ليس متوقعاً أن يتصاعد موقف المرجع الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني إلى مستوى الإفتاء والحكم بالجهاد والمقاومة المسلحة ببساطة أو بسرعة، ذلك أن السيد الذي لا يقول بولاية الفقيه، لا يمارس دوراً ولائياً في السياسة العراقية، محتفظاً بموقعه الولائي المتّفق عليه فقهياً في حدود الأمور الحسبية. وعلى فرضية مستبعدة في كون السيد السيستاني يفكر بالولاية على الشأن السياسي، فإنه من التعقل والعلم والحكمة وإدراك حساسية موقعه وعمومية هذا الموقع وحساسية الوضع العراقي، حيث يأخذ في اعتباره أن هناك تعدداً شيعياً لا يستطيع اختزاله فضلاً عن أن يكون يرى أو لا يرى مصلحة في هذا الاختزال. ولذلك فقد حرص منذ البداية على التشاور الدائم مع مجلس الحكم الانتقالي، آخذاً في اعتباره تعدديته العراقية وتعدديته الشيعية، إلى حد يمكن القول إن هناك اتفاقاً ضمنياً، وقد يكون صريحاً، على تعدد الأدوار وتكاملها في المحصلة ومن هنا تنبغي قراءة الكلام الذي يقوله الموصولون دينياً وعلمياً وإدارياً من العلماء الشيعة بالسيد السيستاني، مع التفريق الرقيق بين نماذج منهم تحسب حساباً دقيقاً لمطابقة كلامها مع الموقف الفعلي لمرجعيتها في النجف، وأخرى تأخذها الحماسة إلى مستوى تصعيدي قد يكون مفتقراً إلى الواقعية والصدقية أحياناً. ومن هنا، فإن مفاتيح موقف السيد السيستاني الفعلي يمكن أن نجدها في كلام السيد علي الصافي وكيله في البصرة، وهو إلى وكالته عن المرجع يتمتع بموقع قيادي تاريخي يرقى إلى مستوى الزعامة العامة في منطقته، إذ قال كلاماً اعتراضياً محسوباً مفاده "أن الشيعة سيسعون إلى تحقيق أهدافهم بالوسائل السلمية في الوقت الراهن... والعراقيون لا يحتاجون إلى العنف للحصول على حقوقهم ما دامت هناك وسائل سلمية يمكن اللجوء إليها. وإذا وجد العراقيون أن الوسائل السلمية لم تعد متاحة سيتعين عليهم البحث عن وسائل أخرى". وهذا الكلام هو الأقرب إلى نهج السيستاني الذي يخشى أن يقع شيعة العراق في ما وقعوا فيه في مواجهة الاحتلال الإنكليزي، من دون استبعاد، حتى المقاومة العسكرية، ولكن بعد استنفاد كل الوسائل... ولا يبدو حتى الآن أن كل الوسائل استنفدت، بدليل أن السيستاني أصر على الانتخاب، لأسباب مبدئية في الأساس، ولأسباب تتصل بخوفه من أن تتحوّل الحكومة الموقتة إلى حكومة دائمة وألا يصار بعد تشكيلها من جانب المجلس الجديد المعين إلى الانتخابات المتفق عليها بعد أشهر، إذ يمكن المحتل أن يفتعل ما يتذرع به لإلغاء الانتخابات والاحتجاج بأي أمر آخر. وهذا الخوف يغذيه لدى السيستاني ما يتناهى إلى سمعه من ثقاة بأن سلطة الاحتلال تحكم قبضتها تدريجاً على شؤون العراق ومستقبله من خلال تنظيمات متتابعة تعطيها صفتها القانونية، حيث يصعب على أي سلطة مقبلة أن تبدل فيها. لكن إصراره على الانتخاب لم يشهره سلاحاً ضد المجلس الانتقالي الذي سبق له ووافق أو وقّع على الاتفاق حول التعيين أو الانتخاب المحدود، بل إن المرجع الشيعي أظهر إصراره وصعد بعد لقاءات ومشاورات مع أعضاء المجلس كاشفوه فيها بمخاوفهم وكاشفهم باعتراضاته، وتم الاتفاق على أن يبادر السيد إلى اعلان موقفه، أو إعادة الإعلان احتياطاً للعراق والعراقيين، واستناداً إلى تقارير خبراء في الشأن العراقي قالوا بإمكان إجراء انتخابات عامة، غير مثالية طبعاً، ولكن تكفي نسبة المشاركة فيها لإعطائها صفة الشرعية النسبية، تمهيداً لشرعية أعلى وأوسع بعد انتقال السيادة وإجراء اللازم من إحصاء وإعداد وتنظيم إداري وأمني. وهنا، خوفاً من الوقوع في إشكالية معقدة، تؤدي في ما تؤدي، إلى إحكام قبضة المحتل على البلد من دون أن يصدم قوى معينة تتواطأ معه على التفريط بالسيادة والاستقلال، شرع السيستاني بالتشاور مع أعضاء المجلس في البحث عن مخرج، أي عن حل وسط بتحسين شروط الاختيار أو التعيين، لجعله حالة وسطاً بين التعيين وبين الانتخاب العام، على أساس القاعدة الشرعية في عدم سقوط الميسور بالمعسور، والتي تكلم عنها أعضاء المجلس في لقائهم مع السيد طمعاً بشيء من التنازل على مقتضى القواعد الشرعية، فبادرهم بالجواب الواضح: ولكن أين هو الميسور؟ مشككاً في كفاية ما يطرحه المحتل ليكون يسراً أو تيسيراً على العراقيين مع تأكيده أنه غامض وغير مفهوم تماماً إلا في ما يعود إلى استثارة الشك في النيات المبيتة. واستمر البحث... فتم التوجه إلى الأممالمتحدة، بعد نقاش طويل، طالب فيه السيد بأن يكون للمنظمة الدولية دور ورأي، مبدياً استعداداً للالتزام. وتمّ الاتفاق على مفاتحة الأممالمتحدة بالأمر، لكن السيد تحفظ معتبراً أن لا داعي لفتح مشكلة كبرى مع سلطة الاحتلال بالعمل من وراء ظهرها تماماً، إلا إذا تعنتت. واتصل بعض أعضاء المجلس بالحاكم الأميركي بول بريمر الذي استشاط غضباً لأن الأممالمتحدة هي التي خرجت من العراق ولم يخرجها أحد، فإذا ما أرادت العودة لا يمكن أن يكون موقعها خارج المنطقة الخضراء في بغداد، أي في محيط إدارة الاحتلال أمنياً وسياسياً. ورحبت الجهات المتصلة بكوفي أنان بهذا التوجه، وبادر أنان بكلام غير مكتوب، خارج تقريره الذي قدّمه إلى الأممالمتحدة، وأرسل مجلس الحكم رسالة إلى الأممالمتحدة يطلب فيها حضور فريق منها إلى العراق للاستكشاف، فردّت بدعوتها إلى لقاء مع أعضاء من المجلس في نيويورك، بين 5 و19 من الشهر الجاري للاتفاق على آلية العمل. وهنا أصر بريمر على حضور اللقاء بعدما صدرت عنه تصريحات أقرب إلى السلب منها إلى الإيجاب في ما يخص المسار الجديد المقترح. وعاد الإمام السيستاني إلى التصعيد والمزيد من الإصرار على الانتخاب، لكن هذا لم يمنع بعضاً من أعضاء المجلس من الارتخاء في المطالبة، ما ظهر وكأنه تعارض مع موقف السيد، خصوصاً ما جاء في كلام السيد عدنان الباجه جي الرئيس الدوري للمجلس بعد لقائه السيستاني الذي أعاد على مسمعه فهمه للمسألة و"أن البديل عن نقل السلطة في حزيران/يونيو بسيط... فإما أن نبقي على الجدول الزمني وإما أن نؤجل كل العملية سنتين" لعدم إمكان الانتخابات في رأيه. أمام هذا الكلام، وحتى لا يفهم أنه تساهل أو تنازل أو تهاون أو تناقض من جانب مجلس الحكم مع السيد، وإصراراً منه على المخرج بشروط أفضل على أساس القاعدة الشرعية بأن ما لا يدرك كله لا يُترك جله، كانت تظاهرتا البصرةوبغداد والتظاهرات المنتظرة لاحقاً، لتظهر ان السيستاني لا يمزح، وأنه يمثل حالة مرجعية عامة لا اختلاف عليها وأنه يعرف أكثر من غيره مزاج العراقيين ورأيهم، وأنه الأقوى على قيادتهم في الطريق الصحيح الذي يحفظ للعراق استقلاله من دون الوقوع في مغامرات غير محسوبة. لذلك كان واضحاً. "وإذا كانت الأممالمتحدة عاجزة أو غير راغبة في لعب دور مهم في العراق، فإن ذلك لن يقودنا إلى تأجيل عملية انتقال السلطة". وعلى هذا أين يقع كلام السيد محمد باقر المهري من الكويت وتهديده بإصدار فتوى من جانب السيد السيستاني تنزع الشرعية عن الحكومة العراقية التي يعينها الاحتلال في حال عدم استجابة مطلب إجراء الانتخابات؟ علماً أن السيستاني قال سلفاً بعدم شرعية التعيين، في حين كان يبحث عن حل وسط، أي حركة يمكن أن يكون لها مقدار من الشرعية يكتفى به ريثما تتحسن الظروف للاختيار الشعبي الواسع والحر... من هنا يقع كلام المهري في موقع الحماسة لموقف السيستاني أكثر من كونه كاشفاً عن رأيه بالمعنى الشرعي. وكما اكتشف الأميركيون موقع الإمام الخميني لاحقاً وبعد فوات الأوان، وبعدما ظنّوه موقعاً أدبياً عابراً في الثورة والدولة في إيران، اكتشف بريمر قبل فوات كل الفرصة، ربما، موقع السيستاني، وربما انتبه إلى علامة قوة مميزة في هذا الموقع وهذا الدور كان يعتبرها علامة ضعف، وهي أن السيد لا يحمل مشروعاً سياسياً خاصاً، بل يتشبث بدوره الإرشادي القوي حيث يصعب معارضته من الأطراف السياسية متفرقة ومجتمعة. لذا سارع إلى التأكيد على لسان ناطق باسمه "أنه يكنّ احتراماً كبيراً جداً لآية الله السيستاني الذي يمثل قسماً كبيراً من العراقيين". و"سنواصل تشجيع القادة مثل آية الله السيستاني على أداء دور كبير في بلاده كما فعل خلال الأشهر الماضية". فهل هذا الكلام مقدمة للاتفاق على مخرج يتبادل فيه السيستاني وقوات الاحتلال التنازلات من أجل حل وسط بين التعيين والانتخاب؟ أم هو إقرار بواقع لتهدئته والبدء بالسعي للالتفاف عليه وإنهائه لاحقاً؟ وإن كان لا بأس بقبول هذا الكلام قبولاً مشروطاً، والانتظار من دون وقف المساعي الحكيمة لإنجاز الاستقلال والسيادة والنهوض في العراق من دون مغامرات أو مقامرات أو تنازلات إلا في حدود الجزئيات والتفاصيل حفاظاً على الأصول، آخذين في الاعتبار أن المحتل محتل وأن العراق تحت الاحتلال. المنطق والتجربة والخطاب الأميركي، كلها تلزم التقليل من حسن الظن والتفاؤل، وتشجع على الاحتياط بإبقاء احتمال الالتفاف قائماً، من دون أن يعني ذلك بالضرورة أن جميع شروط السيد السيستاني معرضة للشطب والإلغاء، بل ربما كانت هناك استجابة أميركية محدودة لشروطه، بما هي شروط العراق المحتل والملحّ على السيادة والاستقلال. والسيد السيستاني فقيه ومرجع، وعالم عاقل، أي إنه يمانع ويعاند بناء على معايير المصلحة والمفسدة المراعاة في الفقه والفتوى والحكم، والموازنة بين المهم والأهم الترتب بحسب المصطلح الأصولي الفقهي، والحساب الدقيق للمحاذير تجنباً للوقوع في الأشد محذورية... وهذا ضمان للعراق من الاندفاع في طريق المغامرة أو المقامرة في ظروف قاهرة. ويبقى السيستاني ضمانة لا تشوبها شائبة، وإن استذكرنا في هذا المجال محادثات حسين - مكماهون على إيقاع الحرب الكونية ومراوغات الخطاب البريطاني، فإننا نميز السيد السيستاني عن الشريف حسين، في أن السيد لا حزب له ولا رهط ولا أسرة ينحصر حضورها وطموحها في السلطة، والمسافة بينه وبين كل الأطراف العراقية والفئات الشعبية واحدة، على اختلافها. على أن القبول المتعقل بالأمر الواقع لا يعني تسليماً نهائياً بالنتائج، بل يعني صبراً وحكمة مسلحة بإرادة الاستقلال والسيادة والحرية، جاهزة لاستخدام كل الوسائل المشروعة للحظة المناسبة، من دون تأجيل المعجّل أو تعجيل المؤجّل. * كاتب ورجل دين لبناني.