مع انتهاء الحرب التي شنتها الولاياتالمتحدة على العراق انتهت الأيام التي كان يحصل الأردن فيها على حاجاته السنوية من العراق بأسعار تفضيلية تحسب على أساس 19.5 دولار للبرميل الواحد، باعتباره حداً أعلى، وذلك بغض النظر عن سعره في السوق العالمية، فضلاً عن أنه كان يحصل على نصف حاجاته السنوية مجاناً باعتباره منحة من الرئيس العراقي السابق صدام حسين، وذلك من خلال اتفاق نفطي تجدد في نهاية كل عام اعتباراً من عام 1992 وحتى العام الماضي. غير أن الحرب التي شنتها الولاياتالمتحدةوبريطانيا على العراق في شهر آذار مارس الماضي أوقفت الاتفاق النفطي الأردني - العراقي الذي كان مقرراً أن يحصل الأردن بموجبه خلال العام الماضي على نحو 5.5 مليون طن من النفط الخام. حين قدم وزير المال الاردني محمد أبو حمور موازنة الدولة لسنة 2004 أمام مجلس النواب في وقت سابق من الشهر الماضي حرص على الإشارة إلى أن إعداد موازنة الدولة "جاء في غمرة التداعيات السلبية التي تسود المنطقة نتيجة الحرب على العراق في اوائل هذا العام 2003". ولكنه لم يذكر أن لجنة إعداد الموازنة وضعتها على أساس شراء حاجات الأردن من النفط بسعر السوق العالمية الذي يراوح حول 26 دولاراً للبرميل الواحد. لقد تمكن الأردن، الذي كان خلال الأعوام ال12 الماضية قد طوى صفحة حرب الخليج الثانية وأعاد علاقاته مع دول الخليج العربية إلى سابق عهدها، من أن يستثمر هذه العلاقات في التخفيف من الآثار السلبية لتوقف العمل بالاتفاق النفطي مع العراق بأن يحصل على نفط من كل من السعودية والكويت ودولة الإمارات حتى قبل أن تضع الحرب الأميركية - البريطانية على العراق أوزارها، ففي شهر نيسان ابريل الماضي وصلت ميناء العقبة الجنوبي الأردني أول شحنة نفط من السعودية إلى الأردن الذي كان قد توقف عن الحصول على النفط من العراق منذ اليوم الأول للحرب. وبعد أيام وصلت ناقلة نفط كويتية وأخرى إماراتية وذلك تنفيذاً لوعود كانت الدول العربية الخليجية الثلاث قطعتها للأردن بتعويضه عن النفط العراقي المفقود لمدة محددة. وعلى مدى ثلاثة أشهر منذ ذلك التاريخ ظل الأردن يحصل على نحو 100 ألف برميل يومياً من نفط الدول الخليجية الثلاث، منها نحو 50 ألف برميل من السعودية و25 ألفاً من الكويت و25 ألفاً من دولة الإمارات. ومددت المدة لدى انتهائها لأول مرة بعد ثلاثة شهور من إبرامها ثم مددت مرة أخرى حتى نهاية العام الماضي. واليوم يسعى الأردن لتمديدها مجدداً. وفي هذا الإطار تحديداً تجري اتصالات على أعلى المستويات بين مسؤولين أردنيين وآخرين من الكويت ودولة الإمارات والسعودية لتمديد الاتفاق المشار إليه أو الحصول على نفط من هذه الدول الخليجية بأسعار تفضيلية أو منحة. وكان موضوع تمديد الاتفاق مع الكويت تحديداً قد أثير مع المسؤولين الكويتيين في أثناء زيارة العاهل الأردني الملك عبدالله في وقت سابق من تشرين الثاني نوفمبر الماضي للكويت. وكان من المفروض أن يترأس وزير الخارجية مروان المعشر وفداً يتوجه إلى الكويت عقب انتهاء عيد الفطر لاستئناف بحث المسألة، ولكن الموعد تأجل إلى مطلع شهر كانون الثاني يناير 2004. وفي الوقت نفسه بدأ الأردن في شراء النفط بأسعار السوق العالمية، إذ وصلت ميناء العقبة في أواخر شهر تشرين الثاني الماضي سفينة محملة بنحو مليون برميل من النفط من أصل 2.6 مليون برميل تمثل كمية إجمالية كان اتفق الأردن على شرائها من العراق أخيراً. والجديد في الأمر أن الشراء تم على أساس 26 دولاراً للبرميل الواحد، وهو السعر نفسه الذي أعدت على أساسه موازنة الدولة لسنة 2004. وعلى رغم أن الأردن تمكن من استيعاب الآثار السالبة لانقطاع تدفق النفط العراقي على الأردن بالشروط الميسرة التي أوردناها آنفاً، فإن حكومة علي أبو الراغب اتخذت في شهر أيار مايو الماضي قراراً بزيادة أسعار المشتقات النفطية بنسب تراوح بين أربعة وثمانية في المئة باستثناء زيت الوقود المستخدم في توليد التيار الكهربائي الذي بقي على سعره، وهو ما يعني عدم النية لزيادة أسعار الكهرباء. وهكذا ارتفع سعر لتر البنزين العادي من 275 فلساً إلى 300 فلس أي بما نسبته اربعة في المئة، ولتر البنزين الخاص من 370 فلساً إلى 400 فلس، أي بما نسبته ثمانية في المئة، ولتر البنزين الخالي من الرصاص من 425 فلساً إلى 450 فلساً، أي بنسبة ستة في المئة، كما ارتفع سعر لتر الكيروسين زيت الكاز والديزل من 120 فلساً إلى 130 فلساً، أي بنسبة ثمانية في المئة، وارتفع سعر الطن من زيت الوقود للصناعات من 77 ديناراً إلى 82 ديناراً، أي بما نسبته ستة في المئة، وارتفع سعر اسطوانة الغاز السائل من دينارين ونصف إلى ثلاثة دنانير. وأدى ذلك على الفور إلى زيادة أجور نقل الركاب بوسائط النقل العمومية العاملة بواسطة مادتي البنزين والديزل فزادت التعرفة الكيلومترية لسيارات التاكسي بالعداد داخل مدن المملكة بنسبة ثلاثة في المئة، وزادت تعرفة نقل الركاب بسيارات الركوب المتوسطة والحافلات العاملة داخل مدن المملكة ومن داخل المملكة الى خارجها بنسبة اثنين في المئة. وعرضت هذه الخطوة حكومة أبو الراغب، التي استقالت في مطلع شهر تشرين الثاني الماضي، إلى انتقادات حادة من جانب قوى المعارضة من أحزاب وشخصيات مستقلة قالت إن قرار الزيادة جاء مناقضاً لما تعهدت به الحكومة نفسها قبل الحرب على العراق، حين أعلنت أنها لن تعمد إلى رفع أسعار المحروقات في حال انقطاع إمدادات النفط العراقية. ولكن وزير المال الاردني السابق ميشيل مارتو أعلن صراحة أن الحكومة اتخذت هذا القرار استجابة لشروط صندوق النقد الدولي الذي يطبق الأردن بالتعاون معه برنامجاً للإصلاح الاقتصادي ينتهي العمل به في شهر حزيران يونيو المقبل، لافتاً الى أن "جميع المساعدات الأجنبية للأردن سواء من الولاياتالمتحدة الأميركية أو الاتحاد الأوروبي أو اليابان مشروطة بتنفيذ اتفاقنا مع الصندوق الذي يتضمن الالتزام بعدم رفع عجز الموازنة، إضافة إلى استكمال الاصلاحات التي بدأها الأردن منذ سنوات". وإن كانت حكومة أبو الراغب المستقيلة عمدت إلى رفع أسعار المحروقات والأردن يحصل على النفط مجاناً، فإن حكومة فيصل الفايز ستتخذ حتماً مثل هذه الخطوة غير الشعبية في السنة الجارية والسنة التي تليها، فهذه الزيادة لا تتعلق بحصول الأردن على النفط بأسعار تفضيلية كما هي الحال مع النفط العراقي، بل تأتي في إطار الاتفاقات المبرمة مع صندوق النقد الدولي الذي كان اشترط على الأردن زيادة أسعار المحروقات على مدى ثلاث سنوات تبدأ في عام 2003 وتنتهي سنة 2005. ولمعرفة مدى حساسية اتخاذ قرار بزيادة أسعار المحروقات، في بلد مثل الأردن يدفع ما يعادل نصف فاتورة مدفوعاته السنوية للحصول على النفط، يكفي أن نشير إلى أن زيادة أسعار المحروقات التي حدثت في شهر نيسان عام 1989 جوبهت بانتفاضة شعبية واسعة أطاحت حكومة زيد الرفاعي التي اتخذت القرار آنذاك، غير أن السبب المذكور آنفا ًإضافة إلى حقيقة أن الحكومة ستشتري النفط بأسعار السوق العالمية يجعلان من مثل هذه الخطوة غير الشعبية أمراً حتمياً. ولكن مزايا الاتفاق النفطي الذي كان يجدد في مثل هذا الوقت من كل سنة لم تكن تقتصر على السعر الخاص والهدية التي كان يحصل عليها الأردن من الرئيس العراقي السابق، بل كانت تتضمن مزايا أخرى منها أن الأردن لم يكن يدفع ثمن النفط الذي يشتريه من العراق نقدًا، بل كان يدفعه في صورة سلع غذائية ودوائية ومواد أساسية غير مشمولة بالحظر الدولي المفروض على العراق منذ عام 1990، وهو ما يعني إزاحة عبء كبير عن ميزان المدفوعات، فضلاً عن ضمان العراق سوقاً تستوعب المنتجات الأردنية التي كانت تغمر السوق العراقية. لقد رتبت العلاقة الاقتصادية بين الأردنوالعراق والتي توثقت عبر أكثر من عقدين من الزمن حقائق لا يمكن حتى لحرب مثل التي حدثت فصمها، فهناك مديونية أردنية مستحقة على العراق تراكمت منذ عام 1991 لتصبح اليوم نحو 1.3 بليون دولار. كما أن هناك ديوناً لتجار ورجال أعمال أردنيين على الحكومة العراقية تحتاج إلى معالجة. وهناك العلاقات التجارية والاستثمارية التي نشأت بين رجال الأعمال الأردنيينوالعراقيين وتوثقت خلال أكثر من عقدين من الزمن والتي لا يمكن للحرب أن تقطعها. وإن كانت المديونية التي يرتبط بها البلدان موضوعاً مؤجلاً في الوقت الراهن فإن المستحقات الخاصة برجال الأعمال الأردنيين على الحكومات العراقية السابقة لا تحتمل التأجيل، وهكذا فما أن وضعت الحرب أوزارها حتى استجابت الحكومة الأردنية إلى مطالب الشركات والفعاليات التجارية والصناعية الأردنية التي تملك مستحقات على الحكومة العراقية السابقة أو أي أطراف رسمية عراقية، ووضعت يدها على الأموال العراقية التي كانت الحكومات العراقية السابقة أودعتها في مصارف أردنية في شكل ضمانات لسلع وبضائع كانت الشركات الأردنية تصدرها إلى العراق، ووضعت هذه الأموال في صندوق خاص سمي "صندوق الأموال العراقية". وبرر حاكم البنك المركزي الأردني الدكتور أمية طوقان في حينه هذه الخطوة التي أسفرت عن تجميد نحو 500 مليون دولار، بأنها اتخذت "لضمان سلامة الأرصدة وكذلك سلامة الجهاز المصرفي الأردني في الوقت ذاته". وعمدت الحكومة أخيراً إلى صرف مطالبات بقيمة مليوني دولار أميركي من صندوق الأموال العراقية المجمدة باعتبارها مستحقات لنحو 177 شركة أردنية على الحكومة العراقية. وتزامن ذلك مع تصريح أدلت به السيدة أسمى خضر وزيرة الدولة الناطق الرسمي باسم الحكومة وقالت فيه إن الأردن مستعد لاعادة الرصيد المتبقي من هذه الودائع الى العراق بعد إتمام كامل التسويات بينه وبين التجار الأردنيين. وفي الوقت الذي كانت فيه الحكومة تتخذ هذه الخطوة للمحافظة على مستحقات التجار الأردنيين، كان عدد من رجال الأعمال الأردنيينوالعراقيين يحاولون ترميم العلاقات التي توثقت عبر عقدين من الزمن بينهم وذلك بعد ما لحقها من تصدع نتيجة الحرب الأخيرة على العراق. وفي شهر أيلول سبتمبر الماضي اجتمع حوالى 40 من رجال الأعمال الأردنيين مع 30 من نظرائهم العراقيين في عمان واتفقوا على تأسيس شركة قابضة تحت اسم "الشركة الأردنيةالعراقية للاستثمار" برأس مال مقداره 50 مليون دينار، وذلك بهدف المشاركة في مشاريع التنمية في الأردن واستشراف الفرص الاستثمارية في العراق في إطار عملية إعادة إعمار الجار الشرقي للأردن والذي كان حتى سقوط نظام صدام حسين الشريك التجاري الأول للمملكة. ولكن الشركة لم تشهر بسبب تردي الأوضاع الأمنية في العراق، فلحقت هذه المحاولة بعدد من المحاولات الأخرى الهادفة إلى الإبقاء على الروابط الوثيقة بين رجال الأعمال في البلدين، ففي شهر تموز يوليو الماضي أغلقت غرفة تجارة عمان مكتباً تمثيلياً لها في بغداد بعد هجوم تعرض له المكتب، وفشل عدد من المحاولات التي بذلها الطرفان لإعادة العلاقات بين رجال الأعمال الأردنيين ونظرائهم العراقيين إلى سابق عهدها، وكان العامل الأمني هو السبب. وفي وقت سابق من الشهر الجاري افتتح رئيس الوزراء فيصل الفايز مؤتمراً اقتصادياً نظمته مجموعة استشارات المخاطر البريطانية وبدعم من الحكومة البريطانية والسفارة البريطانية في عمان تحت عنوان "العراق - إعادة بناء أمة"، وشارك فيه ما يزيد على 400 رجل أعمال من بريطانياوالعراقوالأردن وإيطاليا والإمارات العربية المتحدة، ولكن الحضور الأردني فيه لم يكن بالمستوى المتوقع وذلك نتيجة الحذر الذي يسيطر على رجال الأعمال الأردنيين والناتج عن تدهور الأمن في العراق.