الفوارق عديدة بين الانتخابات الاميركية والانتخابات العراقية، وهذا بديهي ومتوقع. انما الفارق الاهم هو الحضور الدائم لمركزية توفير فرص العمل والضمانات الصحية في الحملات الانتخابية الاميركية، مقابل غياب هذه المسألة الضرورية في قاموس وخطاب الانتخابات العراقية ليس فقط لسلطة الائتلاف وانما أيضاً لمجلس الحكم العراقي. الديموقراطية المنشودة والمشاركة الشعبية المرجوة والتمسك بمواعيد نقل السلطة الى العراقيين كلها مهمة لكن القنبلة الموقوتة هي في عدم تمكن العراقيين من ايجاد الوظائف والادوية والعلاج تبدو بالأهمية نفسها. العملية السياسية بالطبع مهمة، والأهم منها هو استتباب الامن لكن أحد أهم الوسائل لتحقيق الامن يكمن في الحالة الاجتماعية وتوفير لقمة العيش. حلفة مفرغة؟ ايهما اولاً، الامن او الوظيفة؟ هذا هو التحدي الذي يتطلب الافكار الخلاقة قبل فوات الاوان. الاجتماع الثلاثي الاول من نوعه الذي عقد في نيويورك مطلع الاسبوع وضم الأممالمتحدة وسلطة الائتلاف ومجلس الحكم العراقي انصب على معالجة ازمة نوعية الانتخابات العراقية ودور الاممالمتحدة في العملية السياسية الانتقالية والاتفاقات الامنية بين سلطة الائتلاف ومجلس الحكم، على رغم انه تطرق قليلاً الى الاغاثة الانسانية واعادة بناء العراق. الاممالمتحدة ليست قادرة، ولا هي مسؤولة عن توفير فرص العمل للعراقيين فأكثر ما يمكنها تقديمه هو النصيحة والخبرة. اما القرارات الاساسية فإنها من صلاحية سلطة الائتلاف ومجلس الحكم، وهما في انصباب كامل على النواحي السياسية والامنية. قد لا تكون في "اليد حيلة" في هذا المنعطف لكن بؤس الناس واحباطهم قد يقوّض الاولويات الامنية والسياسية. لذلك فالحاجة ماسة الى ضخ الاموال في العراق لمعالجة انتقالية لازمة البطالة وكذلك لوضع بنية تحتية تمكّن من مضاعفة فرص العمل المتاحة. هذه مسؤولية اميركية بريطانية. اولاً لأن الدولتين تشكلان سلطة الاحتلال المسؤولة قانونياً عن حماية المدنيين تحت الاحتلال حمايتهم من الجوع وليس فقط من الرصاص. لغة الوظائف JOBS لغة متداولة في الانتخابات الاميركية والبريطانية بل انها اساسية في الحملات الانتخابية لأي مرشح، كما هي الحال في السباق الى البيت الابيض حالياً، فالاقتصاد وليس السياسة الخارجية، يبقى العمود الفقري للناخب الاميركي وللمرشحين للرئاسة. العراق دخل القاموس الانتخابي الاميركي منذ ان اعلن الرئيس جورج بوش قبل سنتين في خطاب "حال الاتحاد" ما سماه ب"محور الشر" الثلاثي العراق، ايران، وكوريا الجنوبية. حرب العراق نقلت القول الى الفعل، كما نقلت السياسة الخارجية الاميركية الى مرتبة جديدة عند الناخب الأميركي. وخطاب السنة الماضية اطلق لاحقاً أزمة الثقة بالإدارة الأمنيركية بعدما اتضح أن الرئيس الأميركي استشهد بمعلومات استخباراتية مزيفة لجهة محاولة نظام صدام حسين الحصول على "اليورانيوم" من النيجر، لتبرير الحرب على العراق. هذه السنة، تقرر أن يستثمر جورج دبليو بوش صلابة مواقفه بالإشارة إلى "نموذج" ليبيا، وابراز إدراك إيران وسورية جدية أميركا، مما أدى إلى تغيير أساسي في نمطيهما. فالرسالة واضحة: ان حرب العراق أسفرت عن فهم جدية بوش وصلابته، ودبّت الرعب في صفوف الأنظمة في العالمين العربي والإسلامي. لذلك النقلة النوعية في السودان. ولذلك إقبال دمشق على التفاهم مع واشنطن. ولذلك موافقة إيران على التعاون والكشف في مجال أسلحة الدمار الشامل. ولذلك ليبيا بادرت إلى استدعاء أميركا وبريطانيا للتدقيق في ما عندها من برامج أسلحة محظورة. أو هكذا قررت إدارة بوش تسويق نتائج الضغوط والتخويف والحزم والانذار. بالطبع، هذا أيضاً باسم الديموقراطية التي تقول الإدارة إنها تريدها في المنطقة العربية والإسلامية. وهي تشير إلى إقبال القيادات والأنظمة العربية إلى الإصلاح نتيجة السياسة الأميركية. حرب العراق لقنّت بالطبع دروساً للأنظمة والقيادات لكنها لم تفلح بعد في كسب ثقة شعوب المنطقة بالغايات الأميركية نفسها. ما يحدث في العراق ما زال مفتوحاً على الفشل، كما على النجاح. انجاح التجربة العراقية يقع في مصلحة العراق والعراقيين، وليس فقط في المصلحة الأميركية، مما يتطلب تعاوناً دولياً في شبه "شراكة" وافقت عليها واشنطن أخيراً... اضطراراً وبتحفظات. أحد أسباب لجوء "سلطة الائتلاف" إلى الأممالمتحدة عائد إلى فاعل في الساحة العراقية، هو المرجع الشيعي آية الله السيستاني. فلو لم يسبب أزمة هددت بورطة نتيجة إصراره على انتخابات شعبية واعتراضه على الخطة الأميركية للانتخابات، لما لجأت سلطة الائتلاف بهذا الزخم إلى الأممالمتحدة، طالبة منها دوراً أساسياً وواعدة بأكثر مما خطر في بالها سابقاً. الأمانة العامة للامم المتحدة تعي ذلك وتحرص الآن على اصلاح العلاقة مع آية الله السيستاني بعدما ظهرت كأنها تقف ضد مواقفه في رسالة كوفي أنان التي قال فيها إن الانتخاباتة الشعبية غير ممكنة في الفترة الزمنية المتاحة من الآن وحتى شهر أيار مايو المقبل. الفريق التقني الذي توافق الأممالمتحدة مبدئياً على ايفاده الى العراق للتشاور في امكان اجراء الانتخابات، أو البدائل عنها، لن يعمل على "اقناع" أية الله السيستاني بتغيير مواقفه، وانما سيعمل على تحسين مقترح انتخابات المجمعات في المحافظات كي يكون مقبولاً عند السيستاني. الرئيس الحالي لمجلس الحكم السيد عدنان الباجه جي نقل في حديث الى "الحياة" عن السيستاني قوله له: "اننا نعمل من أجل الأحسن الميسور". الحاكم المدني الاميركي في العراق بول بريمر اشار الى استعداد لتحسين خطة انتخابات المجمعات في المحافظات. فالمؤشرات تفيد برغبة لدى الجميع في التوصل الى حلول وسط تجنباً للمواجهة. انما ما حدث يشير ايضاً الى أهمية البعد العراقي في القرارات الاميركية. مواقف السيستاني "استحوذت على انتباه الجميع"، حسب تعبير مسؤول رفيع المستوى في سلطة الائتلاف حرص على القول "كما عند الشيعة مخاوف من تجيير العملية السياسية ضدهم، كذلك عند الأكراد والسنة مخاوف مشابهة، ولذلك فإن قيمة دور الأممالمتحدة هي في إزالة الشكوك بصفتها الطرف المحايد". الأممالمتحدة ترغب في إزالة الشكوك، لكنها لا تريد ان تصبح هي موضع شكوك. لذلك تشهر الحذر البالغ، ليس فقط لأسباب سياسية وانما أيضاً لأسباب أمنية. كوفي انان يستعين حالياً بأداء السفير الأخضر الابراهيمي الذي انجز مهمته في افغانستان أخيراً وتريد الادارة الاميركية ان يعينه انان مبعوثاً خاصاً الى العراق. بريمر اجتمع مع الابراهيمي في نيويورك على هامش الاجتماع الثلاثي الاثنين الماضي. وحسب مسؤول اميركي اشترط عدم ذكر اسمه قال "ان للابراهيمي صدقية لدى المسؤولين الاميركيين على رغم انه يقول لنا مراراً ما لا نرغب في سماعه". هذا مؤشر آخر الى ادراك الادارة الاميركية أنها في حاجة الى اصلاح واستدراك اخطاء ارتكبتها في العراق وحرصها على تجنب اخطاء اخرى خصوصاً في هذه المرحلة المهمة من الانتخابات العراقية... والاميركية. المهم ألا تكون المواقف الاميركية الجديدة مجرد استيعاب مرحلي للمشاكل تستأنف بعده نمطها المعهود. هذا يتطلب استمرار المساهمة العراقية في جرد القرارات الاميركية قبل التصديق عليها انحناء أمامها. ويتطلب ايضاً اقبال الأممالمتحدة على ادوار لها في العراق تحميها من معادلتي "ورقة التين" و"كبش الفداء" من دون ان تقضم من مسؤولياتها الاخلاقية والقانونية أمام شعب يرضخ تحت الاحتلال. فعودة الأممالمتحدة الى الساحة العراقية مطلوبة الآن من الجميع، انما كل لغاياته، الأمر الذي يضاعف تحديات هذه العودة. أفضل شريك يحمي الأممالمتحدة من الشكوك والاستهداف هو الشعب العراقي. هذا الشعب لا يزال يتقبل الوعود بمستقبل زاهر، فيما يعاني يومياً من الفقر والخوف ويصاب كثير منه بالاحباط. الأممالمتحدة لن تصبح مكتب خدمات ووظائف في العراق، لكن عودتها تتطلب الافكار الخلاقة الضرورية لكيفية صياغة علاقة ايجابية لها مع الشعب العراقي، وليس فقط مع مجلس الحكم أو الحكومة الانتقالية أو سلطة الائتلاف. اما عبء إزالة فتيل القنبلة الموقوتة فإنه يقع بالأساس على عاتق سلطة الاحتلال واي هيئة سياسية عراقية تنقل السيادة اليها، مهما كانت مبتورة أو فعلية.