اعتبر الحاكم المدني الأميركي في العراق بول بريمر ان إجراء انتخابات حرة في العراق، ليس خياراً جيداً في الوقت الراهن، الأمر الذي يطرح اسئلة عن المعيار الذي تعتمده الإدارة الأميركية للشروع في تطبيق الديموقراطية التي تريدها في العراق، ويرسل اشارة الى ان دعواها الديموقراطية مشروطة، مثلها مثل دعوات بقية الأنظمة الشمولية. وقد يكون الاستنتاج من المعيار الأميركي المتبع هو التنصل من الديموقراطية. إن لم تضمن وصول من تريدهم الى مقاليد الحكم في العراق. والغريب في دلالة هذا التنصل هو انه يلتقي مع دعوات الكثير من الأنظمة العربية التي ترى ان الوقت الراهن ليس مناسباً للشروع في التغييرات الديموقراطية في بلدانها. بل وهنالك في مفردات خطاب الأنظمة الحاكمة العربية ما يذهب الى التحدث عن ماهية "الديموقراطية المطلوبة" لبلداننا، ويعرب عن استهجانه للدعوات المنادية بتطبيقها، ويرفضها بدعوى اننا لا نريد "ديموقراطية الغرب"، لكنه يصمت عن الأشياء التي تصنع في "الغرب" خصيصاً لحماية رموز انظمة الحكم العربية، ولا يعتبر ذلك استيراداً لشيء "غربي". فالديموقراطية وفق معياريته "مستوردة"، كونه يفصل "ديموقراطية" مشروطة، تبتعد عن مركبات وحمولات مفهوم الديموقراطية. لا شك في ان مقولة "ديموقراطية الغرب" مضللة، اذ لا يمكن تفصيل ديموقراطية للغرب وأخرى للشرق، وربما ثالثة للشمال، ورابعة للجنوب... الخ. ويمكن القول ان اقلمة الديموقراطية قد تختلف من اقليم الى آخر، على ان نفهم الإقليم ليس بصفة جغرافية فقط، بل بشراً ومحيطاً وبيئة مكتنفة. فالديموقراطية في الهند لها مركباتها وحمولاتها وتحققاتها المختلفة عن الديموقراطية في فرنسا مثلاً، لكن لا يمكن وصف النظام في اي بلد عربي في وقتنا الراهن بأنه نظام ديموقراطي، كما لا يمكن ان تكون هنالك ديموقراطية في ظل استئثار الحزب الحاكم بالسلطة، او في ظل قوانين الطوارئ والأحكام العرفية، بل ولا يمكن تحقيق المواطنية في ظل تلك الأحكام. إن مفهوم الديموقراطية، مثله مثل بقية المفاهيم الفلسفية، خضع لتغيرات وأقلمات عدة. ثم تغايرت حياة هذا المفهوم، حينما جرت محاولات وأده في العصور الوسطى، ولم تتجدد عملية اعادة اقلمته في العصر الحديث إلا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وبالتحديد مع انوار الثورة الفرنسية. إذ يمكن اعتبار كتاب "العقد الاجتماعي" لجان جاك روسو بمثابة البناء النظري الحديث للنظام الديموقراطي وسيادة الشعب. وكان هدف روسو - وقتئذ - وضع حد لديكتاتورية ملوك فرنسا وأوروبا الذين كانوا يزعمون انهم يمثلون ظل الله على الأرض. وطالب بأن تكون السيادة للشعب. عبر انتخابه ممثليه الذين يحكمونه من خلال القوانين العامة المجمع عليها. وعليه فإن اقلمة الديموقراطية في العصر الحديث، عن انتقال مشروعية الحكم من القمة الى القاعدة ومن فرد واحد الى كل افراد الشعب. قد تكون الديموقراطية اقل الأنظمة السياسية سوءاً كما يقال، لكنها برهنت على الدوام انها افضل نظام سياسي ممكن. وهي تعني مهما اختلفت اقلماتها وحمولات مركباتها، حكم الشعب. وفي الحال العربية، تشكل الديموقراطية احدى المسائل الملحة التي لا تزال مطروحة في الساحة السياسية والثقافية العربية. وكثيراً ما يتم طرح السؤال عن إمكان تطبيق الديموقراطية في اي مجتمع عما اذا كان المجتمع في حد ذاته مؤهلاً لممارسة الديموقراطية في شكل صحيح ام انه لا يملك المستوى المطلوب من الثقافة السياسية الذي يؤهله لهذه الممارسة. وهناك اطروحة مزدوجة المصدر ذات مضمون واحد، مفادها ان المجتمعات العربية ليست مؤهلة للديموقراطية. بينما حقيقة الأمر تبين ان هذه الأطروحة هي حجة الخطاب التسلطي العربي الذي لا يؤمن إلا ب"ديموقراطية" ملحقة بشعاراتية مخادعة، مثل الديموقراطية الشعبية، الديموقراطية المسؤولة، ديموقراطية الجماهير، وغير ذلك. ان الديموقراطية ممارسة وإبداع يومي، تتكفل مختلف عناصرها تخفيف الضرر الناجم عن تكليف قطاع واسع من الناس ممثلين منهم إدارة شؤونهم خلال فترة معينة من الزمن. والشعوب كالأفراد لا تتعلم إلا من تجاربها الناجحة والفاشلة، وأضمن وسيلة للتعلم هي الشروع في التعلم باكراً. مع ان الديموقراطية لا يمكن تصورها من دون جملة المفاهيم المرتبطة بها. كالمواطنة وحقوق الإنسان واستقلال القضاء وحرية الرأي والتعبير، والتداول السلمي للسلطة وغير ذلك. وعليه فإن التعامل مع الديموقراطية، ينطلق من اعتبارها منظومة تاريخية في طور التجريب، وعلى المهتمين بالشأن العام المشاركة في تطويرها. ذلك ان الديموقراطية هي مشروع سياسي، يهدف الى تجسيد المساواة والعدالة والحرية والكرامة والسلم التي يريدها لتسود في المجتمع، وتتحكم في مناحيه، ولها آليات معينة ومحددة تماماً. اليوم، وبعد سقوط بغداد، جاءت الحملة العدوانية الأميركية لتخطف الدعوى الملحة عربياً في التغيير الديموقراطي، وأضحى دعاة تأبيد الحاضر، يستخدمون الاستيلاء الأميركي لدعوى التغيير كذريعة للوقوف ضد اي صوت ينادي بالتغيير او الإصلاح، وصار التمترس حول الأنظمة القائمة جزءاً من "المصلحة الوطنية العليا"! ومع القناعة بأن الإدارة الأميركية تبحث في المنطقة العربية عن تحققات مصالحها، وليس عن تحقيق الديموقراطية، فإن حراس الأنظمة الحاكمة، القدماء منهم والجدد، يحاولون تصوير اي تحرك في الإصلاح السياسي عربياً، مجرد تماهٍ مع الرغبة الأميركية، او مساندة لها في تحقيق طموحات الامبراطورية الأميركية في شكل او بآخر، وفي هذا تضليل شديد. ان السياسة الأميركية في منطقتنا العربية لا تمتلك اي صدقية، فهي لم تكن عادلة، او حتى محايدة، تجاه القضايا العربية، وهي تحاول اليوم تغيير خريطة منطقتنا العربية، بما يتماشى وتحقيق النزوع الامبراطوري، ويخدم استراتيجيتها الهيمنة والسيطرة. وكلنا يتذكر الكثير من الشواهد في بلداننا العربية. خلال الربع الأخير من القرن العشرين المنصرم، حينما كانت القوى السياسية الحية تطالب بالديموقراطية وبالإصلاح الداخلي وبتوسيع قاعدة المشاركة في الحكم، وكانت تضحي من اجل ذلك وتواجه القيود والسجون والحصار، فإن السياسة الأميركية لم تكن تعير هذه الأمور ادنى انتباه، بل كانت تدعم الأنظمة الحاكمة القائمة بكل سياساتها. * كاتب سوري.