} الاخلاص للأدب ليس شأناً مألوفاً في بلادنا. القاص يوسف الشاروني يكتب هنا عن "الرهبنة الفنية" التي عاشها نجيب محفوظ وعن قوالب فنية وشخصيات روائية ولدت من هذه العزلة: أحييه تحيتي التي وجهتها له في عيد ميلاده الخمسين أي في كانون الأول ديسمبر 1961 قبل أن يفوز بأية جوائز، لأن الجوائز لم تُضف إليه بمقدر ما أضاف هو إليها. كتبت وقتها كلمات أعتقد أنها لا تزال تحتفظ بدفئها حتى اليوم. قلت: تحية لنجيب محفوظ فناناً متطوراً مجدداً، عرف طريقه ومضى فيه لا يشتت بصره وهج الشهرة ولا بريق المادة، فهذه الرهبنة الفنية التي عاشها هي التي أمدته بأسباب النجاح في العمل الذي انقطع له، وهي رهبنة لا تعزله عن الحياة بحيث تحرمه من معاناتها لكنها أيضاً تنقذه من أن ينغمر فيها بحيث تشغله عن التأمل والتعبير عنها. فنجيب محفوظ هو الذي أرسى دعائم الرواية المصرية - بل والعربية - وعبّد طريقها نهائياً لمن يتلوه من أجيال، وأفسحت مسيرته الروائية الخصبة مجالاً موازياً لمدارس النقد العربي في تاريخنا الأدبي كماً وكيفاً، كما أنجب نجيب محفوظ على مدى ثلثي قرن قبيلة أدبية من الابناء والأحفاد بل وأبناء الأحفاد، بعضهم كان تطوراً لمسيرته وتنويعاً لها، وبعضهم تمرد عليه، لكنهم جميعاً طاولتهم مظلته الأبوية، كما أنه شق طريقاً للرواية العربية لغير قراء العربية. فمنذ عام 1936 سار نجيب محفوظ في الموكب الأدبي حتى صار أحد الذين يتولون قيادته، وكانت ميزته الأولى أنه كاتب متطور في تفكيره وأسلوبه، يحاول دائماً أن يجدد نفسه وأن يكتشف كل يوم عالمه المتغير. كتب رواياته الثلاث الأولى وهي "عبث الأقدار" 1939 ثم "رادوبيس" 1943 ثم "كفاح طيبة" 1944، كلها روايات تاريخية استلهم فيها التاريخ الفرعوني بالذات، وكان في ذلك متأثراً بالتيار القومي الفرعوني الذي اتجه إليه كثير من المصريين في ذلك الوقت كرد فعل للنفوذ البريطاني. وكانت الرواية الأخيرة تتناول قصة كفاح الشعب المصري ضد احتلال الهكسوس، وكأنما نجيب محفوظ يذكّر بذلك الشعب المصري بما فعله أجدادهم من قبل مع احتلال مماثل، وهكذا نجد أن نجيب محفوظ - حتى في مرحلة انتاجه المبكر حيث كان لا يزال خاضعاً لعوامل رومانسية - نجده لا يكتب لمجرد الفن، فمجرد استلهام رواياته للتاريخ الفرعوني كان دلالة على أن نجيب محفوظ يتخذ موقفاً مما يحدث في وطنه. وكانت قصة "كفاح طيبة" إيذاناً بانتهاء المرحلة الأولى من حياة نجيب محفوظ الأدبية وبداية مرحلة أخرى، فنشر في العام التالي 1945 روايته "القاهرة الجديدة"، وواضح أن عنوان "القاهرة الجديدة" إنما وضع في مقابل "مصر القديمة" التي كان نجيب محفوظ يولي وجهه نحوها من قبل، وإن كانت تعني من ناحية أخرى أنه يتناول فيها حياة طلبة الجامعة وسكان الأحياء الجديدة في القاهرة حديثها ثم قديمها، انتهت رحلته في الزمان الماضي لتبدأ في المكان الحاضر. وكانت هذه المرحلة تتميز عن سابقتها بالروح النقدية واتقان الصنعة الروائية شيئاً فشيئاً حتى تتضح في "بداية ونهاية" ثم تبلغ ذروتها في ثلاثية "بين القصرين" آخر أعمال هذه المرحلة، وهي الرواية التي زاوج فيها بين الرواية التاريخية والاجتماعية، إذ تناول فيها ثلاثة أجيال من حياة إحدى الأسر المصرية تبدأ قبيل الحرب العالمية الثانية، وكأنما نحن إزاء رجعة إلى المرحلة الأولى مع عدم التخلي عن الاتجاه الذي ساد في المرحلة الثانية. ويتميز الفن الروائي عند نجيب محفوظ في هذه المرحلة بالنقاط الآتية: أولاً: من ناحية القالب القصصي نجد أنه يسير على نهج القالب القصصي للأدب الأوروبي في القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، وهو القالب الذي اعتنق بعض مؤلفيه المدرسة الواقعية واعتنق البعض الآخر المدرسة الطبيعية، فنحن نجد أنفسنا أمام حشد من الشخصيات، قد يبرز أحدها باعتباره بطلاً للقصة، لكنه لا ينفرد بهذه البطولة بل توجد إلى جانبه مجموعة من الشخصيات تؤثر حياتهم في البطل ويتأثرون به، ويفرد لهم المؤلف فصولاً بأكملها، وهذا الضرب من القصص نجده مثلاً عند ديكنز وتولستوي وزولا، حيث يعرض المؤلف لحادث، ثم يتركه في الفصل الذي يليه ليعرض لحادث آخر، فإذا كان الفصل الثالث أو الرابع عاد إلى موضوع حديث في الفصل الأول، وكأن أمامه مجموعة من الخيوط يحيكها في نسيج متماسك. ثانياً: كان الأثر الذي يتركه نجيب محفوظ في نفوس قرائه بعد قراءة رواياته يشوبه التشاؤم بسبب هزيمة أبطاله وضعف شخصياته، وقد يحدث لهم - بعد فوات الوقت - تغير فجائي، تكون نتيجته أنهم يدفعون ثمنه فادحاً قد يكون حياتهم نفسها. نجد هذا قد حدث لكامل بطل "السراب"، ولعباس الحلو أحد أبطال "زقاق المدق"، ولحسنين أحد أفراد أسرة "بداية ونهاية". ثالثاً: كان الاهتمام بالتفاصيل هو العنصر الغالب على أسلوب تلك الروايات، وقد بلغ الاهتمام بهذه التفاصيل ذروته في ثلاثية "بين القصرين"، فنجد الاهتمام بذكر تفاصيل الأمكنة وهيئة الأشخاص ودوافعهم النفسية والحياة الاجتماعية والسياسية والفنية حتى بلغ الوصف التسجيلي في بعض الصفحات درجة الإملال. وهذه هي طريقة المدرسة الواقعية التي تلجأ إليها حتى يتم لها من يُعرف في الأعمال الأدبية بعملية "الإيهام بالواقع". يقول نجيب محفوظ "وأكثر التفاصيل في القصص صناعة ومكر لإيهام القارىء بأن ما يقرأه حقيقة لا خيال إذ أنه يثبت الموقف أو الشخص كحقيقة مثل التفاصيل المتصلة به، وكلما دقت كان القارئ أسرع إلى تصديقها". مجلة الآداب، بيروت، حزيران يونيو 1960، ص20. رابعاً: إن الطبقة الوسطى كانت هي البيئة الاجتماعية التي تناولها نجيب محفوظ في رواياته سواء التي تعيش في أحياء القاهرة الجديدة أو في أحيائها القديمة، كما كانت القاهرة هي البيئة المكانية التي يتحرك فيها أبطاله، وقد عبر نجيب محفوظ عما يضطرم في هذه الطبقة من أقصى يمينها إلى أقصى يسارها وعن الحرص والحذر الذي يتسم به موقف بعض أفرادها والحياد الدقيق الذي يتسم به موقف البعض الآخر. ويبدو أن نجيب محفوظ بعد أن فرغ من كتابة ثلاثيته اتضح له أنه لو كتب بهذا الاسلوب فإنه سيكرر نفسه لا محالة، فالاسلوب الأدبي كالمنجم، على الفنان المبدع أن يبحث عن غيره حين يحس أنه استنفد ما فيه، وإلا فلن يستخرج إلا التراب، بهذا أنقذ نجيب محفوظ نفسه من خطر التكرار مستفيداً من تجربته الفنية السابقة وما بلغه من عمر يتيح له أن يصل إلى مرحلته الأدبية الجديدة التي كان قد أشرف عليها. ولئن كان انتقال نجيب محفوظ من مرحلة الرواية التاريخية الفرعونية إلى مرحلة الرواية الاجتماعية المعاصرة قد تم من دون معاناة لحظة من لحظات التأزم، فإن انتقاله إلى مرحلته الأدبية الثالثة - مرحلة الواقعية الجديدة على حد تعبيره - جاء نتيجة أزمة مر بها أشبه بتلك التي سبق أن مر بها عندما ترجح بين الدراسات الفلسفية والكتابات الأدبية. وقد تضافرت هذه المرة عوامل خاصة بتطوره الفني - كما ذكرنا - مع عوامل اجتماعية وسياسية كان مجتمعنا المصري يمر بها، ولهذا لم تكن الأزمة أزمة نجيب محفوظ وحده، بل أزمة كل فنان وأديب كان فنه وأدبه يتجه نحو نقد المجتمع المنحل من حوله حتى 23 تموز يوليو عام 1952. وهكذا تكونت أزمة نجيب محفوظ بحثاً عن اسلوب جديد ومضمون جديد وأعلن قائلاً: إن الظروف التي دفعتني إلى الكتابة قد تغيرت من أساسها ونتيجة لذلك شعرت بفراغ، لعله موقت، ولعله نوع من الاستجمام والاستيعاب لاسلوب جديد في الكتابة، ولعله النهاية. المساء، القاهرة، 5 شباط فبراير 1958. لكنها لم تكن النهاية، فقد بدأ يتلمس الطريقة الجديدة قائلاً: أنا الآن في حالة تدبر واستيعاب، ولا أعرف متى أعود إلى الكتابة، ولكن عندما استأنف الكتابة لن أعود إلى الواقعية مرة أخرى، ولقد مللت هذا النوع من الكتابة، وتكفيني أطنان الواقعية التي شحنتها في رواياتي، إنني اشعر بتطور في أعماقي، وسوف ينتهي هذا التطور حتما بطريقة جديدة في الكتابة استعملها عندما أمسك قلمي الكوبيا وأوراق العرائض مرة أخرى. الحديث السابق في مجلة الإذاعة. وهكذا بدأت المرحلة الأدبية الثالثة التي مر بها نجيب محفوظ، تلك المرحلة التي بدأها بقصة "أولاد حارتنا". هذه المرحلة يمكن تسميتها بالواقعية الجديدة عند نجيب محفوظ، وهي واقعية لا تحتاج إطلاقاً لمميزات الواقعية التقليدية التي يقصد بها أن تكون صورة كاملة من الحياة، بل هي تتجاوز التفاصيل والتشخيص الكامل، وهي تطور في الاسلوب والمضمون معاً. ومع ذلك فإن بذور الاسلوب الجديد كانت قد وجدت طريقها في الأعمال الأخيرة لنجيب محفوظ في مرحلته الأدبية السابقة، على نحو ما نجد في نهاية رواية "بداية ونهاية"، عندما كان حسنين يخاطب نفسه قبل أن يقدم على الانتحار، كما ورد هذا الاسلوب في مواضع متفرقة من الثلاثية، لكنه، كما يقول نجيب محفوظ: في الثلاثية كنا نقدم جيلاً وزماناً ومكاناً بلا قصة دراماتيكية، فالتفاصيل في هذه الحالة هدف جوهري. ولا شك أن نجيب محفوظ قد ناقش نفسه وموقفه كثيراً وعبر لنا عن هذا النقاش في "السكرية"، لكننا على يقين أنه عرف كيف يستغل هذا القلق الخصب، فصنع لنا اصدقاء لا ننساهم مثل حميدة بطل "زقاق المدق" وعباس الحلو حبيبها وحسين كرشه صديقه، ومثل أحمد عبدالجواد ذلك الأب المزدوج الشخصية في ثلاثية "بين القصرين" وابنائه فهمي وياسين وكمال، ومثل اللص سعيد مهران ونبوية عليش ونورا، حشدا من الاصدقاء الذين نعرفهم ونحبهم لأننا تألمنا مثلما تألموا وأخطأنا مثلما أخطأوا ولأننا نشعر أن انسانيتهم قريبة من إنسانيتنا، ولعل في هذا جائزته الكبرى وجائزتنا وأعظم متعة له ولنا.