بالمرأة؟ وبهذه العصبية والحدّة؟ وكيف يحصل ان يهبّوا هبة رجل واحد وبسرعة البرق من أجل حجاب النساء فيما تراهم غائبين، مشتتين، صامتين حول قضايا أخرى لا تقل خطورة؟ فنحن لم نسمع لهم هذا الصوت الموحد العالي والغاضب عندما تزايدت جرائم الشرف ضد النساء، وعندما أجهض الاخوان المسلمون الأردنيون مشروع قانون لإلغائه. أين كانوا ساعتئذ؟ كذلك لم نسمع لهم صوتاً حول مسألة ختان الاناث. هل هذا يقره الشرع الاسلامي، وهو قطعاً لا يفعل؟
أم الحقيقة أنه لم يبقَ من آفة يتوحدون ضدها غير انقشاع شَعر النساء؟
ثم كيف كتب لهم ان حوّلوا الحجاب الى "عقيدة" و"شريعة" مثل "الزكاة" و"الصوم"، بل مثل العقيدة نفسها، فيما لا يستندون الى حجة دينية واضحة ومقنعة؟ فالحجاب ليس وارداً بصراحة إلا لنساء الرسول صلعم، ولا هو مسمّى بوضوح في الحديث الشريف. يتحججون بالآية الكريمة "وقل للمؤمنات ان يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخُمُرِهِن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن"، فيما لم يتم الاتفاق حتى الآن على معنى "الخمار" و"الجيوب". وهذه نقطة تحتاج الى أخذ وردّ وليس الى فتاوى تغلق باب العقل والتمحيص والتدقيق!.
لِمَ إذاً كل هذا التشبث ب"ثوابت" غير دقيقة، وقصر هذا التشبث على المرأة تحديداً، من دون غيرها من "المجالات"،؟ وفي اكثر جوانبها رمزية وابتعادا عن تسمية الواقع؟ هل لأنها مجال صلاحياتهم المتبقي؟ أي "الشريعة"، المنظمة لحياة النساء الخاصة وإرثها وحضانتها وزناها ونشوزها، فيحملونها بالرموز والدلالات الكثيفة، ويتمسكون بها كما تتمسك الجماعات المهنية بآخر وظائفها؟ ربما.
لكنهم، بالتأكيد، بدفاعهم عن هذا المجال بالطريقة التي يفعلون، يظهرون ضيقاً في الخيال وفي المعرفة. يلومون فرنسا على فرضها القوانين العلمانية، فيما هم يفرضون قوانينهم الاسلامية على من استطاعوا. أهذا استغفال لعقول الناس، أم شحنة ديماغوغية اخرى ستلقى آذاناً صاغية وسط الشباب المسلم المهمش والمضطهَد في عصر يزدهر فيه اي قول ديني إسلامي؟
ثم، تراهم يأخذون على فرنسا عِلة أخرى: إنها ليست علمانية مئة في المئة. وإلا ما احتفظت بمظاهر المسيحية وأعيادها ومبانيها. فهم بقلّة درايتهم بالتاريخ وتغيراته، أو بالأحرى، بتخيّلهم إياه على أنه غزوات تحطّم تماثيل الجاهلية، يتصورون ان فرنسا العلمانية مصفّاة من تاريخها وشخصيتها المسيحية الماضية.
إن حظ الشابات المسلمات الفرنسيات ليس كبيرا مع شيوخ "الداخل" هؤلاء. فهن اخترن في البدء الهوية للتصدي للتهميش الاقتصادي والاجتماعي، وكان رمزها الحجاب. وفي هذا العصر المشحون بالاسلامية الاصولية، ومع طغيان هذا النوع من الاسلام وآثار 11 أيلول سبتمبر وتقوقع المسلمين بسبب ردة الفعل الغربية العنيفة عليها، بات هذا الرمز مُلحاً: كأنه يعلن الاختلاف سلفا حماية لهويته. وهذه مشكلة، ليست لفرنسا العلمانية فحسب، بل للمهمّشات اللواتي يخلطن بين الهوية والحرية. أما استنفار المشايخ وأترابهم ضد قانون الحجاب، فسوف يعزّز هامشية هؤلاء الشابات ويقف عائقا أمام اندماجهن. لم يأتِ شيخٌ واحد وينصح بأن واحدة من أقنية الاندماج هي في الاقتصاد والمهارات المهنية، او في إحياء الفنون والثقافات المهمّشة، بما تثاقفت به مع البلد الذي استقبلها. وقد لا يريد الشيوخ للمهمشات الاندماج. بحجة عدم امّحاء الهوية الأصلية، وبدافع منهم في إبقاء عالم الرموز والدلالات حياً.
كلا، إن الرسائل المفتوحة الموجهة الى الرئيس الفرنسي والتشجيع على التظاهر ضد القانون واطلاق الحملات على فرنسا، آخر اصدقاء العرب، تنتمي الى مدرسة تحسن شيئاً واحداً: كيفية خسارة الأصدقاء وكيفية صناعة الأعداء لنفسها ولكل مصدّق قولها. فكلما تم التأكيد، وبعدوانية خطابية، على الهوية الخاصة، سوف يطلع من قلب فرنسا من يؤكد أيضا على مزيد من الخصوصية لهويته. وهكذا حتى نصل الى يوم، يترحّم فيه المسلمون الفرنسيون على جاك شيراك، لأنه كان أقرب الرؤساء الفرنسيين الى عقل المسلمين وقلبهم. والآتي سيكون عظيم في ما لو بقيت هذه المدرسة تعزف منفردة على حبال تهميش الهوية وكيفية "تعزيزها"، بعدوانية قادرة على إيقاظ الهويات "النائمة".
والأغرب من كل ذلك، صمت النساء العربيات غير المحجبات. كأن الحجاب تحول لدى هؤلاء السافرات الى موضوع محرّم: يتم تجنّبه او تجاهله في أفضل الاحوال. وإلا انهالت على الواحدة منهن تهم الكفر والضلال والارتداد عن الدين، فيؤثرن السلامة في انتظار أن تمر العاصفة. لكن العاصفة باقية، وخسائرها حتى الآن فادحة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.