إذا كانت الوطنية هي آخر ملجأ للمحتال، كما يقول الإنكليز، فإن حرية الصحافة هي آخر ملجأ للصحافي، خصوصاً الصحافي الكريه الذي تفيض نفسه بما فيها من جهل بالموضوع وعنصرية وأحقاد. لم أسمع منذ الضجة التي أثارها كلام روبرت كيلروي - سيلك عن العرب دفاعاً عن بذاءته سوى التذرع بحرية الكلام، وأترك الكلام هنا لجريدة "الصنداي ميرور" التي كتبت تحت عنوان "لا تعطوا كيلروي المريض منبراً للحديث" مقالاً قالت فيه إن كتّاب المقالات في الصحف يسعون لأن يكونوا جدليين، او مثيرين، ولكن هذا لا يعني ان يكونوا عدوانيين مهينين عنصريين... جريدتا "الصنداي اكسبرس" التي كتب فيها كيلروي - سيلك رأيه، و"الصنداي تلغراف" نشرتا الأحد مقابلتين معه، وكل جريدة تزعم انها "تنفرد" بمقابلته، فإما ان الجريدتين تكذبان، او انه كذب عليهما. ودافعت عنه جريدته بالقول انه لم يقصد هجوماً عنصرياً على العرب بل نقداً سياسياً حامياً لبعض الدول العربية. وهو زعم في مقاله الجديد: "من الواضح انني لا أعتقد ان جميع العرب يقومون بعمليات انتحارية، مثل هذا الرأي غبي، كما نعرف جميعاً، فأكثر العرب متعلمون متمدنون حضاريون والمقال كان يهدف الى انتقاد دول عربية معينة". هل هذا صحيح؟ مقاله المنشور تحدث في فقرته الأولى عن البلدان العربية، وأشار الى العرب في فقرة اخرى من دون تحديد وهو ينتقد العمليات الانتحارية وبتر الأطراف واضطهاد النساء. وأنهى هذه الفقرة بالقول انه لا يعتقد ان الدول العربية ايضاً معمماً تستطيع ان تبدأ جدلاً حول من هو كريه. وفكرة المقال كله انه اذا دمرت البلدان العربية في الحرب على الإرهاب فلن تكون هناك خسارة لأن العرب لم يقوموا بعمل مفيد في حياتهم. هناك ألف سبب لانتقاد العرب، وثمة اسباب لانتقاد اي شعب او دولة، والموضوع هو الموضوعية، فلو تحدثت عن بريطانيا ولم أجد فيها سوى إرثها الاستعماري، وما تركت وراءها من مصائب في فلسطين وقبرص وكشمير، لكان هذا جزءاً بسيطاً من الحقيقة، لأن بريطانيا ايضاً بلد ام البرلمانات والثورة الصناعية وشكسبير ونيوتن. في اليوم الذي كان كيلروي - سيلك يدافع عن نفسه وتنشر "الصنداي تلغراف" مقابلة له، كانت تنشر ايضاً تحقيقاً هائلاً عن كنوز العراق وأفغانستان، وتحديداً عن "ذهب نمرود" في المتحف العراقي، وهو مجموعة من التحف لا مثيل لها في العالم كله. كيلروي - سيلك من الجهل ان يعتقد ان ايران بلد عربي، وأرحب بإيران وشعبها، وأذكّر الكاتب البريطاني العبقري بأن عمر الخيام كان يكتب رباعياته، قبل ان توجد اللغة الإنكليزية في شكلها المستعمل اليوم. أما عن الأشياء المفيدة التي قدمها العرب، او العراقيون القدماء، او المصريون، او شعوب الشرق الأوسط ككل، فعندي التالي: - اخترعوا الأبجدية، وهناك كتاب جديد في الأسواق الآن بعنوان "الأبجدية" من تأليف ديفيد ساكس، يشرح خروجها من سيناء ومصر، وكيف اقتبسها اليونان ثم الرومان. - قبل 12 ألف سنة، اي قبل الأبجدية بتسعة آلاف سنة، شق العراقيون اول قنوات ري للزراعة. - اكتشفوا طريقة لمعرفة الوقت. - العلماء الذين ارسلهم المأمون الى الصحراء عادوا ليقولوا له ان الأرض تدور حول الشمس، لا العكس. - شريعة حمورابي اول نظام قانوني في العالم، والوصايا العشر اقتبست منها. - اول ملحمة في تاريخ الأدب العالمي كانت عراقية واسمها "كلكامش". - اخترعوا الرياضيات الحديثة، وطبقوا نظرية فيثاغورس قبل 1700 سنة من مولده. - اصل حضارة العالم كله في اور، وأصلها الثاني في مصر، وليس في برمنغهام. - اكتشفوا طريقة لمعرفة الوقت. - اقدم مدينة في العالم هي جبيل، وأقدم مدينة مسكونة باستمرار هي دمشق، وفي حين ان لندن حاضرة عظيمة، فإن عمرها ألف سنة فقط، في مقابل خمسة آلاف سنة او ستة آلاف لمدننا. - كانت هناك مدارس وجامعات في مدن الشرق الأوسط، قبل ميلاد السيد المسيح. - ترجم العرب الفلسفة اليونانية، وانتقلت من العربية الى اللاتينية وغيرها من اللغات الأوروبية عبر الأندلس. - هاجم التتار بغداد وأحرقوا مكتبتها ولم يهزموا، وإنما ذاب احفاد جنكيز خان الغزاة في المنطقة، ثم اسلموا واكتسبوا حضارة رجعوا بها الى الشرق الأقصى، وحضارة شمال الهند هي مما عادوا به من بلادنا. - قواعد اللغة العبرية طورها ابن ميمون ميمونيوس في الأندلس من قواعد اللغة العربية "تاريخ العرب" لفيليب حتي. لا أحتاج ان ازيد لأنني اريد ان اختتم بدرس من التاريخ المعاصر، فجهل كيلروي - سيلك يجمع القديم والحديث، وهو تحدث عن العمليات الانتحارية، وأخطأ كثيراً. استطيع ان اتكلم عن هذه العمليات بحرية لأنني ارفضها بالمطلق ورأيي معروف ومسجل مرة بعد مرة بعد مرة. لم يعرف الفلسطينيون والعرب الآخرون والمسلمون هذه العمليات قبل الاحتلال، وقبل اليأس من نهايته، وأول عملية انتحارية اذكرها في منطقتنا نفذها الجيش الأحمر الياباني في مطار اللد في السبعينات، غير ان الاحتلال، بوحشيته واستمراره، قلب حياة الناس الى جحيم حتى اصبحوا يفضلون الموت على حياة هي الموت بعينه. ولا يعني هذا انني أبرر العمليات الانتحارية بل ارفضها مرة اخرى، وأدعو الى وقفها، ثم أحمّل اسرائيل مسؤوليتها، ومعها امثال كيلروي - سيلك.