أربك موقف المرجع الشيعي الأعلى آية الله العظمى السيد علي السيستاني المعادلة السياسية التي نجح الاميركيون في فرضها في العراق على مدى الشهور الماضية في أعقاب انتصارهم العسكري الذي أبقى البلاد من دون نظام ولا قوى سياسية تدير المؤسسات فيه. وثار الجدل بين السيستاني ومجلس الحكم في أعقاب الاتفاق الذي أبرم منذ أكثر من اسبوعين بين المجلس من جهة والحاكم الاميركي المدني للعراق السفير بول بريمر والخاص بنقل السيادة. وتضمن الاتفاق، الذي طبخ على عجل وأقر في 24 ساعة بدلاً من 72 ساعة كان بريمر منحها للمجلس، آليات لاقامة برلمان ودستور وحكومة موقتة لادارة البلاد وتمثيلها في صورة تتيح تحويل قوات الاحتلال الاميركية الى قوات صديقة لا تتحمل مسؤولية قانونية دولية عما يجري في العراق، مع بقائها في الوقت ذاته في قواعد عسكرية ستمنح لها بموجب اتفاقات أمنية ثنائية. ويتضمن الاتفاق في مرحلة لاحقة اشراف الحكومة والبرلمان الموقت على كتابة دستور العراق الجديد واجراء انتخابات عامة ستفضي الى قيام برلمان وحكومة منتخبين عن طريق الاقتراع المباشر. وكان السيستاني، على مدى الشهور الماضية، ألح على نقطة حاسمة لم تغفلها فتاواه المتكررة ولقاءاته مع الزعماء السياسيين الذين وافق على الاجتماع معهم عدا الاميركيين الذين رفض لقاءهم باستمرار هي ضرورة كتابة الدستور بأيدٍ عراقية منتخبة. وشكلت هذه المسألة حجر عثرة دارت حولها كل المساعي السياسية السابقة التي شغلت العراقيين في الشهور الماضية، حين كان الاميركيون يصرون على كتابة الدستور قبل القبول بتسليم السيادة الى العراقيين. وتغير الموقف في الأسابيع الماضية بعدما أدت الهجمات العسكرية المتكررة على القوات الأميركية في العراق الى اقناع المسؤولين في البيت الابيض بضرورة فك ارتباط الحملة الانتخابية للرئيس جورج بوش بالملف العراقي. وهو ما فسر تحول الاميركيين باتجاه القبول بإعادة السيادة الى العراقيين قبل كتابة الدستور. وأدى هذا الأمر الى تغيير في المعادلة والى تغير مواز في مطالب المرجع الشيعي السيد السيستاني. وينص الاتفاق الموقع بين بريمر ومجلس الحكم على تشكيل لجنة في كل محافظة من محافظاتالعراق الثماني عشرة تضم الواحدة منها 15 عضواً لتتولى البت في قبول طلبات المرشحين الأفراد الذين سيسمح لهم بدخول المجلس الوطني الموقت، وبنسبة مرشح عن كل مئة ألف مواطن. ونقل المقربون عن السيستاني اعتراضه المباشر وتهديده برفع يده عن تهدئة الطائفة الشيعية في موقفها المهادن عموماً للاحتلال الاميركي. وسبب اعتراضه ان كلاً من مجلس الحكم ومجلس المحافظة سيعين خمسة أعضاء أو ثلث عدد اعضاء كل لجنة من لجان المحافظات، على ان تعين المجالس البلدية في أكبر خمس مدن في المحافظة الاعضاء الخمسة المتبقين. واعتبر المرجع الشيعي ان مجالس المحافظات والبلديات التي قام الاميركيون، سواء القادة الميدانيين أو مكتب الحاكم المدني، بتعيين اعضائها ستساهم بنسبة الثلثين في اختيار البرلمان الموقت الجديد والذي ستنبثق عنه الحكومة الجديدة والذي سيتولى أيضاً الاشراف على كتابة الدستور واجراء الانتخابات. ويتهم السيستاني وعلماء الحوزة الدينية الاميركيين بأنهم يستخدمون عناصر الاستخبارات خلف الكواليس، وزرع عناصر فاسدة ممن كان لكثيرين منهم علاقات بالنظام السابق ولم تتردد عن التحول الى عملاء للأميركيين بعد انتصارهم. وهذه العناصر عينتها أجهزة الاستخبارات العسكرية الاميركية ووكالة الاستخبارات المركزية الاميركية سي آي ايه واستخبارات مجلس الأمن القومي في مجالس المحافظات ومجالس البلديات. وسيكون بالتالي، من السهل على الاميركيين اختيار من يرغبون لحكم العراق وادارة الحياة السياسية فيه خلال الفترة الانتقالية، ما سيؤدي الى سيطرة اميركية على العراق بشكل غير مباشر. ونقل عن السيستاني تهديده برفع يده عن الوضع في الساحة الشيعية، حيث هناك مهادنة واضحة تجاه الاميركيين والبريطانيين على رغم تسميتهم قوات احتلال. وأثار هذا الأمر القلق لأن السيستاني، الذي تبنى باستمرار موقفاً يعتبر فيه المرجع الديني قائداً فقهياً أكثر منه حركياً إلا ان خطواته المتلاحقة منذ دخول الاميركيين واصراره في الأيام الأخيرة على "عدم القبول بترك البلاد تقاد بطريقة تضر بمصالح الاسلام والعرب"، حرك الأوضاع بطريقة وجد فيها مجلس الحكم نفسه في خط المواجهة الأول مع زعيم ديني كان دوره السياسي مسانداً للمجلس حتى وقت قريب. ويفسر هذا الأمر المساعي التي بذلها جلال طالباني قبل أيام، فيما كان لا يزال الرئيس الدوري لمجلس الحكم الانتقالي، حين توجه للقاء السيستاني في النجف ليخرج من اللقاء "بخفي حنين" وقناعة واضحة مفادها ان المرجع الشيعي الكبير لن يقبل بغير انتخابات مباشرة وشفافة. وسعى المجلس في الأيام الأخيرة لأخذ تحفظات السيستاني في الاعتبار وسط خلافات عصفت بين أنصار السيستاني وأنصار الاميركيين. وقالت صون غول تشابوك العضو التركماني في مجلس الحكم ل"الحياة" ان "كثيرين يعترضون على فكرة اجراء انتخابات لأنها تحتاج الى وقت طويل وتعداد سكاني غير متوافر في وقت يفترض ان يجري تسليم السلطة قبل نهاية حزيران يونيو المقبل". وأضافت: "السيد السيستاني مرجع ديني يحترمه كثيرون من اخواننا الشيعة وكذلك نحن السنة نحترمه ونحترم آراءه ومبادئه، ولكن هناك أمراً لا بد من ادراكه وهو ان السيد السيستاني ليس رجل سياسة بل رجل دين". ونفت ان يكون هناك استقطاب ديني أو مذهبي يحدث داخل المجلس على خلفية هذه المسألة، مشيرة الى ان "مجلس الحكم ليس راضياً أيضاً عن الضغوط الاميركية ولا عن عدم قدرته على العمل من دون سلطة وصلاحيات كاملة تعطى له". أما عزيز الياسري، منسق "تحالف القوى الديموقراطية" الذي يضم 33 حزباً في اطاره، فقال ل"الحياة" انه لا يعلم سبب اصرار السيد السيستاني على الانتخابات "طالما ان الدستور الحالي الذي يهيئ له كل القوى والاحزاب السياسية هو دستور موقت". وأكد ان "الاميركيين موجودون وباقون في فترة الحكومة الموقتة ولن ينسحبوا إلا عندما تقوم حكومة منتخبة بدستور منتخب مصادق عليه من قبل الشعب. وحينها ينظم وجود القوات الاميركية ضمن معاهدة يصادق عليها المجلس التشريعي المنتخب". أما الشيخ حسن الزركاني، الناطق الرسمي باسم مكتب الشهيد الصدر السيد مقتدى الصدر، فقال ل"الحياة" ان موقف السيد السيستاني واضح ويحظى بالاجماع، في حين ان ما يقوم به الاميركيون هو جزء من مناوراتهم لابقاء قبضتهم على البلاد.