لم يشأ محمد مشبال أن يتركنا عُزَّلاً أمام تجارب كتّاب مغاربة في مصر، توزعت على عوالم السياسة والأدب والهوى والحنين والغربة، بل أتحفنا في كتابه «الهوى المصري في خيال المغاربة» (دار الهلال) بمقدمة طالت لكنها أوفت وأمتعت عن تجربته في القاهرة حين حلَّ عليها لاستكمال دراساته العليا في كلية الآداب (جامعة القاهرة)، ليصنع مما عركه وما لاقاه الآخرون من تدابير وصروف كتاباً عميق المعرفة وعذب اللغة يراوح بين السيرة الذاتية والنقد الأدبي والحوار الثقافي. قارن مشبال، وهو يعمل حالياً أستاذاً للتعليم العالي في كلية الآداب- جامعة عبد المالك السعدي في تطوان، بين صورتين وزمنين، صورة القاهرة التي ارتسمت في مخيلته من حصيلة قراءته ومتابعته لما أنتجه كتّابها وفنانوها، ومما سمعه من الذين عاشوا فيها ومرّوا بها منذ القرن الثالث عشر الميلادي، والصورة التي رآها عليها حين جاء إليها طالب علم في ثمانينات القرن العشرين. في الأولى كانت القاهرة بالنسبة إليه حلماً مشرقياً وصندوق عجائب يبدع كل ما يجذب المخيلة، وفي الثانية كانت مركزاً ثقافياً يتراجع لعوامل عدة مركبة ويترك فرصة للأطراف كي تتقدم، وهنا يقول: «كانت مصر في هذه الفترة تدفع ثمن الأخطاء السياسية الفادحة الموروثة من العهد السابق، فبينما كان العالم يزداد تقدماً في كل المجالات، كانت مصر رائدة العالم العربي ونموذجه الثقافي. وتبتعد عن الصورة المثالية التي رسمها لها في ذهنه الإنسان العربي، الذي أحب طه حسين والعقاد وأم كلثوم ونجيب محفوظ وصلاح أبو سيف وفاتن حمامة وشادية وأحمد زكي، وأحب الشيخ الغزالي والشيخ متولي الشعراوي ومرتلي القرآن الأفذاذ، واستطاع أن يعرف من الإبداع المصري خان الخليلي ومقهى الفيشاوي ومصر الجديدة وشارع الهرم والجيزة والمعادي والمهندسين والزمالك، وغيرها من الأمكنة المصرية التي لا تنفصل في وعيه عن الروايات الساحرة والأفلام البديعة التي تسللت إلى وجدانه وصنعت حلمه المشرقي». لكنّ مشبال في الحالين يقرّ بأنّه «لا يوجد بلد أو شعب أو ثقافة استطاعت أن تتغلغل في وجدان المغربي وتصوغ وعيه مثلما استطاعت مصر». ومن ثم يعدد البصمات التي تركها المصريون على المغاربة قائلاً: «لم يقتصر التأثير على تحريك المشاعر وصناعة البهجة والارتقاء بالذوق، بل بلغ التأثير إلى أقصى مدى له عندما أصبحت الثقافة المصرية عاملاً فاعلاً في تشكيل الرغبة الأدبية والفنية والفكرية عند الإنسان المغربي». ولا يلبث مشبال أن يشرح كيف تقدّم المغاربة في مجال النقد الأدبي والفلسفة نتيجة اطلاعهم على المنتج الفرنسي، بينما كانت مدرسة النقد المصرية لا تزال وفية لتقاليدها القديمة بما حجبها عن التطور، وإن كانت هناك حالات فردية لأساتذة ونقاد مصريين بنوا ذائقتهم النقدية والفكرية بعيداً من المقررات الدراسية الجامعية التي كانت مطمورة تحت أثقال القديم، لا تبرح مكانها، أو تسير ببطء كسلحفاة عجوز. يهدي مشبال كتابه الذي صدر حديثاً عن «دار الهلال» القاهرية، إلى أستاذيه اللذين احتضنا هواه المصري: سيد البحراوي وأمينة رشيد. ونقرأ أيضاً في ثنايا مقدمته تجربته مع الناقد عبد المنعم تلمية وانطباعه عن شكري عياد وجابر عصفور وغيرهم، وحالة الطلاب المغاربة الذين قصدوا القاهرة بدلاً من باريس لمواصلة دراساتهم العليا، والتي توزعت على طموح علمي وخوف سياسي، وكيف ساهمت دراستهم في جامعة القاهرة في استقامة لغتهم العربية نطقاً وكتابة وسلاسة بدلاً من الكتابة الغامضة أو المستعصية على أفهام عموم الناس وحتى بعض المختصين حصيلة حشو بعض الدراسات المغربية بمصطلحات فرنسية مترجمة أو غريبة على القارئ العربي، لا سيما في البدايات، وإن كان قد أفقدهم الاستفادة من علوم الأسلوبية والدلالة ومدارس النقد الجديدة، التي كان على مشبال نفسه أن يجتهد لتحصيلها بعد عودته إلى المغرب. يعرج الكاتب صاحب المؤلفات المهمة مثل «البلاغة والأصول»، و «الصورة في الرواية»، و «البلاغة والسرد»، و «صورة الآخر في الخيال الروائي»، و «أسرار النقد الأدبي» وغيرها، على أربعة أعمال لأربعة كتّاب مغاربة ينتمون إلى أربعة أجيال، الأول هو كتاب «القاهرة تبوح بأسرارها» لعبد الكريم غلاب الذي جاء إلى القاهرة 1937 للدراسة لكنه انغمس في الأنشطة السياسية والأجواء الثقافية الزاخرة بالمدينة على مدى إحدى عشرة سنة قضاها في مصر. والثاني هو كتاب «مثل صيف لن يتكرر» لمحمد برادة، وهو يمزج فيه بين السيرة الذاتية والتخييل الروائي، وتحكي سطوره تجربة مثيرة في العشق والغرام عبر بطله حمّاد الذي حلَّ على القاهرة وهو يحمل ماضيه من حب المغامرة والتمرد. أما الثالث فهو رواية «المصري» لمحمد أنقار، التي حوَّلت مصر إلى «فضاء مجازي وسمة فنية تجسدت في شخصيات وأفكار وأمكنة ونصوص، غدت مصدراً يستنفر الخيال، ويخصب الوجدان، ويحرك السرد، ويولد الرغبة والعجز في الآن نفسه». والرابع كتاب «القاهرة الأخرى» لرشيد يحياوي، صاغ فيه تجربته في القاهرة على شكل يوميات بلغة إنشائية بليغة مفعمة بالحماس. ثم يردف الكتاب هذه التجارب الأربع بحوار ثقافي عميق بين المؤلف وأنقار حول «الهوى المصري» بشتى تجلياته، وما كان فيه وما جرى له. وينتهي مشبال من استعراضه لهذه التجارب وتحليل نصوصها إلى أنّ عبد الكريم غلاب «كشف عن أهمية المطبوعات المصرية في تشكيل وعيه الثقافي»، ومحمد برادة «كشف عن تأثير الثقافة المصرية في وجدانه ومغامراته ووعيه الروائي»، ومحمد أنقار بيَّن بطريقة غير مباشرة «حضور الرواية المصرية في الوعي الروائي المغربي»، ورشيد يحياوي «جعل القارئ لا يواجه شخصية مفتونة بالفضاء المصري بمقدار ما يواجه شخصية تتأمل ذاتها وتسرد مشكلاتها بحيث يتراجع ذلك الفضاء الذي احتواها إلى موقع خلفي وتخفت درجة حضوره في المساحة الخطابية للنص». إنّ كتاب مشبال، هو دراسة مهمة في النقد الأدبي، وقبس من السيرة الذاتية، وحالة للحوار والتبادل الثقافي، وهو بحث في تاريخ الأدب العربي الحديث والمعاصر، وقبل كل هذا هو «كتاب في المحبة»، بما يقول من دون مواربة إننا أمام كاتب ممتع ومفيد إلى حد بعيد.