تلح إسرائيل والولاياتالمتحدة على أن الديكتاتورية في العالم العربي هي التي أعاقت السلام العربي الإسرائيلي على أساس أن لغة الحوار بين الديموقراطية والديكتاتورية غير موحدة، وأن رموز الخطاب الإسرائيلي السلمية غير مفهومة، وأن هذه الرسالة السلمية لا تصل إلى الشارع العربي بسبب حجبها عن طريق النظم الدكتاتورية. تقول الحجة الإسرائيلية أيضاً إن هناك علاقة وثيقة بين "الإرهاب العربي" وبين الديكتاتورية العربية، لأن هذه الديكتاتورية تخلق أجيالاً بائسة قلقة مضطربة حانقة بسبب تردي أوضاعها وغموض مستقبلها وشعورها بالإهانة المتتالية، وهي ترى بلادها تعج بالخيرات ومنطقتها عامرة بالثروات، ومع ذلك فهي تعاني الفقر والحرمان والقمع إزاء تميز إسرائيل وما تتمتع به من حريات وقدرات رغم قلة إمكانياتها، كما يتمتع المواطن فيها بأعلى مستوى من الدخل 18 ألف دولار سنوياً مقابل مئات الدولارات للفرد العربي، فضلاً عما تكشف عنه تقارير التنمية البشرية الدولية من فوارق هائلة بين إسرائيل والعالم العربي. تقول إسرائيل أيضاً إن حجب الحريات وتدهور الأحوال المعيشية مع توافر الإمكانات، وشيوع النهب والفساد وتحول الدول العربية إلى إقطاعيات لمصلحة حكامها هو الذي ولد القهر والحرمان لدى هذه الشعوب، فأرادت النظم العربية أن تصرف شعوبها عما تعانيه. وتضيف الحجة الإسرائيلية أن الجماعات الإسلامية المعارضة لإسرائيل تتبنى استراتيجيات لا تقبل بأي شروط للصلح بين الدولة العبرية والعالم العربي، ونذرت نفسها لتدمير إسرائيل على أساس فهمها أن إسرائيل إمتداد لليهود في الجزيرة العربية، وأن الصراع بين هؤلاء اليهود وبين الرسول صلى الله عليه وسلم امتد إلى الصراع بين أتباع الرسول وبين أحفاد اليهود. وخلصت إلى هذه النتيجة بيسر من تحليل الخطاب السياسي للجماعات الإسلامية المتطرفة في مناسبات مختلفة. وهذه النتيجة هي التي بُنيت عليها استراتيجية إسرائيل ومنهج الفكر الصهيوني المعاصر، وتقضي بوضوح بأن الارهاب في العالم العربي وضد الغرب سببه الديكتاتوريات العربية وعدم قدرتها على إقامة نظام لإعادة بناء المجتمعات العربية بحيث تستوعب هذه الجماعات في ثقافة ديموقراطية تشيع فيها قيم التسامح واحترام حقوق الإنسان والاختلاف في الرأي والمشاركة في القرار وحرية تكوين الآراء والتفاعل مع مدخلات البيئة الدولية الجديدة وأفكار التعايش والاعتماد المتبادل وعدم تفسير النصوص تفسيراً مغلقاً يتسم بالقداسة العمياء. وتضيف أن اصطناع المواجهة مع إسرائيل هدفه أن يظل الانشغال بالصراع العربي الإسرائيلي ذريعة تلهي الشعوب العربية في قضية تمس وجودها، بل ترى إسرائيل أن هزيمة العالم العربي العسكرية والسياسية تلقى ترحيباً من حكوماتها التي تطول حياتها ما طال الصراع، وتؤجل الديموقراطية ما دام الصراع مستمراً، إذ ترى هذه النظم أن الأولوية المطلقة لهذا الصراع وليس للتسوية أو للديموقراطية. واستشهدت الكتابات الإسرائيلية بحالة مصر عندما ظلت الديموقراطية مؤجلة، تارة لأن الثورة لم تستقر وأن أعداءها سيستغلون قسط الحرية الذي تبشر به الديموقراطية للإنقضاض على "المكتسبات الثورية"، وتارة ثانية، لأن تحرير الوطن من المستعمر البريطاني مقدم على تحرير المواطن من الحكم الديكتاتوري القمعي، وتارة ثالثة، لأن تحرير سيناء من الاحتلال الإسرائيلي يعلو على دعاوى تحرير المواطن، فلا حرية لمواطن في وطن غير حر، بينما يمكن أن يصبر المواطنون على قمع حرياتهم ما دام حكامهم منشغلين في تحرير الأقاليم والمواطنين حسبما روّج لذلك كهنة النظم المتعاقبة في مصر ومحترفو فقه البطش وزبانية السلطان. ولاحظت إسرائيل أنه حتى عندما سمح بتجربة الديموقراطية، أدرك الحاكم أن حرية المواطن هي حسم من سلطانه وقيد على حركته، ولما كان الحاكم حريصاً على حرية الحركة، وهو الأقدر على معرفة حاجات أبنائه، فقد سمح الحاكم لنفسه أن يتصرف مع المواطنين تصرف الأب مع أبنائه بحيث تظل العلاقة بينهما دائماً محكومة بإطار عام، وهي أن الأب لا يفرط في حقوق أبنائه مقابل تسليم هؤلاء الأبناء أقدارهم لهذا الأب الرحيم، فإن تجاسروا على الاستفسار أو المراجعة اعتبر ذلك عقوقاً يجب التصدي له بالقوة عقاباً على الخروج على آداب التعامل بين الأبناء والآباء. وهذه الديموقراطية الأبوية هي التي سمحت لمصر بعقد السلام مع إسرائيل، فضمنت احتواء ردود فعل الأبناء بحكمة الوالد الحكيم وبنظرته الثاقبة، الذي وعد أبناءه بالكرامة والأمن والرخاء والتفرغ للبناء والإعمار وحقن الدماء والإفلات من دائرة الصراع الجهنمية إلى شاطئ الفردوس المفقود. وخلص التحليل الأميركي الذي بثته الولاياتالمتحدة في بياناتها الرسمية وخطابها الرسمي إلى أن الديكتاتورية والإرهاب في العالم العربي وتعقد حل الصراع العربي الإسرائيلي يمكن علاجها جميعاً بإقامة الديموقراطية في العالم العربي، بحيث يتم إعادة بناء المجتمعات العربية وخلقها خلقاً جديدا. فهل الديكتاتورية بصورها المختلفة في العالم العربي هي التي خلقت الإرهاب حقا؟ وهل الديموقراطية في العالم العربي الحل؟ هذه المقالة لا تهدف إلى الدفاع عن العالم العربي دفاعاً أعمى، لكنها تريد أن تصل حقاً إلى إجابة شافية وتشخيص سليم للمأساة. فقد أصبحت دعاوى شيوع الديكتاتورية في العالم العربي واستباحة أرزاق الناس لمخالب الفساد وتولي أسوأ عناصر الأمة زمام أمورها خطاباً طاغياً في الغرب أدى إلى إستنتاج مرّ، وهو أن الشعوب العربية اليوم حائرة في تجربة العراق ودروسها، كما أنها في حيرة في موقفها من خطاب الغرب وإسرائيل. ومؤدى ذلك أن الشعوب العربية بين نارين أو أمرين أحلاهما مر: هل توافق على أن الديكتاتورية في العالم العربي حكم وطني، وتفضل أن تؤكل من جانب حكامها وتسترق من قبل أبناء جلدتها، وعند الخيار بين جنة أجنبية ونار وطنية، فالنار الوطنية أرحم من جنة أجنبية؟ أم أن الشعوب ضاقت ذرعاً بالشكوى وملت من الصبر وعجزت عن إقناع حكامها بالتغيير وهم يمعنون في التزييف تأبيداً للتسلط ومصادرة الحقوق والحريات، وأن هذه الشعوب لا تمانع في أن يخلصها الغرب من جلاديها، بشرط ألا تستبدل بطشاً ببطش وذلاً بذل واستغلالاً باستغلال واسترقاقاً للشعوب من الحاكم الوطني باسترقاق لها من المحتل الأجنبي؟ صحيح أن النظم العربية تساهم في إعاقة الانطلاق العربي وتحتاج إلى تحديث وإصلاح حقيقيين وأن دعاوى الإصلاح ووعوده الزائفة استنفدت طاقات الشعوب. وصحيح أيضاً أن نظام صدام حسين فاق غيره من النظم العربية في البطش بشعبه حتى أصبح شعبه الذي عجز عن خلعه أو مقاومته يرحب بالخلاص منه. إلا أن الصحيح أيضاً أن الشعوب العربية لم تتمكن حتى الآن من أن تجد لها طريقاً مقبولاً لكي تعكس السلطة تطلعاتها، أو أن تؤكد على حكم القانون الذي يجب أن ينزل عليه الجميع. والربط بين الديموقراطية العربية والسلام مع إسرائيل حق أريد به باطل، لأن الديموقراطية العربية الحقيقية لن تزيد الشعوب العربية إلا إصراراً على السلام الحقيقي مع إسرائيل. لكن المشكلة هي في إسرائيل التي تريد شعوباً مستأنسة انتزعت منها حاسة الكرامة والعدل حتى تقهرها على قبول السلام الإسرائيلي بقوة السلاح. غير أن الديموقراطية العربية التي تستعين بأنصع عقول هذه الأمة ستقضي على هذا الوضع المزري الذي تُمعن إسرائيل في استغلاله وتتمسك في ظله بكل مصالحها في أقصى درجاتها. وستخير إسرائيل بوضوح بين رغبتها في السلام الحقيقي الذي يقوم على اعطاء كل ذي حق حقه ونزع أسلحة المنطقة جميعاً، وبين الاحتكام إلى القوة، مفهومةً على أنها القوة للجميع، وليس التسليم العربي المتتالي والتراجع المستمر مقابل تمسك إسرائيل بأسلحتها بدعوى أنها حالة خاصة ولاعتبارات نفسية تتعلق ببني إسرائيل على وجه الخصوص. وتقوم النظرية الغربية على الربط بين الديموقراطية والسلام، ولكن الحربين العالميتين الأولى والثانية أثبتتا فساد هذه النظرية على الأقل في عجز الديموقراطيات عن حماية نفسها من الديكتاتوريات التي تسببت في الحروب. كما فشلت هذه النظرية في حالة إسرائيل التي تقيم نظاماً ديموقراطياً كجزء من منظومتها الصهيونية، ولم يعد مقبولاً حجة إسرائيل بأن ديموقراطيتها وسلامها تهددهما الديكتاتوريات العربية التي جعلت التفاهم مفقوداً، كما جعلت الإرهاب ناتجاً طبيعياً لكبت الحريات. فإذا سلمنا بمفاسد الديكتاتوريات، وما أحدثته من انحطاط في القدرات العربية، فإن زوال هذه الديكتاتوريات لا علاقة له بالسلام العربي الإسرائيلي، ما دامت إسرائيل تحرص على أن تمتلك كل شيء: الأرض، والأمن، والقوة بكل أصنافها. بل أكاد أزعم أن العالم العربي إذا بدأ يعرف طريق الإصلاح الحقيقي والاستفادة من قدراته، فإن ذلك سيعد حسماً من قوة إسرائيل، ما دامت إسرائيل أيضاً تدير الصراع وفقاً لمعادلة صفرية، وتعتبر القوة أداة للتسلط، وليس دفاعاً عن الحقوق. ومن ناحية أخرى، فلا بد من الفصل الكامل بين زوال النظم الديكتاتورية العربية، وهو أمرٌ مطلوب، وبين إقامة ديموقراطية عربية على النمط الذي تريده الولاياتالمتحدة. وجوهر المشكلة هو الشك في نيات الولاياتالمتحدة بسبب انحيازها الكامل لإسرائيل والاعتقاد الصارم في العالم العربي بأنها تريد التغيير للقضاء على أي مقاومة عربية للتسلط الإسرائيلي والمطالبة العربية بتسوية عادلة، بينما تنوي اسرائيل تحقيق تسوية تعكس ميزان القوة الذي تريده الولاياتالمتحدة عن طريق برامجها الديموقراطية أشد خللاً لمصلحة إسرائيل مما يكرس وضعاً تختفي فيه الحقوق العربية وتسلم فيه الديموقراطيات العربية الجديدة بكل متطلبات المشروع الصهيوني. * كاتب مصري.