ينزعج قادة "الاخوان المسلمين" كثيراً كلما سألهم أحد عن مغزى اختيار مرشد يناهز الثمانين، ولا يرتاحون للسؤال: كيف يقود شخص في هذا السن جماعة بوزن "الاخوان"؟ والسؤال نفسه طرح بعد انتخاب محمد مهدي عاكف 77 عاماً مرشداً للجماعة. واللافت ان قادة الاحزاب وقوى المعارضة في مصر، وبينهم رموز "الاخوان"، لا يملون من اتهام الحكومة بالجمود، ولا يتوقف هؤلاء عن ترديد الانتقادات لبقاء عدد من الوزراء في مناصبهم لمدد تفوق العقدين، وكثيراً ما يطالبون الحكومة والحزب الوطني الحاكم بتفعيل النشاط السياسي وتوسيع "الهامش الديموقراطي" واعطاء الجيل الجديد الفرصة للمشاركة في العمل السياسي والتنفيذي. وفي هذا السياق فإن عبارات مثل "تجديد الدماء" و"المستقبل للشباب" و"تغيير الوجوه المفروضة على الجميع"، تصبح من المفردات التي لا تخلو منها مقالات وتحليلات تنشر في الصحف الحزبية، وترد على ألسنة قادة المعارضة. وفي المقابل فإن الحكومة وصحيفة "مايو" لسان حال الحزب الحاكم لا تتوقف عن الرد بقسوة على "إدعاءات" المعارضة و"مزاعمها" عبر اتهامها ب"إعاقة مسيرة التنمية" و"ترديد الاسطوانات المشروخة" و"العجز عن طرح افكار تفيد المجتمع". وبين انتقادات المعارضة ورد الحكومة يبقى الشباب في مصر عازفاً عن الخوض في معارك سياسية. ووفقاً لدراسات اكاديمية فإن اكثر من 80 في المئة من المصريين لا يشاركون في العمل السياسي في شكل مباشر، كما أن اكثر من نصف الشباب لا يعرف شيئاً عن الاحزاب أو النظام السياسي في البلاد. واللافت ان غالبية احزاب المعارضة السياسية وقواها صارت تعاني مشاكل داخلية تتعلق باعتراض قطاع عريض من اعضائها على بقاء "الزعماء". وإذا كان التيار الاسلامي، وفي صدارته جماعة "الاخوان المسلمين" يعيش حال صدام مع السلطة، فإن رموز ذلك التيار لا يعتبرون الامر تهديداً، بل يرى بعضهم ان ذلك "يقوي التيار ويضعه في بؤرة الضوء ويدفع بوسائل الاعلام الى ملاحقة اخبار الاعتقالات وانباء المحاكمات". لكن "الاخوان" ينفون دائماً وجود ازمة تتعلق بالصراع بين جيلين، يضم الاول شيوخَ الجماعة وزعماءها الاوائل، والثاني شباب الجماعة وكوادرها ممن شاركوا في العمل السياسي العلني من خلال الاتحادات الطلابية والنقابات المهنية. فالاخوان دائماً يحرصون على ان تظل الخلافات بينهم طي الكتمان "حفاظاً على وحدة الجماعة" و"خوفاً من حدوث الفتنة" و"خشية ان تستغل القوى المعارضة ومن بينها الحكومة والعملاء الفرصة للانقضاض على الجماعة وضربها". ومهما كان الخلاف بسيطاً أم كبيراً، هامشياً أو مؤثراً، ظاهرياً أو جوهرياً، فإن القيادة ترى دائماً ان مجرد الحديث عن وجود خلاف داخل التنظيم "امر يهدد كيانها" وبالتالي يهدد مصير الدعوة. وهكذا ظلت امور كثيرة تتعلق بخلافات واستقالات وابتعاد لرموز وعناصر مؤثرة من دون ان تطرح للنقاش العلني "حفاظاً على مستقبل الدعوة"، ولعل ذلك سبب الازمة التي تفجرت بداية 1996 وعرفت باسم ازمة "حزب الوسط" وكادت تعصف بالجماعة، عندما اقدم عدد من شباب "الاخوان" على تأسيس حزب "الوسط" بالمشاركة مع آخرين من غير الاخوان بينهم اقباط وسيدات من دون ان يعرضوا الامر على مكتب الارشاد ومن دون الحصول على "موافقة" أو ربما "مباركة" من جانب قادتهم. ومنذ ذلك الوقت يدور الحديث في الاوساط السياسية عن خلافات بين الاجيال داخل "الاخوان" خصوصاً بين طرفين: القادة الذين اعترضوا على تأسيس ذلك الحزب، ورموز من شباب الجماعة اكتشفوا انهم ظلوا لسنوات اسرى قيود وضعها المهيمنون على مقاليد الامور في التنظيم وتبينوا انهم تخطوا مرحلة الشباب من دون ان يمارسوا عملاً سياسياً حقيقياً، لأن مقاليد الامور كانت دائماً في يد الشيوخ اصحاب التاريخ والمكانة. ويخطئ من يتصور ان الصراع مع الحكومات المتعاقبة يتسبب في اضعاف الجماعة، والا كانت الجماعة انتهت اثناء سنوات الصدام مع نظام تموز يوليو 1952. اذ ان هناك قناعة تامة لدى "الاخوان" عموماً والقادة منهم خصوصاً بأن "الاجراءات المشددة ضدهم وحملات الاعتقال والمحاكم العسكرية والاحكام بالاشغال الشاقة والسجن في حق الرموز ومن الاجتماعات واللقاءات يزيد من التعاطف الشعبي مع الاخوان ويضع الجماعة في صورة اكبر من حجمها الحقيقي ويساعد على تجاوز الخلافات الداخلية للتصدي للازمات الخارجية وكلها امور تصب في مصلحة الدعوة". وعلى رغم أن كتباً كثيرة وابحاثاً ودراسات ووسائل علمية عدة عرضت لتاريخ "الاخوان"، الا ان غالبيتها تأثرت بمواقف اصحابها من الجماعة بين مؤيد لافكارها حريص على كتمان اسرارها غافل عن عمد أو من دون قصد عن أخطاء وقع فيها حسن البنا وغيره من القادة، أو معارض للاسلاميين عموماً و"الاخوان" خصوصاً لاختلافه مع مبادئهم وافكارهم، أو راغب في تملق الحكومات أو التقرب منها بالبحث في عيوب واخطاء "الاخوان". وتعد الفترة بين 1939 و1949 اخطر المراحل في تاريخ "الاخوان" اذ شهدت استكمال البنى التنظيمية داخل مصر وخارجها وبداية بروز الدور السياسي للجماعة بدءاً من المؤتمر السياسي الذي عُقد في كانون الثاني يناير 1939 وتحقيق الانتشار الواسع للجماعة وانشاء "النظام الخاص"، وصولاً الى الجناح العسكري السري وترشيح البنا نفسه لخوض الانتخابات مرتين والتي شهدت ايضاً حرب فلسطين واخيراً اغتيال البنا. ويمكن القول ان البنا استغل انشغال الانكليز والقاهرة بمجريات الحرب العالمية الثانية ونجح في اكمال البناء التنظيمي للجماعة ووصل الى كل مدينة وقرية، وما لبث ان اضاف النشاط السياسي الى عمل الجماعة في شكل رسمي، حينما قال في رسالته الى المؤتمر الخامس "إن الاسلام نظام شامل متكامل بذاته وهو السبيل النهائي للحياة بكل جوانبها وإن الاسلام قابل للتطبيق في كل مكان وزمان"، ولم يلبث ان انشأ في العام التالي "النظام الخاص" وهو الجناح الذي ما زالت الجماعة تعاني من آثار نشاطه حتى اليوم، اذ حدد مهماته في "قتل الصهاينة وأتباعهم" وتوجيه عمليات ضد اعداء الله "مباغتة لهم من دون اعلان أو إنذار"، وأسند البنا قيادة "النظام الخاص" الى عبدالرحمن السندي ذلك الشاب الذي لم يكن تعدى الحادية والعشرين وكان ما زال طالباً في كلية الآداب. وتسبب ذلك في توريط الجماعة في سلسلة من المآزق السياسية والمطاردات الامنية جراء عمليات تمت من دون الحصول على موافقة اي من اعضاء مكتب الارشاد بمن فيهم البنا نفسه. اذ نفذ الجهاز بعض عمليات العنف مثل إلقاء بعض القنابل في الاسكندرية واغتيال القاضي احمد الخازندار في آذار مارس 1948 لاصداره احكاماً قاسية ضد اعضاء في الجماعة ضبطوا وفي حوزتهم متفجرات وهو الحادث الذي دفع برئيس الوزراء آنذاك محمود فهمي النقراشي الى اصدار قرار حل الجماعة. وقبل ان تمضي فترة طويلة اغتال الجهاز الخاص النقراشي نفسه لتزداد دائرة الصراع بين الاخوان واعدائهم. وعلى رغم ان البنا استنكر حادثتي الخازندار والنقراشي وتبرأ منهما واكد ان منفذيهما لم يحصلوا على موافقة منه، الا ان الحادثتين ظلتا طوال سنوات دليلاً على علاقة الجماعة بالعنف، الذي كان البنا نفسه احد ضحاياه اذ اغتيل في 12 شباط فبراير 1949. لكن المهم ان غالبية التحليلات تذهب الى ان الشيوخ من اعضاء مكتب الارشاد الحالي يحظون بالمكانة لأنهم إما من رجال النظام الماضي أو ممن اتهموا في قضيتي العام 1954 و1965 اي في العهد الناصري الذي واجه الاخوان بالقمع والبطش. لكن عموماً ظلت مسألة اختيار المرشد مثار جدل. ومثلت وفاة عبد الناصر في ايلول سبتمبر1970 طوق النجاة ل"الإخوان"، فما لبث ان تولى أنور السادات مقاليد الحكم وأطلق الاخوان لتبدأ مرحلة إعادة ترتيب البيت من الداخل. وظلت الجماعة طوال نحو عشر سنوات 1971 - 1981 تمارس نشاطاً علنياً شبه رسمي من دون ان تكون في حاجة الى قرار او ورقة تمثل صك الشرعية. لكن الاخوان خرجوا الى النور ليجدوا أن المجتمع المصري تغير وأن الظروف الإقليمية والدولية اختلفت عن بداية الخمسينات، كما ان سنوات السجن الطويلة جعلت من كانوا شباباً في بداية الخمسينات شيوخاً. والمهم ان رجال "النظام الخاص" كانوا تمكنوا خلال فترة العزلة من بسط سيطرتهم على مقاليد الأمور في الجماعة. وجاءت وفاة المرشد الثاني حسن الهضيبي في 11 آب اغسطس 1973 لتدخل التنظيم في متاهة إختيار خليفة له. وتفادياً للمشاكل قرر قادة الجماعة عدم الإعلان عن خليفة للهضيبي في منصب المرشد وفرضوا شخصاً لم يعلنوا عن اسمه ك"مرشد سري" بحجة الظروف الأمنية وحفاظاً على وحدة الصف. وظلت الجماعة نحو ثلاث سنوات من دون مرشد معروف للجميع، كما ان اختيار المرشد السري لم يجر وفقاً للقواعد والقوانين الخاصة بالجماعة. وفي وقت لاحق شكل مكتب الإرشاد، وضم في غالبيته رموز "النظام الخاص". إلا ان التذمر الذي ساد اوساط "الإخوان" اعتراضاً على مسألة المرشد السري اجبر المهيمنين على مقدرات الامور على عقد مؤتمر في القاهرة في نهاية 1976 حضره السيد عمر التلمساني، وتحدثت اوساط الاخوان عن ان حضوره كان تمهيداً لإنهاء بدعة "المرشد السري". وبدا أن طبيعة التلمساني وهدوءه وحرصه على البعد عن الخلافات وتحاشي الصدام مع الآخرين كان من الاسباب التي رشحته مرشداً ليكون واجهة مقبولة امام الأعضاء والحكومة والأطراف التي تتعامل معها الجماعة، وهو نجح في استغلال مناخ الحرية في التحرك والاتصال بالقوى السياسية الأخرى وإتاحة سماح الحكومة بعودة مجلة "الدعوة" إلى الصدور لتحسين صورة الجماعة ونشر خطابها الإعلامي. غير أن المتغير المهم الذي أثّر في نشاط الجماعة في تلك المرحلة هو الجهود التي بذلها التلمساني وغيره من أقطاب التنظيم في اجتماع رموز الحركة الطلابية من الإسلاميين في الانضمام إلى الجماعة، وهم الذين يطلق عليهم الآن "جيل الوسط" في الجماعة. ففي ذلك الوقت كانت الجامعات تموج بنشاط طلابي إسلامي كبير وصل الى درجة ان غالبية اتحادات الطلاب في الجامعات المصرية غدت تحت سيطرة الإسلاميين. ولأن هؤلاء لم يكونوا حسموا أمورهم بعد في شأن الجماعة أو التنظيم الذي سينضمون إليه بعد تخرجهم أو الشكل الذي يفضلون أن يكونوا عليه بعد انتهاء مرحلة الدراسة، فإن تنافساً بين الإخوان من جهة وأتباع سيد قطب من اصحاب فكر "الجهاد" من جهة أخرى كان على أشده للفوز بضم هؤلاء. وفي وقت تأسست "الجماعة الاسلامية" من عدد من هؤلاء كانت غالبيتهم من الصعيد من بينهم كرم زهدي وناجح ابراهيم وصلاح هاشم وعاصم عبدالماجد، فإن محمد عبدالسلام فرج مؤسس تنظيم "الجهاد" فاز بعدد آخر بينهم صالح جاهين وعباس شنن وايمن الظواهري. اما "الاخوان" فكانوا أبرز من فاز بالسباق اذ انضمت الى عضوية الجماعة غالبية قادة الحركة الطلابية وعلى رأسهم عصام العريان وعبدالمنعم ابو الفتوح وابو العلا ماضي وحلمي الجزار، وتسبب دخول هؤلاء الى قلب الجماعة في انضمام آلاف الطلاب، أو بمعنى أدق جيل كامل إلى عضوية الجماعة ثقة منهم في أن العريان وأبو الفتوح وماضي لا يمكن أن يختاروا الطريق الخطأ. وبحسب الإخوان أنفسهم، فإن بعضاً من أبناء ذلك الجيل انضموا إلى الجماعة بعدما وجدوا أن البدائل الأخرى لا تناسبهم، وحينما أبدوا ملاحظات حول مسيرة الإخوان رد عليهم التلمساني: "فلتنضموا أولاً وعليكم تغيير الأوضاع من الداخل". وعلى رغم الوئام بين الجماعة والسادات الا ان التيار الجارف ضد زيارة السادات إلى إسرائيل واتفاقات كامب ديفيد، أوصل الامور الى مرحلة الصدام، فجاءت تصريحات التلمساني وآراؤه وهجوم مجلة "الدعوة" على الزيارة والاتفاق، والتحذير من مغبة التطبيع، لتدفع العلاقات بين الجماعة والسادات نحو التدهور خصوصاً بعدما بدأ بعض الإسلاميين من أعضاء "الجهاد" و"الجماعة الاسلامية" تحركات تنذر بأن العنف قادم. ولم يفرق السادات بين الاخوان وبقية معارضيه، ووضعهم جميعاً في سلة واحدة، ولذلك شملت قرارات التحفظ التي اصدرها في ايلول سبتمبر 1981 عدداً من قادة "الاخوان" على رأسهم التلمساني نفسه. وإذا كانت وفاة عبدالناصر مثلت طوق النجاة ل"الاخوان" للخروج من العزلة، فإن مقتل السادات وتولي الرئيس حسني مبارك مقاليد الحكم وضعا الجماعة على اول طريق الانطلاق. وخلال عشر سنوات سيطر "الاخوان" على غالبية مقاعد مجالس النقابات المهنية المهمة، وشاركت الجماعة في الانتخابات البرلمانية، وصار عدد من قادتها وشيوخها نواباً في البرلمان. ومن خلال النقابات والبرلمان وصل صوت "الإخوان" إلى الجميع، أما على صعيد التفاعلات الداخلية فإن إطلاق التلمساني واخوانه ممن كان السادات اعتقلهم ضمن قرارات التحفظ أتاح له أن يستأنف دوره في إيضاح مواقف الجماعة وشرحها ومحاولة التواصل مع القوى السياسية الأخرى، في حين عاد رجال "النظام الخاص" ليمسكوا بتلابيب الجماعة قيادة وإدارة ومالية وعلاقات. وبدأ الحديث يعود مجدداً عن صدام بين جيل الحركة الطلابية الذي تدفق على "الاخوان" في نهاية السبعينات وبين رجال النظام الخاص. وفي المقابل نشط شباب "الإخوان" الجدد الذين اعتادوا أثناء مرحلة العمل الطلابي على التعامل والتعاون مع القوى السياسية الأخرى، وسمحت لهم مواقعهم في الاتحادات الطلابية بلقاء المسؤولين من وزراء ورجال أمن وسياسيين من دون أن يجدوا في ذلك ما يثير حساسيتهم تجاه السلطة، وتمكن هؤلاء من خلال رؤية جديدة من تمكين الجماعة من الفوز بمقاعد مجالس النقابات المهنية. ففي 1984 سيطروا على نقابة الأطباء، وفي 1985 على نقابة المهندسين، وفي 1986 على نقابتي البيطريين والصيادلة، وفي 1987 على نقابتي العلميين والمحامين. ولأن مناخ الحرية شجع قادة الإخوان على استثمار الفرصة بحثوا عن "حليف" يحملهم إلى مقاعد البرلمان. وعلى رغم أن العلاقات مع "حزب الوفد" لم تكن على ما يرام إلا أنهم خاضوا انتخابات 1984 ضمن قائمة الوفد الذي اعتمد على صوت "الإخوان" الذين حصلوا على ثمانية مقاعد اعتبروها "بداية جيدة". لكن اختلاف قناعات الإخوان عن توجهات الوفد جعلت من مواقف نواب التحالف داخل البرلمان تبدو مثيرة للسخرية، ولذلك فإنهم في انتخابات 1987 لم يكرروا التجربة وبحثوا عن حليف آخر، ووجدوا ضالتهم في "حزب العمل"، الذي كان بدأ تحولاً من كونه حزباً قومياً تقترب أفكاره من المبادئ الناصرية إلى اتجاه يغلب عليه التوجه الإسلامي، وحصل "الاخوان" في تلك الانتخابات على 36 مقعداً، ومثلت نتيجة الانتخابات مفاجأة للكثيرين الذين لم يكونوا يتوقعون أن يحقق "الإخوان" هذا العدد من المقاعد. وكانت وفاة التلمساني في 22 أيار مايو 1986 وعملية اختيار خليفة له معضلة جديدة، فبدلاً من أن تستدرك الجماعة المخالفات التي وقعت عند اختيار التلمساني خلفاً للهضيبي عين محمد حامد ابو النصر مرشداً. وعلى رغم انه احد قدامى "الاخوان" ووصل إلى عضوية مكتب الإرشاد في عهد الهضيبي، وقضى نحو 18 سنة في السجن، مثّل اختياره مفاجأة كبيرة لبعض أوساط "الإخوان" على أساس أنه يفتقد الى الرؤية السياسية والقدرة على التعبير عن رأيه وروح القيادة. وفي عهده عاد الصدام مجدداً مع الحكومة ووجد "الإخوان" أنفسهم يفقدون كثيراً من المكاسب التي حصلوا عليها في مرحلة سابقة، وثارت في أوساط الجماعة تساؤلات حول الاسباب التي دفعت الحكومة الى تغيير اسلوب تعاملها مع الجماعة. فرأى البعض أن إقدام الإخوان على مقاطعة الانتخابات البرلمانية التي أجريت عام 1990 وتشجيعهم للقوى السياسية الأخرى على عدم خوض الانتخابات سببّت غضباً شديداً لدى الحكومة التي شعرت أن "شوكة الإخوان" حان وقت كسرها، بعدما صعّدوا هجومهم على السياسات الحكومية الداخلية والخارجية وبعدما تحولت النقابات التي يسيطرون عليها إلى منابر فاقت في تأثيرها تأثير البرلمان والمجالس المحلية. ووصف "الإخوان" اعتقال العشرات من عناصرهم في 1992 وعلى رأسهم اثنان من أعضاء مكتب الإرشاد هما أحمد حسنين وابراهيم شرف في القضية التي عرفت إعلامياً باسم "قضية سلسبيل" بأنه "زلزال" هز الجماعة وضربها في الصميم، خصوصاً بعدما ضبطت أجهزة الأمن أقراصاً مدمجة بأسماء عناصر التنظيم في المحافظات والمراتب التنظيمية والإدارية في الجماعة، إضافة إلى خطة "التمكين" التي تكشف نيات التنظيم السيطرة على مختلف قطاعات المجتمع. وعلى رغم أن القضية لم تحل على القضاء وتم إطلاق المعتقلين بعد فترة، إلا أن الجماعة كانت على موعد مع ضربات أخرى متتالية بدأت بقانون النقابات المهنية الرقم 100 الذي صدر في 1993 والذي جعل مسألة إجراء الانتخابات النقابية في أيدي هيئة قضائية تتولى الإعداد للانتخابات والدعوة اليها ومراجعة كشوف الناخبين وإرجاء انتخابات النقابات المهنية. وفيما كان الإخوان مشغولين في تنظيم الحملات الإعلامية لمهاجمة ذلك القانون والمطالبة بإلغائه فوجئوا في كانون الثاني يناير 1995 باعتقال نحو 28 من ابرز قادة الجماعة على رأسهم القيادي البارز الدكتور عصام العريان وإحالتهم على نيابة أمن الدولة العليا بتهمة التخطيط لقلب نظام الحكم. وقبل أن تنهي النيابة التحقيقات كانت الشرطة ألقت القبض على 21 آخرين من قادة "الإخوان" وضمتهم إلى المجموعة السابقة وأحالت الجميع على محكمة عسكرية. صدم "الإخوان" وشعروا بأن الإجراءات الحكومية ستكون أشد وطأة على المستقبل وأن العاصفة ستكون قوية. ولم تمر سوى أيام حتى أقرّ البرلمان تعديلات جديدة على قانون النقابات المهنية رفع بمقتضاها الحد الأدنى لأعداد الناخبين إلى 50 في المئة من أعضاء الجمعية العمومية لكل نقابة، ثم فرضت الحراسة على نقابة المهندسين. وجاءت الضربة الثالثة سريعاً في تشرين الأول أكتوبر من العام نفسه باعتقال عضو مكتب الإرشاد الدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح وآخرين من قادة الجماعة وأحالتهم أيضاً على محكمة عسكرية بتهم تشبه تلك التي وجهت إلى العريان وزملائه. غير ان تلك الاجراءات لم تدفع الاخوان الى التراجع أو تهدئة الأمور بل إنهم على العكس من ذلك فاجأوا الحكومة بترشيح اكثر من 150 من قادة الجماعة وكوادرها لخوض الانتخابات البرلمانية التي أجريت في الشهر التالي، وعلى رغم أن الإخوان سجلوا فشلاً ذريعاً في تلك الانتخابات ولم تحقق الجماعة سوى مقعد واحد فاز به علي فتح الباب في دائرة حلوان. إلا أن الحديث عن تزوير الانتخابات ومنع مرشحي الإخوان من تنظيم حملاتهم الدعائية ومنع مندوبيهم من دخول لجان الانتخاب، كل ذلك ضاع وسط ضجيج الحديث عن المحاكم العسكرية ل"الإخوان" التي كانت الأولى منذ 1965. هكذا وجد "الإخوان" أنفسهم في موقف بالغ الصعوبة حينما توفي أبو النصر في 1996 ورددوا خلف مأمون الهضيبي البيعة لمصطفى مشهور مرشداً أثناء قيامهم بدفن أبو النصر. وبالطبع فإن الظروف الأمنية والمطاردات التي يتعرض لها رموز الجماعة وعناصرها واستحالة عقد اجتماع لمجلس شورى الجماعة لانتخاب المرشد، كلها أسباب بررت ما جرى من مخالفة للوائح الجماعة. لكن كان من الواضح أن شخصية مشهور ومكانته وتاريخه العريق في الجماعة خففت من حدة الاعتراضات. كما أن "إخوان الخارج" حفظوا للرجل تاريخه الطويل في السجن ونضاله في مواجهة بطش العهد الناصري، وفي الخلفية بدا أن مأمون الهضيبي نائب المرشد صار الشخص الأقوى في الجماعة ليس فقط لأنه كان ابن المرشد الثاني حسن الهضيبي ولكن لما كان يتمتع به من كاريزما وذكاء ورؤية إصلاحية. وربما اعترض البعض على سياساته وتصرفاته لكن البعض الآخر كان يرى في أفكار الرجل ما يقرب بين الشباب والشيوخ، وكانت آراؤه في شأن المرأة والعلاقة مع الأقباط والانفتاح على القوى السياسية الأخرى تجد قبولاً بين الجميع على رغم اعتراضه على بروز أحد غيره في مقدم الصورة. وحين توفي مشهور في تشرين الثاني نوفمبر 2002 لم يكن أحد يتوقع مرشداً غير الهضيبي، وسريعاً أعلن مكتب الإرشاد تنصيبه وأكدت الجماعة أنها راعت اللوائح والإجراءات في اختياره. وعلى رغم أنه كان يتخطى الثمانين إلا أنه رفض تعيين نواب له، ربما حتى لا يفتح صراعاً لخلافته أو لأن طبيعته كانت ترفض أن يزاحمه أحد، لكن في كل الأحوال فإن عهده القصير لم يشهد خلافات إلا ذلك الخلاف بينه وبين عضو مكتب الإرشاد الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح في شأن تصريحات أدلى بها الأخير حول الموقف من تولي قبطي منصب رئاسة البلاد. وظهر الخلاف إلى البعض عبر وسائل الإعلام، وهي مسألة لم يكن الهضيبي يهتم كثيراً بها فهو كان دائماً يرى أن التنظيم أقوى من الأشخاص وأن الدعوة يجب أن تستمر بغضّ النظر عن مواقف بعض قادتها. وصحيح أن "الإخوان" فقدوا قائداً مهماً بغياب الهضيبي لكن يبدو أن التنظيم يسير بقوى الدفع الذاتي وأنه بعد غياب الهضيبي تساوت الرؤوس، وانتخاب عاكف أو غيره سواء من جيل الشباب أو الوسط لم يكن ليشكل فرقاً كبيراً. * من أسرة "الحياة".