تأخذ "سلطة الائتلاف" في العراق بالابتكار احياناً متجاوزة القوانين الدولية ومتطاولة على الموارد الوطنية العراقية. تفعل ذلك بنوع من التحامل أو التحايل على القرارات الدولية من دون أي مساءلة من مجلس الأمن أو من الأمانة العامة بهيئاتها القانونية. مسؤوليات الاحتلال حددتها معاهدات واتفاقات وقوانين وقواعد. وصلاحيات الاحتلال ليست أمراً قابلاً للاختراع والابتكار بلا مراقبة. الأممالمتحدة مقصرة في هذا المجال. عذرها بأنها غائبة عن الساحة لا يعفيها من المحاسبة على التقصير، ذلك ان القوانين الاعتباطية التي تفرضها "سلطة الإئتلاف" علنية. الأمين العام، كوفي انان، لمح الى تجاوزات "سلطة الائتلاف"، واكتفى بذلك. والأرجح ان انان لن يطرح الأمر الرقم 39 عند اجتماعه بمجلس الحكم العراقي و"سلطة الائتلاف" يوم الاثنين المقبل، لكن من واجبات الأممالمتحدة ان تدقق في مثل هذه الأوامر بدلاً من الانكباب حصراً على نوعية دورها السياسي ودرجته. في بيئة آمنة في العراق. مواعيد الانتخابات وظروفها وصوغ الدستور مهمة بالطبع. لكن القوانين الاقتصادية والموارد الوطنية العراقية بالغة الأهمية والخطورة ايضاً، خصوصاً اذا صكتها سلطة الاحتلال بانتهاك لأصول وقوانين الاحتلال. الاجتماع الثلاثي الذي دعا اليه انان في 19 الشهر الجاري في نيويورك سيتناول دور الأممالمتحدة المطلوب من جانب كل من مجلس الحكم العراقي و"سلطة الائتلاف". هدف الاجتماع الايضاح والوضوح، أو على الأقل هذه هي الرغبة كما يقال. واقع الأمر ان التملص والغموض والأولويات المتضاربة ستغلب على النتائج. فالأطراف الثلاثة ليست في علاقة صريحة أو متناسقة مع بعضها بعضاً. فلا ثقة في ما بينها ولا هي مستعدة للرهان على بعضها بعضاً بالدرجة المطلوبة من الثقة. الأمانة العامة راغبة في دور لها في العراق وخائفة منه. تشتهيه، لكنها تخشى تورطها، خصوصاً انها "تدرك ان الادارة الاميركية لن تسمح لها بأكثر من دور الملحق أو دور المكمّل لما تمليه سلطة الائتلاف. غيابها عن العراق تُحاسب عليه الآن وغداً، وعودتها اليه قد تكون بمحاسبة أكبر وأعنف. فهي في معضلة. تريد الوضوح من سلطة الاحتلال ومن مجلس الحكم لجهة المطلوب منها. وهما اما غير راغبين أو غير قادرين لأسباب متجانسة حيناً ومتضاربة أحياناً. رسالة رئيس مجلس الحكم للشهر الماضي، عبدالعزيز الحكيم، الى الأمين العام أثارت لدى الأمانة العامة شغفاً وهلعاً. اذ كان جميلاً ان يطلب الحكيم "إشراف" الأممالمتحدة على العلاقة بين مجلس الحكم العراقي و"سلطة الائتلاف"، وان يطلب "نصحاً" حتى في مجال العلاقة الأمنية بينهما. لكن السعادة بالعناوين طارت على تفاصيل الجوهر، فأصابت الأمانة العامة نوبة استدراك، فهي أولاً لن تدخل طرفاً في الانقسامات بين أطراف مجلس الحكم علماً أن بعضهم يريد دوراً مهمشاً للمنظمة الدولية، وبعضهم لا يثق بقدرتها على لعب دور اساسي، وبعضهم يرى فيها جبهة الخلاص اذا ما ساءت العلاقة مع "سلطة الائتلاف". الأهم، ان الأمين العام ليس جاهزاً لأن يكون حكماً أو وسيطاً بين "سلطة الائتلاف" ومجلس الحكم العراقي. فهذه مهمة شاقة يريد تجنبها. هذا الموقف يلاقي التفهم من البعض والانتقاد من البعض الآخر. التفهم لأن مجلس الحكم صنعته "سلطة الائتلاف"، ولأن العلاقة بينهما أكثر تعقيداً واكثر مهادنة مما يفيد به الانطباع العام، الأمر الذي يعرض الأممالمتحدة للاستخدام الضار إذا حشرت نفسها بينهما حتى بدعوة من طرف في مجلس الحكم. والانتقاد لأن تجنب الأممالمتحدة لعب دور القائم بالإشراف ومقدم النصح يعني تخليها عن مساعدة الطرف العراقي في تحديد علاقاته ومواقفه من "سلطة الائتلاف/ الاحتلال". المساعدة التي تريد الأمانة العامة مدّها الى العراقيين تدخل في خانة الإعداد للانتخابات وصوغ الدستور، كما جاء في رسالة كوفي انان الى الرئيس الحالي لمجلس الحكم العراقي عدنان الباجه جي. لكن هذه الرسالة لم تكن خالية من مواقف يمكن اعتبارها سياسية في اطار النقاش القائم على مواعيد الانتخابات ونوعيتها علماً بأن المرجع الشيعي آية الله علي السيستاني يصر على انتخابات تشريعية عامة ويعارض الخطة الاميركية لنقل السلطة الى مجلس حكم وبرلمان معينين طبقاً لاتفاق 15 تشرين الثاني نوفمبر الذي حدد شهر حزيران يونيو موعداً لتشكيل حكومة انتقالية. كوفي انان حرص على أمرين: ابراز رأيه بأن الوقت لا يسمح بانتخابات شعبية عامة قبل نهاية حزيران، وبالتالي جاء موقفه السياسي كأنه "ضد" موقف السيستاني... وابراز أهمية التمسك باتفاق 15 تشرين الثاني، وجداوله الزمنية، وبالتالي دعم سياسياً الخطة الاميركية بصورة غير مباشرة. الإدارة الاميركية تريد التمسك بالمواعيد لأسباب ذات علاقة بانتخاباتها الرئاسية. فهي راغبة جداً في استبدال "الاحتلال" بتسمية مختلفة، وتريد ان تبقى القوات الاميركية في العراق "بدعوة" من الحكومة العراقية، وبما ان موعد الانتخابات الرئاسية الاميركية في تشرين الثاني، فمن الضروري لواشنطن معارضة تغيير موعد نقل السلطة الى حكومة موقتة في آخر حزيران. والأهم ان من الضروري لها معارضة الانتخابات الشعبية لأنها قد تأتي بمفاجآت غير مرغوب فيها. قد تكون الانتخابات الشعبية غير عملية وغير ممكنة في اطار الفسحة الزمنية قبل الانتخابات الاميركية. لكن فكرة الانتخابات غير المباشرة فكرة سيئة. فإذا كانت الأممالمتحدة راغبة بالإبداع وتتحلى بالجرأة، في امكانها ان تتقدم باقتراحات عملية بديلة. لكن ما حدث، عملياً، هو ان الأمين العام قوّض مواقف السيستاني الداعية الى انتخابات شعبية من دون ان يتقدم بأفكار وآراء بديلة من الخطة الاميركية القائمة بجوهرها على تعيين الحكومة الموقتة. قد تتقدم الأمانة العامة بمثل هذه الأفكار اثناء الاجتماع الثلاثي الاثنين المقبل، لكنها على الأرجح ستحرص على ألا تتضارب مع المواعيد الاميركية، فهي تتهيأ لإعادة موظفين دوليين الى العراق وهي في حاجة الى الحماية الأمنية من "سلطة الائتلاف" وقوات "التحالف". وهي تقع تحت ضغوط عارمة بسبب غيابها عن العراق. جزء من هذه الضغوط اميركي، ليس لأن واشنطن تحتاج بالضرورة الى الأممالمتحدة وانما لأن مجلس الحكم يحتاج اليها. وجزء من الضغوط عراقي باعتبار ان المنظمة الدولية "سند" خصوصاً في مراحل الحيرة. الجزء الآخر من الضغوط له علاقة بالحضور وليس بالغياب. ذلك ان هناك من لا يريد للأمم المتحدة ان تصبح شريك الأمر الواقع للاحتلال، حتى وان اتخذ تسمية مختلفة. وهناك ضغوط الموظفين الدوليين الذين لا يريدون خدمة الاحتلال ولا يريدون المجازفة بأرواحهم في بيئة غير آمنة في حرب لم يدعموا خوضها ولا أهدافها. كوفي انان يُبحر بين الضغوط، وهو رجل يتقن فن الإبحار. لكن العراق في حاجة الى بعض المغامرة، خصوصاً من ناحية المنظمة الدولية والأمانة العامة التي عليها مسؤوليات ولها سلطات اخلاقية وقانونية. ليس مطلوباً من الأمين العام ان يحمل على كتفيه مسؤولية منع تفكيك العراق، أو اقناع الأكراد بأن تجنب الصراعات الطائفية والعرقية يتطلب حكمة قراراتهم، أو شرح معادلات التفرقة، في أجندة البعض، للشيعة والسنة وما على الطائفتين التنبه له والعمل عليه. فهذه مسؤوليات العراقيين وليست ضمن واجبات أو صلاحيات الأمين العام للأمم المتحدة. فتقسيم العراق أو وحدته يدخل في خانة استراتيجيات الدولة العظمى وفي وعي العراقيين. لا أحد يلوم الأكراد على رغبتهم وتطلعهم الى الاستفادة من فرصة في تاريخهم تأتي عليهم بالاستقلال وبدولة كردستان. فكما ان حلم الأرمن تحقق، وكان "مستحيلاً"، كذلك يمكن تحقيق حلم الأكراد، لكن، وهناك "لكن" كبيرة، موقع الأكراد الجغرافي قد يجعل الدولة الكردية مشابهة لدولة اسرائيل، من منطلق رفضها، اذا استمر الأكراد في الأخذ بالنصيحة الاسرائيلية وبالتدريب الاسرائيلي وبالطمع الاسرائيلي. توجد فرصة خيار امام الأكراد: دولة مستقلة بلا كركوك تطوقها تركيا وسورية وايران، أو كيان كردي بحكم ذاتي ضمن فيديرالية، وليس كونفيديرالية، يكون جزءاً اساسياً من العراق الموحد القادر على اثبات التعافي كدولة مدنية ذات وزن اقليمي ودولي بنموذج لا ساقبة له في منطقة الشرق الأوسط. وكما على الأكراد استدراك الوقوع في فخ الوعود والثمل بالقوة، فإن على شيعة العراق التنبه الى وعود مماثلة آتية من زمرة في واشنطن هدفها الفتنة الطائفية وتقسيم العراق. صحيح ان للسنة تاريخ في الهيمنة على الأقلية الشيعية بين المسلمين، وصحيح أن سنة العراق لهم سيرة مماثلة، لكن مصلحة الجميع ليست في شرذمة العراق وانما في وحدته. ومن الضروري للعراقيين أجمع، كما للأمم المتحدة، بأعضائها وبالأمانة العامة، التنبه الى الأمور غير السياسية التي تجري في العراق وعلى رأسها القوانين والأوامر التي يصلها الاحتلال وتدخل في عصب وجوهر موارد العراق الاقتصادية. الحاكم المدني الأميركي في العراق، بول بريمر، أصدر أخيراً قوانين جديدة باسم الاقتصاد الحر في العراق مسحت كلياً قوانين عراقية وحدت من قدرة الأجانب على الامتلاك والاستثمار لكنها أعطت المستثمرين الأجانب حق امتلاك شركات عراقية بالكامل. هذه الملكية كانت ممنوعة في الماضي بموجب القانون والدستور العراقي السابق الذي يحصر هذه الحقوق بالمواطنين العراقيين والعرب. هذا الأمر الذي يحمل الرقم 39 يشكل تجاوزاً وتطاولاً على الحقوق العراقية بالملكية ويعفي الشركات الأجنبية من واجبات استثمار الأرباح في العراق. اضافة الى ذلك، وحسب صحيفة "نيويورك تايمز"، اعلنت "سلطة الائتلاف/ الاحتلال" خطط بيع 150 من أصل 200 شركة تملكها الدولة العراقية في مجال التنجيم والأدوية والطيران وغيرها، مما يعني بيع ممتلكات الوطن الى مستثمرين، معظمهم أجانب، علماً بأن المواطنين العراقيين، باستثناء قلة، غير قادرين على الشراء والاستثمار. هذا يتنافى مع القانون الدولي الذي يمنع سلطة الاحتلال من التصرف بالموارد الوطنية للبلاد الواقعة تحت الاحتلال، ويمنع تغيير القوانين الوطنية. وهنا، في هذا المجال بالذات، تقع مسؤولية كبيرة على الأممالمتحدة وبالذات الأمانة العامة، حيث ان القانون الدولي يُنتهك وموارد العراق توضع في أيدي المستثمرين على حساب الشعب العراقي، مهما قيل وزُعم بأن هذه الأوامر والقوانين الاعتباطية في صالحه. وهنا بالذات تقع المسؤولية الأخلاقية، فليس مهماً، في نهاية المطاف، عودة الأممالمتحدة الى العراق للمساعدة في دستور أو انتخابات. المهم ان تمارس مسؤولياتها الاخلاقية والقانونية بمراقبة ما يحدث في بلد تحت الاحتلال من ناحية موارده الطبيعية ومستقبله الاقتصادي وحقوق شعبه فيها... ولجهة ما تفعل به سلطة احتلال تسمى "سلطة ائتلاف" من أجل شركاتها.