أن يقع القارئ المشرقي على رواية مغربية مناسبةٌ سعيدة، فالتكامل الثقافي العربي لم يطرح أسئلته ولم يعن بالإجابات، وأن يلتقي القارئ برواية عربية تثير الفضول أمر سعيد بدوره، بعد أن ضاقت مساحة الإبداع الحقيقي، باستثناء مساهمات محدودة. وهذان البعدان اللذان يوحيان بالسعادة، والسعادة كلمة طريفة، ينطبقان على رواية: "المصري" للمغربي محمد أنقار، أستاذ التعليم العالي في كلية الآداب في تطوان. والرواية، التي تصفها "دار الهلال" 2003 بدرة أعمال الروائي، تحتضن مواضيع كثيرة، أولها "العصر" الذي يلحقه غروب ينفتح على الموت، مروراً بعبق المكان القديم الهارب من ذاكرة مؤرقة، وصولاً الى حلم الكتابة الذي ينوس بين التحقق والخيبة المريرة. غير أن الرواية، التي كتبها أستاذ الأدب المقارن، تضيف الى هذا كله هوى مصرياً صريحاً، يلهج باسم محفوظ منبهراً ولا يتلكأ في الثناء على طه حسين والرافعي وسيد قطب ومجلة الهلال، ويذوب شوقاً الى حواري القاهرة ومقاهيها المحتشدة بالألفة والعتاقة... وهذا الهوى، الذي إن حطّ على قلب لوّعه، هو الذي يعطي الرواية اسمها، كما لو أن المغربي يعيش كتابة ما منعته عنه المسافات. بنى الروائي عمله على موضوع رحب يثير الفضول هو: الإبداع في الوهم أو الوهم في الإبداع، الذي يُقنع قارئاً لا موهبة له بمحاكاة مبدع حقيقي يدعى نجيب محفوظ. والقارئ المقيّد الى وهم قاتل أستاذ مدرسة، يقترب من التقاعد ومن الستين من عمره، ظنّ، وهو يشيّع صديقاً قديماً، أن القدرة على القراءة تساوي القدرة على الكتابة، وأن الكتابة تعوّض على الراحلين وتصدّ أطياف الموت. والقارئ، الذي روّضته المدرسة التقليدية وبلاغة الرافعي، عاشق لنجيب محفوظ، مولع به، متسقطّ لأخباره، بل انه كلف به كلفاً لا شفاء منه. فهو يستذكر الروائي المصري في قيامه وقعوده، ويعطي ابنه الأول اسم "نجيب" والثاني اسم "كمال"، بطل "الثلاثية" القلق الكبير الرأس والأنف، وهو يستظهر غيباً مقاطع روائية ويردّد اسماء "أحمد عاكف والشيخ الحمزاوي وزنوبة..."، بل ان المبدع الواهم يجول في أماكن "الثلاثية" ويرى بقلبه الى مقاهي: "ريش وعرابي وقشتمر وكازينو صفية...". ولأن في المحاكاة المتوهمة ما يستدعي فضائل المُحاكى الأولى، يكون على "تلميذ الرافعي" أن يكتب "ثلاثيّته"، مستبدلاً بالقاهرة المصرية تطوان المغربية، ومستعيضاً عن خيال محفوظ الفاتن بعقل مدرسي صاغته العادة الثابتة وتعاليم الزوجة القاهرة. وواقع الأمر أن انسان العادة، الذي لن يصبح روائياً، ينصاع، في شكل كاريكاتوري، الى أفكار رينيه جيرار عن المحاكاة الروائية، التي تضع نابليون بونابرت، وهماً، في جسد جندي مغرور ينتهي سريعاً الى المقصلة، وتجعل "مدام بوفاري"، تفتش في الحياة عن عاشق رومانسي ثريّ التقت به في الروايات. وكما ينتهي الجندي الى حتفه والعاشقة الرومانسية الى انتحارها، ينتهي المبدع الواهم الى الخيبة، مستسلماً ل"العصر" الحزين، الذي يعقبه المساء المتشح بالسواد. لهذا يستظهر الروائي الخائب ثلاثية محفوظ، يزامل ياسين وتلازمه زنّوبة، ويسير في شوارع تطوان معتقداً أنه يجول في حواري القاهرة، من دون أن يسطر حرفاًَ على الصفحات البيض. وإذا كان في المحاكاة المريضة ما يثير الضحك، لأن ارتياد المقاهي وتدخين "الشيشة" لا يجعلان من قارئ محفوظ محفوظاً آخر، فإن فيها، لزوماً، ما يثير الأسى، ذلك أن المحاكي لا يعثر على وجهه الأخير إلا بعد أن تشجّ رأسه. لذا تكون دورة الخائب في أحياء تطوان، التي اقترحها الخيال العاجز، اضاءة لعجز المدرّس التقليدي وسخرية من أحلامه الفارغة. إنها لحظة اكتشاف العجز المهين، الذي ينفتح على الموت، بعد أن سخرت منه الحياة المبدعة. وضع الروائي، في مستوى من عمله، موضوع المحاكاة العاجزة ووضع، في مستوى آخر، تراجيديا الانفصال، وهي بعد أساسي من أبعاد ثلاثية محفوظ. وللموضوع الأول أسبابه التي تستولد من ضياع الواهم ضحكاً ودموعاً في آن، على خلاف الموضوع الثاني الذي يوقظ مأساة خالصة، تحكي لوعة الزمن وتداعي الاتصال. فما كان رطباً أجهزت عليه ظهيرة حارقة، وما كن لدناً احتواه اليباس. وما لوعة الروائي الخائب، إلا وجوهاً من لوعة "أحمد عبدالجواد" بطل الثلاثية، على رغم الفروق الفادحة بين موظف تطواني تقليدي وتاجر قاهري يضجّ بالتناقضات. يأتي الانفصال موجعاً من جهات مختلفة: الانفصال عن الشباب الذي كان والأصدقاء الراحلين، وانفصال الأب عن أبنائه وانفصال أمكنة الطفولة عنه وانفصاله المتصاعد عن الناس وعاداتهم ولغاتهم وقيمهم... غير أن حزن المحاكي المخدوع يصدر أولاً عن انفصاله عن وهمه القديم، أي حلم الكتابة المبدعة، الذي يتركه مخذولاً في العراء. تحتشد الرواية، بهذا المعنى، بموضوع الزمن، تراه في التغيرات الخارجية التي تدع المتفرّج الستيني مغترباً، وتراه في تطامن الجسد، الذي تهاجمه الأمراض. أعطى محمد أنقار موضوعيه، أي المحاكاة العاجزة والانفصال، صوغاً لا تنقصه الموهبة، إن لم يصل في ثانيهما الى صفحات مشرقة، كثيفة المعنى وظاهرة الجمال. بيد ان حضور نجيب محفوظ الكثيف في الرواية خلق له إشكالاً لا هروب منه، بسبب موضوع الانفصال، الذي يحيل على المأساة الإنسانية الخالصة، والسخرية السوداء. فقد عالج محفوظ هذا الموضوع في "الثلاثية" ودفعه الى حدوده الأخيرة، متوسلاً تكثير الموت المفاجئ وفساد الأمكنة وتداعي الهيئة الجميلة، ومتكئاً على أدوات فنية مبدعة غير مسبوقة. وتجلّى هذا الإبداع في تقنية المجاز المأسوي، الذي عالج به الشقراء البائسة المصير "عائشة"، التي تمثّل أقدارها الذاتية وتحتقب الأسى الإنساني كله في آن. فهي من ناحية إنسانة دمرها "القدر"، وهي من ناحية أخرى الوجع الإنساني الكلي الذي تأنسن في شكل امرأة زرقاء العينين رخيمة الصوت. وإضافة الى المجاز المأسوي، الذي يقطع عن الإنسان المهزوم استمراريته البيولوجية، تعامل محفوظ مع مجاز "النكتة"، أو المفارقة السوداء، التي تحوّل غانية يتشهّاها الجميع الى كائن هجين لا شعر له حافي القدمين، يصبغ وجهه ويرتدي ما يرتديه الرجال، وتجعل شيخاً فانياً فقد الذاكرة يتابع السير في الشوارع بعد أن دفن عائلته منذ زمن طويل. أمام الكثافة المدهشة التي أودعها محفوظ مصائر المفجوعين، عثر محمد أنقار على حزن بارد متداول، عناوينه المرض والموت وتداعي الاتصال. ربما وصل "أنقار" الى ما وصل اليه وأجاد فيه، غير أن حضور محفوظ بقهقهاته العالية يربك القارئ ويملي عليه أن يقارن بين نصيْن. ولهذا أخذ محفوظ في رواية "المصري" شكل المفارقة، فهو المرجع الخارجي الذي قامت الرواية عليه، وهو المرجع الداخلي الذي يذيع مواقع الضعف في الرواية أيضاً. لن يختلف الأمر كثيراً لحظة الاقتراب من "المدينة"، التي أرادها الروائي "بطلاً" لروايته وأراد أن يجعل من بطله متحدثاً باسمها، مقيماً بين الإنسان والمدينة علاقة تبادلية غير متكافئة. وهذه العلاقة هي التي اقترحت تقسيم فصول الرواية: "العصر، الإعداد النفسي، حومة البلد، الطرانكات، السويقة، العيون، الغروب". تبدأ الرواية بالأسى الإنساني، تخترق المدينة في أحيائها المختلفة وتعود الى المبدع الخائب، توزّع عليه العصر والغروب، تاركة المدينة تنتظر مبدعاً لا يحاكي أحداً. فعلى خلاف محفوظ الذي أنطق المكان بجمع من الشخصيات المختلفة الخبرة والأعمار، حمل بطل أنقار أسئلته الفقيرة ودار في أماكن متعددة، كاشفاً عن فقره لا عن كيفية المكان الذي يجول فيه. تظهر المحاكاة الساخرة مرة أخرى، في شكل لا ينقصه الالتباس هذه المرة، لأن مقابلة "قصر الشوق وبين القصرين والسكرية" ب"حومة البلد والطرانكات والسويقة" لا تفضي الى شيء كثير. وعلى هذا، فإن حضور تطوان في أحيائها الشهيرة لن ينتهي الى بطولة المكان، التي أنجزها محفوظ في الثلاثية. كأن "المحاكي الفقير" لم يَر تطوان إلا بعيون فقيرة، تاركاً المدينة تنتظر مبدعاً حقيقياً، كما تقول الرواية، وتاركاً الروائي محمد أنقار يواجه إشكالاً معقداً: كيف ترسم الرواية في شكل ابداعي تصورات شخص تقليدي بعيد من الإبدع؟ يأتي الجواب ملتبساً يشير الى الروائي المجتهد والى شخصيته الروائية المخفقة، كما لو كان وصف المدينة أثراً لنجاح الأول ولخيبة الثاني، جلية دافئة حيناً وباهتة حيناً آخر. ربما يكون سؤال المدينة - الشخصية من أسئلة الرواية العربية الصعبة، التي دار حولها روائيون كثيرون، بموهبة تارة وبموهبة محدودة تارة أخرى. والسؤال الذي يُطرح هنا: هل كل العواصم مدن وهل كل المدن تلبي الخيال الروائي وهل كل الأخيلة مدينية كما يجب أن تكون؟ في روايته الأولى: "المصري" يقدم محمد أنقار عملاً جديراً بالقراءة، مملوءاً بالأسئلة ويشي بطموح كبير، صاغته لغة مثقفة تبلغ، أحياناً، نثراً حقيقياً لا نعثر عليه في روايات كثيرة. من يبحث عن الجمال لا يحتاج الى دليل، هكذا يقال. كسر محمد أنقار القاعدة ولم يكسرها، حين أخذ معه دليلاً يرى جمالاً لا يراه غيره، يُدعى نجيب محفوظ.