يمكن القول في تصنيف المؤرخين الإسرائيليين بأن بعضهم متعاطف مع القضية الفلسطينية من خلال الالتزام بحقائق التاريخ وشهاداته ووثائقه، فيما أن البعض الآخر يقف على النقيض من ذلك تمامًا - بأنها ليست قاعدة عامة فهناك مؤرخون متأرجحون بين الفئتين يزِنون الأمور بميزان مزدوج، فهم تارة مع الحق الفلسطيني، وتارة أخرى مع الإدعاءات الصهيونية حيث يعتبر بيني موريس نموذجًا لهم، وهو ما كشفه كتابه الأخير والمقابلة المطولة التي أجرتها معه صحيفة هآرتس الإسرائيلية في وقت سابق من هذا الشهر، الأمر الذي يمكن أن يكتشفه القارئ الحصيف بسهولة وهو يتابع التناقض الصارخ في أقوال موريس. وقد أجرى معه الحديث كوبي بن سيمحون بمناسبة صدور النسخة العبرية من كتابه: «دولة واحدة، دولتان: حل النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني» الذي سبق وأن صدرت طبعته الإنجليزية عام 2009 . في الطبعة العبرية الجديدة للكتاب، يضيف موريس فصلًا أخيرًا يعتبره نهاية المطاف لرحلته في الكتابة عن هذا الموضوع. وهو يصف المقال (الفصل الجديد) بأنه يهدف إلى فتح عيون القراء لرؤية حقيقة أهداف الحركة الوطنية الفلسطينية، وهي القضاء على المشروع القومي اليهودي واسترجاع كافة أراضي فلسطين للعرب والإسلام على حد قوله. لائحة اتهام الفصل الجديد في الطبعة العبرية عبارة عن مقال سياسي يبدو بمثابة لائحة اتهام موجهة للفلسطينيين. وقد استهل هذا المؤرخ المثير للجدل المقابلة بالقول إنه حان الوقت كي يتوقف عن الكتابة في موضوع النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني بعد أن توصل إلى القناعة بأنه لا سبيل إلى تحقيق حل لهذا النزاع، محملًا اللائمة على الفلسطينيين وحدهم بسبب رفضهم الدائم لحل «دولتين لشعبين». ورغم أن موريس يصنف على أنه من مؤرخي إسرائيل الجدد ذوي النزعة اليسارية الذين دأب غالبيتهم على التنديد بجرائم الصهيونية وأظهروا عبر كتبهم ومقالاتهم الميل في إلقاء اللوم على إسرائيل والحركة الصهيونية في إجهاض عملية السلام، وهو ما عبرعنه موريس شخصيًا في كتبه الذي أرخ فيه لحرب 48 ومأساة اللاجئين الفلسطينيين، إلا أنه في هذا الكتاب اتخذ منحى جديدًا مغايرًا تمامًا لآرائه السابقة. ويصف موريس المقال بأنه مقال تاريخي بقالب سياسي، وأن الهدف منه فتح أعين القراء على الحقيقة والكشف عن أهداف الحركة الوطنية الفلسطينية المتمثلة في القضاء على المشروع القومي اليهودي وتكريس فلسطين كلها للعرب والإسلام. وهو يستدل على ذلك من خلال ما ورد في الميثاق الوطني الفلسطيني ودستور حماس من عبارات (سامة) تنص على إقامة دولة فلسطينية على كامل التراب الفلسطيني، وأن هذا الموقف لم يتغير، بالرغم من اختلاف مراحل النضال، سواءً تحت قيادة الحاج أمين الحسيني، أو(خليفته) ياسر عرفات. ويتابع بأن الأمر ظل كذلك حتى خلال سنوات عملية أوسلو، وأنه في نهاية المطاف، فإن كل من حماس وكتلة فتح (العلمانية) اجتمعتا على فكرة الحكم الإسلامي على كافة أراضي فلسطين بدون دولة يهودية وبدون تقسيم. التصورات الأولى: كاذبة يشرح موريس في مقابلته مع «هآرتس» في محاولة لإضفاء الموضوعية على كتابه كيف غيرت كل من الحركة الصهيونية والحركة الوطنية الفلسطينية أهدافهما بقوله إنه منذ البداية سعت الحركتان إلى إقامة كل منهما لدولة لها على كامل الأرض. لكن حدث التحول عند نقطة معينة عندما اتبعت كل منهما مسارًا مختلفًا من حيث النوايا. وقد بدأت الحركة الصهيونية المناداة بإقامة دولة يهودية على كامل الأرض الفلسطينية، ولكن بدءًا من العام 1937، أخذ قادتها في التخلي تدريجيًا عن هذا المطلب ليعبروا عن استعدادهم للقبول بدولة يهودية ذات سيادة على جزء من فلسطين. بمعنى أنهم وافقوا على تسوية إقليمية، أو بمعنى آخر أبدوا الموافقة على فكرة دولتين لشعبين. ويتابع موريس لسمحون شرح فكرته بأن الحركة الصهيونية أدركت، تحت ضغط جرائم هتلر وتصاعد موجة اللاسامية في أوروبا أن الشعب اليهودي يحتاج بشكل عاجل إلى مهجر ودولة. ولأنه كان يتعين عليهم إنقاذ اليهود، توفر لدى الصهاينة الاستعداد للتخلي عن حلم إسرائيل الكبرى وإقامة الدولة اليهودية على جزء منها. نفس هذه السياسة وجدت الدعم من قبل القوى الكبرى التي سعت أيضًا إلى التوصل إلى تسوية . هذا التأثير - الهولوكوست، ضغط الدول الكبرى، وحتى الإحساس بالعدل أدى إلى استنتاج الصهاينة أنه لامناص من القبول بحل الدولتين. وهو ما أمكن تجسيده في القبول بخطة الأممالمتحدة لتقسيم فلسطين عام 1947. لكن موريس سرعان ما يناقض نفسه بالقول إن الحركة الصهيونية لم تكن تدعم دائمًا فكرة الدولتين لشعبين بشكل كامل. ويتابع أن ذلك كان التيار السائد في الفترة (1948-1977)، ثم عاد مرة أخرى بقوة منذ العام 1992. وإنه باستثناء بضع سنوات من الإحساس بالنشوة عندما كان اليمين الإسرائيلي يحكم، فإنه روج مرة أخرى لفكرة إسرائيل الكبرى. لكن مع اندلاع الانتفاضة الأولى نهاية عام 1987 تبددت تلك الفكرة، عندما أظهر ثلثي الشعب الإسرائيلي تقريبًا دعمه للتسوية التي تدعو إلى حل الدولتين. فإذا أضفنا إلى ذلك ما ذكره بن جوريون على إثر صدور قرار التقسيم وقبول إسرائيل به (بتحفظات) بأنه لا توجد في التاريخ تسويات نهائية، لا تسويات نظام، ولا تسويات حدود» لأدركنا دون عناء أن الحركة الصهيونية منذ قيام إسرائيل حتى الآن هي التي ترفض حل الدولتين. وهنا ينبغي التذكير بأن موريس سبق وأن ذكر في مقابلة سابقة مع هآرتس في 9/1/2004 أن بن جوريون ارتكب خطأ جسيم بعدم إتمام مهمة الترانسفير في حرب 48. شيزوفرانيا سياسية يمكن الاستدلال على الازدواجية التي ينتهجها موريس في كتاباته التاريخية من خلال الرجوع إلى كتابه «1948: تاريخ الحرب العربية- الإسرائيلية الأولى» الذي كشف فيه عن وثائق تؤكد تلقي مندوبي دول في الأممالمتحدة لرشاوى من أجل التصويت إلى جانب قرار التقسيم نهاية نوفمبر 1947. بل إن موريس يحكي لسمحون كيف بدأ كتاباته التأريخية عن اللاجئين الفلسطينيين عام 1982 (أي قبل 30 عامًا) بأنه استوحى فكرة الكتاب (ميلاد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين) من حادثة طرد سكان اللد والرملة التي كتب عنها إسحاق رابين، ومن مشهد طرد اللاجئين الفلسطينيين من مخيم الرشيدية أثناء الحرب اللبنانية (1982). وقد اعترف موريس بحقيقة أن هجرة الفلسطينيين (1947-1949) جاءت نتيجة الهجمات الإسرائيلية الحربية، وأنه جرى طرد الفلسطينيين من العديد من المناطق تحت طائلة المذابح الصهيونية. لكننا نراه في عام 2004 في مقابلته مع هآرتس يغير موقفه بالقول إن (الطرد) لا يندرج تحت بند جرائم الحرب، وأنه كان هنالك بعض الظروف في التاريخ برر فيه طرد السكان. ويكشف موريس عما يمكن أن يكون سببًا لتغير مواقفه من خلال إجابته على سؤال حول ردود فعل الدولة (إسرائيل) على نقضه روايتها الرسمية حول طرد ونزوح الفلسطينيين عام 1948 بقوله إنه عومل كعدو للدولة، وأنه تعرض للتهميش ولم يسمح له بالعمل في الجامعة رغم حصوله على الدكتوراه في التاريخ من جامعة كمبريدج واصفًا تلك المرحلة بأنها كانت عصيبة عندما ظل عاطلًا عن العمل طيلة 6 سنوات عاش خلالها على الاستدانة من أصدقائه لإعالة أسرته. وأنه لولا توسط عزرا وايزمان (الرئيس الإسرائيلي في ذلك الوقت) لما عين في جامعة بن جوريون (عام 1997) في النقب. تناقض آخر يمكن الاستدلال عليه أيضًا تمثل في رفضه الخدمة في حي القصبة (نابلس) خلال الانتفاضة الأولى التي اعتبرها حق شرعي للشعب الفلسطيني للانتفاض ضد احتلال دام 20 عامًا، ووقوفه ضد الانتفاضة الثانية بحجة أن الفلسطينيين أظهروا رغبة واضحة لتدمير إسرائيل!. تجاهل الحقيقة الكبرى في تفنيده لموقف فتح من التسوية، وأن هذا الموقف لا يكاد يختلف عن موقف حماس بشأن رفض حل الدولتين، وهو التمسك بحل الدولة الفلسطينية على كامل التراب الفلسطيني، يحاول موريس إثبات أن عرفات حتى وفاته، وحتى أبو مازن الآن، دأبا على محاولة التقرب إلى الغرب من خلال التظاهر بقبول حل الدولتين، فيما هما في حقيقة الأمر يؤمنان بالدولة الفلسطينية الواحدة التي يمكن تحقيقها عبر سياسة المراحل. وهو يتجاهل بهذا الطرح الحقيقة الكبرى المتمثلة في أن الصهيونية هي التي طبقت هذا النهج عندما قبلت بجزء من فلسطين بموجب قرار التقسيم الصادر عام 1947، كخطوة أولى على طريق الاستيلاء على كامل الأرض الفلسطينية (وهو ما حققته بالفعل في حرب 67) وكيف بذلت جهدها - حتى الوقت الراهن- لتعطيل تنفيد قرار التقسيم (181) الذي يدعو إلى حل الدولتين، وهو ما أكدته بشكل أكبر في التنصل من التزاماتها باتفاقيتي أوسلو وقرارات الأممالمتحدة ذات الصلة، وبقرارات اللجنة الرباعية، وغير ذلك من القرارات والمبادرات والاتفاقيات الإقليمية والدولية من خلال مواصلة الاستيطان والاستيلاء على المزيد من أراضي الضفة الغربية، ومواصلة مخططات تهويد القدس، وسياسات الاعتقال والإبعاد والحصار وهدم المنازل.