بقدر ما أدهشنا موقف الرئيس الفرنسي في انحيازه إلى تقنين منع الحجاب، فان تعليق شيخ الأزهر على الموضوع فاجأنا وصدمنا. وإذا كان بوسعنا أن نفهم الملابسات التي دفعت الرئيس الفرنسي إلى التورط في ذلك الموقف، إلا أن ما صدر عن شيح الأزهر يستعصي على الفهم. ولا يمكن أن يفسر إلا بحسبانه زلة لسان من العيار الثقيل، لم يحالفه فيها التوفيق من أي باب. (1) لقد عبرت إنجلتراوالولاياتالمتحدة عن انتقادهما لموقف الرئيس الفرنسي، باعتباره عدواناً على الحريات (وليس غيرة على الإسلام بطبيعة الحال)، ولكن شيخ الأزهر الذي يفترض انه أحد رموز الغيرة على الدين لم ينطق بكلمة نقد واحدة لذلك الموقف. ولم تكن هذه هي المفارقة الوحيدة، لان الشيخ حين تحدث في الموضوع معتبراً القرار الفرنسي "شأناً داخليا" كان يجلس إلى جواره وزير الداخلية الفرنسي شخصياً، الذي جاء إلى القاهرة خصيصاً لكي يستأنس برأي مشيخة الأزهر مدركاً أهميته، ومتجاوزاً الحدود التي وصفها الشيخ لتحصين القرار الفرنسي ضد النقد. أما المفارقة الأكبر فهي أن وزير الداخلية الفرنسي أعلن في اكثر من حديث صحفي انه كان معارضاً لتقنين حظر الحجاب، ولكنه تبنى موقف التقنين بعد أن انحاز إليه رئيس الجمهورية الفرنسي واصبح سياسة لحكومة هو عضو فيها. ولان الوزير الفرنسي نقولا ساركوزي له تطلعاته السياسية وطموحه إلى الترشيح لرئاسة الجمهورية مستقبلاً، فانه يعتبر أصوات المسلمين الفرنسيين (6 ملايين نسمة) رصيداً يريد أن يكسبه إلى صفه. وذلك عامل آخر يشجعه على معارضة القرار، الذي يعلم انه يستفز المسلمين ويثير غضبهم. أعني أن معارضته ليست منطلقة من اقتناع شخصي فحسب، ولكنها متأثرة أيضاً بحساباته السياسية المستقبلية. إزاء ذلك فان زيارة الوزير الفرنسي للقاهرة بدت خطوة في غاية الذكاء. لأنه اذا كان قد سمع من شيخ الأزهر انتقاداً قوياً لفكرة تقنين حظر الحجاب، فذلك سيقوي موقف الشخصي لا ريب، وقد يكون عنصراً مساعداً على إعادة النظر في الفكرة. خصوصاً أن مشروع القانون لم يعد بعد. وفي هذه الحالة فانه سيقابل بتعاطف وتأييد من جانب المسلمين الفرنسيين، وهي الورقة المهمة التي يسعى للاحتفاظ بها. أما اذا اتخذ شيخ الأزهر موقفاً ليناً يشجع الحكومة على المضي في عملية التقنين - وهو ما حدث - فانه سيكون بوسع وزير الداخلية في هذه الحالة أن يغسل يديه من الموضوع ويبرئ ذمته امام المسلمين الفرنسيين، ملقياً بالمسئولية على مشيخة الأزهر التي سهلت مهمة الحكومة، وسوغت لها أن تتقدم بمشروعها لحظر الحجاب. اذا صح ذلك التحليل فانه يستدعي سؤالاً ليس بوسعنا أن نجيب عنه الآن، وربما تتضح إجابته مستقبلاً، هو: هل كان يمكن حقاً أن يتراجع الرئيس الفرنسي عن قراره أو يعدل فيه لو أن شيخ الأزهر اتخذ موقفاً صريحاً معارضاً لفكرة تقنين منع الحجاب، خصوصاً انه أوفد وزيراً في حكومته إلى القاهرة للقائه بخصوص الموضوع، والى أي مدى يتحمل ما أعلنه الشيخ المسئولية عن تشجيع الحكومة الفرنسية على المضي فيما عزمت عليه؟ (2) في اليوم التالي لإعلان الرئيس شيراك تأييده تقنين حظر الحجاب في المدارس نشرت صحيفة "الجارديان" البريطانية (عدد 17/12) مقالاً لإحدى كاتباتها - مادلين بونتنج - انتقدت فيه القرار بشدة، ووصفته بأنه تعبير عن "جنون العلمانية". وهو وصف على شدته يخفف من تشخيص الحالة الفرنسية. إذ ليس صحيحاً أن للعلمانية موقفاً واحداً من الدين، باستثناء الاتفاق على تهميش دوره في الحياة العامة. ذلك أن ثمة علمانية متصالحة مع الدين، كما في إنجلترا التي تتولى فيها المملكة رئاسة الكنيسة، وهناك علمانية مخاصمة للدين انطلقت من فرنسا، التي قامت ثورتها في عام 1789 أساساً ضد الملكية وضد طغيان الكنيسة الكاثوليكية وسلطانها. وهذا التفاوت في الموقف من الدين نلاحظه جيداً في أوساط عناصر العلمانيين العرب الذين استجلبوا الفكرة معهم بعد دراستهم في الخارج، حيث اغلب غلاتهم ممن درسوا في فرنسا، والمعتدلون منهم لهم من خريجي الجامعات البريطانية. إذا كان ذلك هو موقف الثقافة الفرنسية التقليدية من التدين بوجه عام، فان التدين الإسلامي كان ولا يزال له وضعه الخاص، من حيث انه يستعصي على عملية التذويب بأكثر من غيره لأسباب يطول شرحها، وان قبل الاندماج والتفاعل. وبسبب ذلك الاستعصاء فان الحملة عليه شديدة وتعبئة الغلاة للجماهير ضده لا تتوقف. وفي سياق هذه الحملة كان إصرار نخبة الغلاة شديدا على تخلي المسلمين عن أية خصوصية لهم، والانخراط فيما سمي ب "الإسلام الفرنسي" الذي اصبح الالتحاق به يقاس بمقدار استعداد المسلم للتخلي التدريجي عن شعائر دينه. وهو ما اصبح معياراً وحيداً "للاعتدال" في نظرهم. ومن الثابت أن قضية الحجاب أثيرت في فرنسا بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران، التي ألزمت النساء بعدم الظهور سافرات في الأماكن العامة، الأمر الذي كان له صداه الاحتجاجي والغاضب في فرنسا. سواء بسبب حساسية موضوع المرأة في الثقافة الفرنسية، او بسبب العلاقات التاريخية الخاصة بين طهرانوباريس (لا تنس أن الفرنسية كانت لغة البلاط الشاهنشائي، وان الإمام الخميني اختار فرنسا منفى له حين أبعد من العراق وان باريس ظلت أحد معاقل المعارضة الإيرانية). منذ ذلك الحين اعتبر الحجاب رمزاً للعداء للغرب في الخطاب الإعلامي المبسط، طالما انه كذلك في إيران. وجرى تسويق الفكرة حتى رفضت مدرسة حكومية في "سيال" قرب باريس قبول تلميذتين مسلمتين في منتصف الثمانينيات، لأنهما ارتدتا حجاب الرأس. وثارت ضجة آنذاك اضطر إزاءها وزير التعليم العالي إلى إحالة الأمر لمجلس الدولة، الذي قرر أن الرموز الدينية لا تتعارض مع العلمانية، ما لم تكن مصحوبة بأي شكل من أشكال الوعظ او الاستفزازات العرقية. ولكن التعبئة المضادة استمرت، وتكررت حالات طرد المحجبات من المدارس، بل وأعلن المدرسون العاملون بإحدى المدارس الثانوية خارج باريس إضرابا عن العمل لمدة أسبوع، احتجاجاً على إعادة قبول تلميذة كانت قد فصلت في السابق لارتدائها الحجاب. وفي هذه الأثناء كان اليمين الفرنسي (حزب الجبهة الوطنية) يصعد حملته ضد الأجانب عموماً، والمحجبات خصوصاً. وظلت حملته تلك تكسبه أصواتاً وأرضاً جديدة كل حين. وفي ظل تلك الضغوط شكل الرئيس شيراك لجنة "ستاسي" لدراسة الموضوع في شهر سبتمبر الماضي. التي خلصت إلى عدة توصيات في صدده بينها أنها أيدت إصدار قانون يحظر الحجاب في المدارس والمعاهد. وكان مدهشاً أن الرئيس الفرنسي أيد مطلب تقنين الحظر. وطلب من الحكومة إعداد مشروع قانون بهذا المعنى. كأنما صدق الزعم أن الجمهورية الفرنسية بكل هيبتها وجلالها يمكن أن يهدد أركانها حجاب ترتديه بعض التلميذات المسلمات. ولم يفت بعض معارضي شيراك أن يلفتوا النظر إلى انه بخطوته تلك كان متطلعاً إلى انتخابات البلديات التي ستجرى في شهر مارس المقبل، وأراد أن يسحب من حزب الجبهة الوطنية ورقة مهمة كان يستخدمها في كسب الأصوات، ومنهم وصف موقفه انه بمثابة ضربة استباقية - اذا استخدمنا قاموس المفردات الأمريكية - يفوت بها على الجبهة الوطنية فرصة المزايدة عليه بتبني الدعوة لمنع الحجاب. إذا صح أن عين الرئيس شيراك كانت على انتخابات البلديات، فان تركيزه على هذا الجانب افقده الكثير، حتى ازعم أن فرنسا خسرت بسبب موقفه هذا ثلاث مرات: فقد خسرت سمعتها في العالم الإسلامي كبلد يجسد الالتزام بالحرية وحقوق الإنسان - وخسرت ثقة مسلميها بملايينهم الستة الذين خرجت مظاهراتهم رافعة لافتات تقول: ان القانون المقترح حرب ضد الإسلام وليس ضد الحجاب - وضيعت فرصة اندماج وتفاعل المسلمين مع المجتمع الفرنسي. حيث من الطبيعي أن يتوجس المسلمون وينعزلوا عن ذلك المجتمع الذي يحرمهم من الالتزام بشعائر دينهم. (3) حين تطرق شيخ الأزهر إلى الموضوع في المؤتمر الصحفي الذي حضره وزير الداخلية الفرنسي، فانه وقع في خطأين كبيرين، أولهما انه كان محايداً إزاء الموقف الفرنسي وغير متحفظ عليه من أي باب، وثانيهما انه بدا غير مدرك لخلفيات وملابسات وأبعاد الموضوع. كان بعض الغيورين والمعنيين بالشأن الإسلامي قد توجسوا خيفة مما يمكن أن يصدر عن الشيخ بعد لقائه مع الوزير الفرنسي. وبعد اتصالات تمت في هذا الصدد، فإنه تلقى ثلاثة نماذج مكتوبة تضمنت نقاطاً مقترحة للتركيز عليها في تحديد موقف متوازن وحازم إزاء القضية. منها مثلاً أن الزي الذي ترتديه الفتيات المسلمات ليس شعاراً للتميز او الدعاية، ولكنه شعيرة دينية كالامتناع عن شرب الخمر او أكل لحم الخنزير او الامتناع عن العمل يوم السبت بالنسبة لليهود. وهو في هذه الحالة يختلف عن "طاقية" اليهود او الصلبان التي يعلقها بعض المسيحيين، وهي التي لا يؤثم المتدينون اذا لم يرتدوها، بعكس حجاب المسلمات. وطالما انه شعيرة شخصية تمارس في حدود النظام العام. ولا تتصادم مع مصلحة جماعية للشعب الفرنسي، فلا محل لتقييدها من جانب نظام دستوري وقانوني يحمي حرية الاعتقاد وحرية ممارسة الشعائر الدينية. من هذه الزاوية فان القانون المقترح في فرنسا يخص المسلمين بقيد على ممارسة شعائرهم لا يوضع على اتباع الديانات الأخرى. وهو أمر من شأنه أن يكرس عزلتهم وغربتهم في فرنسا. إضافة إلى ذلك - أشارت الأوراق التي اقترحت على شيخ الأزهر - فان حظر الحجاب بقانون، يتعارض مع العلمانية، اذا فهمت بحسبانها فصلاً للكنيسة عن الدولة وعدم اعتماد دين معين عقيدة رسمية للدولة. وما يقتضيه ذلك من حقوق للمساواة بين مختلف الأديان، في حين أنه يخص المسلمين دون غيرهم بقيد على شعائرهم.. الخ. فيما بدا، فان شيخ الأزهر نحى جانباً ما قدم اليه من مقترحات، وقال كلامه الذي احدث الزوبعة، حيث ركز على ثلاث نقاط: الأولى أن الحجاب تكليف شرعي ليس لأحد أن يتحلل منه. والثانية أن الدولة غير المسلمة - مثل فرنسا - لا يلزمها هذا التكليف، وإذا اختارت أن تتخذ موقفاً يتعارض معه فهذا حقها (كررها ثلاثاً!)، والثالثة أن المسلمة التي تعيش في ظل تلك الدولة عليها أن تمتثل لما يصدر فيها من قوانين، على اعتبار أنها تصبح في حكم "المضطر" الخاضع لاستثناء الضرورة. فوجئ أعضاء مجمع البحوث الإسلامية الذين شهدوا المؤتمر الصحفي بكلام الشيخ، فسجلوا اعتراضهم عليه ونقدهم له، على النحو الذي سجلته وبثته على الهواء قناة "الجزيرة". وكانت نقطة الاتفاق بينهم أن الشيخ بما أعلنه عبر عن رأيه الشخصي، لا عن رأي الأزهر او مجمع البحوث، كما جاء على لسان الدكتور عبد الصبور مرزوق أمين المجلس الأعلى للشئون الإسلامية. وقد حاول الدكتور علي جمعة - مفتي مصر - إنقاذ الموقف عبر إعادة تركيب كلام شيخ الأزهر على نحو يتدارك ما اعتراه من ثغرات وما شابه من قبول ضمني بموقف الحكومة الفرنسية، لكن ذلك لم يغير كثيراً من الموقف. وهو ما أبرزته القناة الخامسة الفرنسية، التي بثت تسجيلاً للمؤتمر الصحفي ونقلت آراء بعض المواطنين المصريين. وهو ما بيَّن أن شيخ الأزهر يقف في جانب، بينما أغلب علماء المسلمين وعامتهم يخالفونه فيما ذهب إليه. (4) في الإعلام الفرنسي قدم الأزهر بحسبانه معادلاً للفاتيكان عند الكاثوليك. ومن ثم اعتبروا كلام شيخه صكاً يطلق يد الحكومة في تقنين حظر الحجاب، رغم إجماع الأغلبية الساحقة من علماء المسلمين على معارضته، سواء في مجمع البحوث الإسلامية او المجلس الأوروبي للإفتاء الذي يرأسه الشيخ يوسف القرضاوي. ورغم أن معادلة الأزهر للفاتيكان لا تخلو من افتعال وتغليط، ورغم أن دور الأزهر تراجع كثيراً في السنوات الأخيرة لأسباب يعلمها الجميع، إلا أن موقف شيخه من موضوع الحجاب يبدو انه سيفتح الباب لتعميم الحظر في دول غربية أخرى. والتقرير الذي نشرته "الأهرام" في 30/12 لمراسلها في ألمانيا الزميل مازن حسان، ينعى الينا ذلك الخبر. حيث جاء عنوانه دالاً ومختزلاً الموقف هناك في عبارة تقول: سباق بين الولايات (الألمانية) لسن قوانين تحظر ارتداء الحجاب (!). لا اعرف كيف تعالج المشكلة الآن. وربما كانت الفكرة التي طرحت لدعوة مجمع البحوث الإسلامية للاجتماع لمناقشة الموضوع وصياغة موقف اكثر صواباً وتوازناً، تمثل مخرجاً مناسباً. ولست متأكداً من إمكانية عقد ذلك الاجتماع، الذي يبدو أن ثمة عقبات تحول دونه، خصوصاً أن شيخ الازهر رفض فكرة إصدار بيان توضيحي لتصريحاته. ولكن إلى أن يتحقق المراد ويأذن الله بفرج من عنده، فان الجميع مدعوون لان يتوجهوا إلى الله بالدعاء كي يغفر للإمام الأكبر كبوته.