من المفيد للذين نسوا طبيعة الصهيونية أو لم يفهموها أصلاً قراءة نصّين نشرا أخيراً. الأول مقابلة مع المؤرخ الاسرائيلي بيني موريس نشرتها "هآرتس" في الرابع من الشهر الجاري، والثاني مقالة من المؤرخ نفسه نشرتها صحيفة "ذي غارديان" البريطانية في 14 من الشهر. في النصين يقدم موريس بصراحة مدهشة معنى ومستتبعات المشروع الصهيوني. انه يدعي الانتماء الى اليسار السياسي، لكن قليلين فقط خارج اليمين الصهيوني المتطرف تجرأوا على طرح ما تعنيه الصهيونية بهذا المقدار من الصدق الجارح. الأهمية الخاصة لكلام موريس انه كان أول من فضح حقيقة الظروف المحيطة بولادة اسرائيل. فقد استعمل أرشيفات الدولة لتأليف دراسته الرائدة الصادرة العام 1987 عن "ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين"، ونال عليها التقدير باعتبارها مراجعة شجاعة للتاريخ. وقتها افترض كثيرون ان اطلاعه على الحقائق لا بد أن يجعله متعاطفاً مع الفلسطينيين. لكنه في السنين الأخيرة بدأ باتخاذ مواقف متزايدة التشدد، وكأنه ندم على بحثه الرائد الذي ساعد على كشف الوحشية المرافقة لقيام اسرائيل. وبدا ان هذا الاتجاه تكلل بمقالته ومقابلته الأخيرتين عن طبيعة الصهيونية. ولا بد لنا ان نشكر موريس، مهما كانت المرارة التي يثيرها موقفه، على كشفه كل ما يعتقده الصهاينة، حتى "الليبراليين" منهم، من دون أن يفصحوا عنه. في الماضي ادرك العرب أن الصهيونية السبب الأساسي للصراع العربي - الاسرائيلي. وفهم الفلسطينيون مبكراً انها تسعى للاستيلاء على وطنهم، وقاوموها، لكنهم لم يستطيعوا وقف مشروعها، حتى عندما شارك العرب في المعركة. وشاع وقتها استخدام تعبير "الصهاينة" بدل "الاسرائيليين"، و"الكيان الصهيوني" بدل "اسرائيل". وكثرت المؤلفات والمقالات والمنشورات عن الصهيونية، واعتبر العرب ان قضيتهم ضد عدوهم واضحة وضوح الشمس. ثم جاءت حرب 1967 وبدأ الغموض يتسرب الى الموقف. ذلك ان قرار مجلس الأمن الرقم 242 الذي وافقت عليه الدول العربية قام على كون أساس الصراع احتلال اسرائيل للمزيد من الأرض نتيجة تلك الحرب، من دون اشارة الى التاريخ القريب للقضية. وأصبحت هذه الفكرة المبدأ الذي سارت عليه كل اقتراحات السلام اللاحقة، اذ دارت على استعادة الأراضي المحتلة في 1967 مقابل الاعتراف باسرائيل. النجاح الأول لهذا المبدأ كان اتفاق كامب ديفيد بين مصر واسرائيل في 1979، الذي نص على انسحاب اسرائيل من الأراضي المصرية المحتلة في 1967 مقابل عقد معاهدة السلام بين الطرفين. وترسخ المبدأ بعد ذلك، وشكلت وصفة "الأرض مقابل السلام"، بمعنى الأرض المحتلة في 1967، الأساس الذي قام عليه مؤتمر مدريد للسلام في 1991. واذ اقتصرت عملية مدريد على الدول المجاورة لاسرائيل، فان مقترحات السلام السعودية في آذار مارس 2002 وسعت الوصفة لتشمل الانسحاب الاسرائيلي من الأراضي المحتلة في 1967 مقابل تطبيع العلاقات مع العالم العربي كله. هكذا اختفى عن المشهد بهدوء الموقف العربي السابق، الذي يعتبر اسرائيل دولة غير شرعية زرعت بالقوة في المنطقة، بعقيدة صهيونية لا تعرف غير العدوان والتوسع على حساب العالم العربي. وتبدو المشكلة الآن وكأنها لا تتجاوز احتلال الأراضي في حرب 1967. وعند حلها يمكن لاسرائيل التقدم للاندماج في المنطقة. لكن منظور الفلسطينيين للصهيونية كان أوضح. وقدمت منظمة التحرير الفلسطينية في 1969 رؤيتها لدولة ديموقراطية تحل محل اسرائيل لتوفر حقوقاً متكافئة لجميع مواطنيها من المسلمين والمسيحيين واليهود. كان هذا تحدياً مباشراً لفكرة دولة لليهود دون غيرهم، لكن الأهم انه عبّر في الوقت نفسه عن رفض الرضوخ لسرقة فلسطين 1948 من قبل الصهيونية. الا ان الاختلال الهائل في ميزان القوى أجبر منظمة التحرير على تعديل موقفها، واتخذت بحلول 1974 قرار القبول بأقل من ذلك بكثير. هكذا برز حل الدولتين، تلاه في 1988 اعتراف منظمة التحرير الرسمي باسرائيل ضمن حدود 1948. ثم وقعت المنظمة في 1993 على اتفاق أوسلو، الذي وفر الشرعية النهائية للصهيونية، اذ اغفلت بنود الاتفاق وضع اسرائيل 1948 واقتصرت على الخلاف على الأراضي التي احتلت في 1967. وكان معنى توقيع منظمة التحرير على الاتفاق التسليم بالادعاء الصهيوني الأصلي بفلسطين. وتكللت هذه المسيرة اخيراً باتفاق جنيف، الذي يطلب من الفلسطينيين الاعتراف باسرائيل "دولة لليهود". انه من دون شك انقلاب قلّ نظيره في التاريخ. ومع هذا التطور في المواقف كان هناك نوع من الغزل من العرب مع الصهيونية. وظهر الى الوجود بعد معاهدة السلام المصرية - الاسرائيلية عدد من المشاريع المشتركة. وفي الثمانينات، اتخذ البعض منها في الغرب شكل مجموعات حوار عربية - يهودية، وتسابق كثيرون لكسر التحريم التقليدي لهذا النوع من الاتصالات. كما كثرت اللقاءات بين الباحثين العرب والاسرائيليين. وامتدت ظاهرة المشاريع المشتركة هذه الى صفوف الفلسطينيين بعد اتفاق أوسلو. كما شهدت المرحلة الكثير من الاتصالات، العلني منها والسري، على مستوى الدول، وشاركت فيها، ولو بدوافع متضاربة، دول عرفت بالتشدد سابقاً مثل سورية وليبيا. واقتصرت هذه المبادرات على الصهاينة "الليبراليين"، وليس المجموعات الراديكالية الهامشية من اليهود المعادين للصهيونية. وبدا ان الماضي طوى العداء القديم للصهيونية باعتبارها أساس مأساة الفلسطينيين وكوارث الشرق الأوسط، وان الزمن تجاوز الخطاب المناهض للصهيونية المنتشر بين العرب في الماضي، تماماً مثلما تجاوز الخطاب الماركسي بعد انهيار المعسكر الشرقي، وبدالكثيرين ان الصهاينة، بالعكس، اناس يمكن التعامل معهم. وهنا يأتي كلام بيني موريس ليكون بمثابة الصفعة. فهو يذكّرنا بأن اسرائيل قامت على التشريد والاغتصاب والمجازر، وهو ما أكد عليه في الطبعة الجديدة من كتابه الأصلي الذي صدر بعنوان "عودة لولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين". وأضاف اليه نتائج ابحاثه الأخيرة. فالدولة الاسرائيلية لم يكن لها ان تقوم من دون اعمال التطهير العرقي، وربما كانت هناك حاجة، كما يقول، الى المزيد من هذه الاعمال مستقبلاً لضمان بقاء الدولة. ويوضح ان مبدأ القوة كان دائماً ضرورياً لفرض وجود اسرائيل وادامتها، وان عداء السكان الأصليين كان حتمياً منذ البداية وكان لا بد من الرد عليه بالقوة الساحقة. وان الفلسطينيين سيبقون دائماً مصدر خطر على اسرائيل، ولذا تجب السيطرة عليهم و"وضعهم في قفص" مثلما في الجدار الذي تعمل عليه اسرائيل حالياً في الضفة الغربية. ويقرّ بأن مشروع الدولة اليهودية فكرة مستحيلة، وان المنطق كان يفترض فشله. مع ذلك فهو يصر على الأحقية الأخلاقية للمشروع على رغم مما أحدثه من دمار، نظراً الى الحاجة الملحة الى حل لمعاناة اليهود. أما العرب فلهم، حسب موريس، ثقافة قبلية "من دون روادع اخلاقية"، وهم "لا يفهمون غير العنف". ويوسع منظوره هذا ليشمل المسلمين عموماً: "هناك مشكلة عميقة في الاسلام... حيث ليس لحياة الانسان القيمة التي لها في الغرب، ولا مكان فيه للحرية والديموقراطية والمصارحة والابداع". هذه الأقوال تعكس جوهر الصهيونية: الدولة اليهودية ما كان لها ان تقوم سوى عن طريق القوة والقسر والتطهير العرقي، وان بقاءها يستند الى القدرة على سحق كل المعارضين، وانها مدفوعة بالاقتناع التام بأصحيتها الاخلاقية، النابعة من تميز اليهود على كل الآخرين، وبهذا لا ترى في كل شيء سوى وسيلة لتحقيق غايتها. يبدي موريس الأسف لمعاناة الفلسطينيين نتيجة اقامة اسرائيل. لكنه يعتبر ذلك شراً لا بد منه لتحقيق الخير الأكبر. يقول: "حق اللاجئين في العودة الى مواطنهم يبدو طبيعياً وعادلاً. لكن يجب وضع حق العودة هذا في الميزان ازاء حق خمسة ملايين يهودي في اسرائيل في الحياة والرفاه". هكذا يبرهن موريس بوضوح على خطورة فكرة الصهيونية. إنها أساساً اقتناع بالأحقية الاخلاقية التي تبرر أي عمل تقريباً يعتبر ضروريا للحفاظ على الدولة اليهودية. واذا كان هذا يعني الأسلحة النووية والقوة العسكرية الساحقة والتحالف مع أنظمة لااخلاقية والسرقة والسيطرة على موارد الآخرين والعدوان والاحتلال وسحق المقاومة الفلسطينية وأي مقاومة اخرى من دون رادع انساني، فليكن! فكرة الصهيونية لا تزال على قوتها اليوم. إنها مزروعة بعمق في قلوب كثيرين من اليهود، في اسرائيل أو خارجها. وليس لأي عربي ان يتوهم انها في طور الاضمحلال، مهما كثر اللغط الحالي عن "ما بعد الصهيونية" أو "الصهيونية الثقافية". هذه الايديولوجية يجب ان تكون موضع رفض العالم كله، وليس فقط العالم العربي، على رغم ما فيه من تخلف وضعف. وربما كان من بين مظاهر التخلف اعتقاد بعض العرب، من حكومات وأفراد، بإمكان التوصل الى توافق مع الصهيونية، ونحن ندين لبيني موريس عندما يدحض لهم هذه الفكرة. ليس للمشروع الصهيوني مستقبل على المدى البعيد، واستمراره حتى الآن ظاهرة استثنائية لكنه لا يضمن له البقاء. وكما يقول موريس نفسه: "الدمار قد يكون نهاية هذه العملية". * كاتبة فلسطينية، زميلة أبحاث في معهد الدراسات العربية والإسلامية في جامعة اكستر البريطانية.