على جاري نهج اختبرته القيادة الخمينية في العقد الأول من ثورتها وتربعها في سدة الدولة الإيرانية، يحرك "حزب الله" وبعض علماء الدين الشيعة، تظاهرات تندد بعزم الرئيس الفرنسي جاك شيراك دعوة المجلس الوطني الى سن تشريع يحظر على التلامذة والطلاب في المدارس الرسمية، وفي حرم المبنى العام، ارتداء أو لبس ما يعلن على الملأ معتقداً دينياً يميزهم. فلم يكد الرئيس الفرنسي يقرأ، في 14 كانون الأول ديسمبر الجاري، خطبة استعادت اجزاء من تقرير مستفيض ومعلل صاغته لجنة خبراء وباحثين ومجربين في ختام ستة اشهر من التقصي والاستماع والمناقشة والمقارنة، ونشرته قبل اسبوع من الخطبة، حتى تبارى الشيخ نعيم قاسم، نائب امين عام "حزب الله"، والشيخ يوسف القرضاوي، مفتي "الجزيرة" المصري - القطري ثم السيد محمد حسين فضل الله مرجع بعض الشيعة، وتبع هؤلاء مفتون كثر وأحجم آخرون في ميدان التنديد بالإجراء الرئاسي الفرنسي. والإجراء الرئاسي يبتدئ سيرورة تشريعية ونيابية يرجح ان تدوم اشهراً قبل ان تفضي، إذا افضت، الى حسم قانوني. وتنسج السرعة الى التنديد على منوال ومثال ثلاث سوابق مشهورة جرّت المصائب على الإيرانيين، وعلى عرب ومسلمين كثيرين. والأولى هي إسراع روح الله خميني الى فتوى في رواية سلمان رشدي، الهندي البريطاني، المعروفة قضت بقتل الروائي، ورمته بالردة والتجديف على نبي الإسلام، ورصدت للقاتل "المتطوع" جائزة تعهدتها هيئة او مؤسسة من مؤسسات "الدولة" الإيرانية. وأراد المفتي، يومها، الانتصاب ولياً فقيهاً، طبعاً عاماً على امور المسلمين وشؤونهم، وعلاقاتهم بدول العالم، بينما يخوض حربه على العراق، في العراق. ورأى ان الولاية لا تتم له إلا اذا تقدم غيره، وهو يقصد اهل السنّة وعلماءهم وحكوماتهم، وسبقهم الى المحاماة عن الدين والمعتقد. فكان سلمان رشدي، وروايته التي تتناول خميني شخصياً ومن غير تورية خلافاً لتناولها نبي الإسلام، ذريعة السبق والتقدم. وكان ذريعة التنديد ب"تقاعس" جامعة الأزهر، وعلماء المملكة العربية السعودية عن الإدانة، على زعم الدعاوة الإيرانية. وحين سعى الأزهر في الخروج من فتوى القتل، وهي ارتدت على المسلمين ووصمتهم، في نظر معظم العالم، بالإرهاب، امعنت السياسة الخمينية في الإحراج، وساقت تهم النفاق وموالاة الشرك ضد من لم يماش "الولي" على فتواه. وسيرت التعبئة الخمينية التظاهرات حيث قدرت. وكان للبنان نصيب كبير منها. وتصدرها وجهاء "حزب الله" وأعيانه، وحرصوا على إشراك علماء اهل السنة في تظاهراتهم. ولم يوفر مؤيدو الفتوى حجة ولا دليلاً "شرعياً". فناطوا بقتل الروائي مصير الإسلام والمسلمين. وجعلوا كفة القتل هذه نظيرة كفة الحرب المدمرة التي كانت رحاها تدور على مئات الآلاف من الإيرانيين والعراقيين وتزهقهم، والنصر في الأولى كفء النصر في الثانية سواء بسواء. والسابقة الثانية هي سعي المرشد نفسه في قلب حج الأرض الحرام الى تظاهرة تعادي اعداءه، "اعداء الإسلام" على زعمه وزعم خلفائه، وتناصره عليهم و على حلفائهم. وأدى الأمر الى تظاهرة دامية قضى فيها نحو ستمئة حاج، معظمهم من الإيرانيين. وكان القصد من تحويل البراءة من المشركين الى مهرجان ينصر القيادة الإيرانية على قيادات اهل السنة في مصر والخليج والعراق، بحسب التصنيف "الثوري" الخميني، وتنصيب القيادة الإيرانية قيادة على المسلمين كلهم. فتوحيد المسلمين، من طريق إحياء إسلام سياسي ثوري، إنما هو ذريعة الى تتويج القيادة الإيرانية، وكسر عزلتها المذهبية، وعزل الحكومات والأنظمة المناوئة لها. ولم تتورع الدعاوة الإيرانية، في هذا السبيل كذلك، عن حمل تجديدها على صلب الدين وحقيقته وأصله. وعلى نحو ما أفتي في قتل الروائي فرضَ عين واجباً على كل مسلم قادر، أفتي في التظاهر بمكة بالحكم القاطع والعام نفسه. واليوم يفتى في "الحجاب الفرنسي". ولعل السابقة الثالثة اوضحها دلالة. فدعا المرشد الولي نفسه، باسم ولايته العامة "المطلقة" على قوله وقول مريديه، المسلمين الى الاحتفال بيوم الجمعة الأخير من رمضان، في كل عام، يوماً للقدس. و"يوم القدس"، بمسيراته ومهرجاناته وخطبه ولافتاته وشعاراته وتبرعاته، وسيلة اوكل إليها طالبُ الولاية البرهان المرئي والمسموع على التزامه، والتزام نظامه وأجهزته قضية المسلمين الفلسطينية، فوق التزام "غيره" من المسلمين قضيتهم. فشفع هذا بشطر كبير من السياسة الإيرانية الشرق اوسطية والعربية، وقام منها مقام قطبها: حلفاً استراتيجياً مع سورية، واصطناعاً ل"حزب الله" والمنظمات "الأمنية" الأخرى، ورعاية للاستماتة الفلسطينية، واستعداء على الغرب و"أصدقائه" المحليين. فالمقارنة، او المباراة، هي المحك. وهي القصد من وراء الإخراج السينمائي والمسرحي والخطابي الذي برعت الحركات الخمينية في صناعته، وصرفت إليه جهداً وموارد عظيمة. وتتوسل القيادة الإيرانية بإخراجها هذا الى محو فارق ما بينها مذهباً واعتقاداً وبين كثرة المسلمين. وليس ذلك تعلقاً بالوحدة. فهي متمسكة اشد التمسك بخلافها الذي يجري منها، ومن عادات ومعتقدات اصحابها وأهلها، مجرى الهوية والطبع والفطرة. ولكن الدعوة الى الوحدة والتلاحم - شريطة ان يحصلا تحت لواء السياسة الإيرانية وفي قيادتها - تتدارك العزلة التي تترتب على القلة والفرقة والقومية، وتسوغ النفخ في الخلاف الداخلي السياسي والاجتماعي، داخل البلدان والمجتمعات والدول الإسلامية المتحفظة، وتسوغ تالياً التدخل في شؤونها التي تبطل صفتها الداخلية، وهذه الدعوة تتهدد عدو السياسة الإيرانية الخمينية، او اعداءها المتجددين، بكتلة إسلامية واحدة ومتراصة، تصورها الدعاوة في صورة السور المتين الذي يحمي النظام الإيراني الخميني، ويرد عنه العدوان و"المؤامرات". وتبعث تظاهرات التنديد اللبنانية بالقرار الفرنسي الأوّلي فالرئيس الفرنسي يرغب في ان تتولى السلطة التشريعية المستقلة البت في مسألة تولى بتها الى اليوم، وإلى حين سن القانون او القوانين، مجلس شورى الدولة الذي اجتهد رأيه في ضوء الفقه المدني والإداني الفرنسي ملامح السياسة الإيرانية والخمينية نفسها فخاتمي الإيراني والشيعي هو اول رئيس دولة اسلامية يدعو نظيره الفرنسي الى الرجوع في رأيه في 23/12 فتنافست ألسنة الجماعتين على السبق الى التنديد والإنكار. وكان احد الخطباء الحزب اللهيين اللبنانيين البارزين السبّاق الى رفع الصوت، وفتح الباب في 17/12. وتبعه المفتي المصري - القطري الذائع الكلمة والرأي. فحشدت منظمة طالبية محلية يجمع ولاؤها قطبين شيعيين يختلفان على "المرجعية" فتيات محجبات، معظمهن لم يبلغن الثالثة عشرة، تجاه السفارة الفرنسية ببيروت، ووضعت بأيديهن لافتات بالإنكليزية، واستكتبتهن رسالة "مفتوحة" الى الرئيس الفرنسي في 20 من الشهر. وفي اليوم نفسه كتب فضل الله رسالة الى جاك شيراك، أذاعها بينما كانت الفتيات يتظاهرن، كانت رسالة التلميذات صورة "ساذجة" عنها. فرسالة "المرجع"، على ما يسميه متابعوه، تريد الإيحاء بإلمام صاحبها ببيان الرئيس الفرنسي، في الموتمر السياسي والصحافي الحاشد الذي التأم للمناسبة، وتلتمس "تناقضاته"، وتعارضه بمواقف "مسيحية"، اميركية وبريطانية، اخرى. وهذا ما لم تطمع فيه رسالة التلميذات المتوسطات مرحلة تعلم. وتجدد حشد الفتيات في اليوم التالي 21 من الشهر، والموضع نفسه. وكانت اللافتات بالعربية. وأسفرت المنظمة الطالبية عن اسمها، هذا اليوم. وربما كانت الذريعة انضمام منظمة "خيرية" الى التظاهر، يومئ اسمها الى اهل السنّة. وتقدمت التظاهرة فتيات في سن زميلاتهن، ولكنهن حاسرات الشعر، تعلن لافتاتهن حق "المسلمات" في التحجب، وتسترجع الحجة التي احتجت بها للحجاب رسالتا التلميذات و"آية الله العظمى"، وهذا لقبه عند مشايعيه محمد حسين فضل الله. وهي ان حجاب المرأة المسلمة "أمر سماوي" جاء به قرآن، على حين ان ما يقرنه اقتراح المنع به، قلنسوة المتدينين اليهود او الصليب "الكبير" والظاهر، ليس إلا من قشور التدين وعرضه. وفي 23 خرجت تظاهرتان، واحدة طرابلسية، وأخرى بصيدا نظمها "تجمع الزهراء". وآذن ذلك بكرّ السبحة. وكان إمام الجامع الأزهر قال، في ذلك اليوم، ان القانون الفرنسي شأن فرنسي، وليس للأزهر ان يدلي فيه برأي. وهو رأي يتوقعه المراقبون - وفيهم انصار السياسة الإيرانية والجماعات الإسلامية المتفرقة - من "الشيخ الأكبر". فصادف ان رأى مرشد جماعة "الإخوان المسلمين" المصريين العام، مأمون الهضيبي، رأياً خالف ما ذهب إليه الشيخ الأزهري، في اليوم نفسه. فردد المرشد ما جرى قبل يومين على ألسنة التلميذات وأقلامهن: "الحجاب الإسلامي فريضة دينية، والمظاهر الأخرى ليست من الفرائض او العبادات". ونقَضَ الحظر وهو ليس خطراً بعد، على ما لم يع فقهاء "المفردات" ولا الصحافيون الذين عنونوا ترجمة بيان جاك شيراك الى العربية "النص... بمنع"، "النهار" اللبنانية، في 24/12، شأن رسالة العالم الإمامي، بحق آخر هو الحق في الحرية وفي سائر حقوق الإنسان. وصادف، في اليوم إياه، بيانان لبنانيان صدرا، زوجين، عن اعلى موظفين رسميين شرعيين، احدهما مفتي الجمهورية اللبنانية محمد رشيد قباني، والآخر نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، عبد الأمير قبلان. فرأى الأول ان "المنع" اي ما يحسبه المفتي منعاً، وهو يحسب ان "الرئيس" لا يتكلم إلا امراً او نهياً "كراهية للإسلام" و"جزء من العداء له". و"تمنى" الآخر "ألا يصدر الرئيس الفرنسي قراره". ولكن قبلان استدرك، خلافاً لمن سبقه، فدعا جاليات المسلمين بفرنسا الى إنشاء "مؤسسات تربوية تستوعب الفتيات المحجبات وتحفظ لهن حرية ارتداء الحجاب". وزاد "... وممارسة شعائرهن الدينية". فعلى خلاف زميله انتبه نائب رئيس المجلس الشيعي إلى ان "القرار"، وهو يقصد الاقتراح الرئاسي، يقع على المدارس العلمانية "اللاييك" العامة، او الرسمية الحكومية، ولا يتطاول الى المدارس الخاصة، ومنها دينية، يهودية او مسيحية كاثوليكية أو بروتستانتية او ارثوذكسية او إسلامية او بوذية. فهذه، لما كان تمويلها، معظمه خاصاً، وكانت إدراتها خاصة، وسع إدارتها، تحت شرائط معلومة، استقبال الراغبين في عرض شاراتهم الفارقة وشعائرهم على الملأ، او تحصيل "علم" بأركان ايمانهم واعتقادهم يحظر القانون الفرنسي تحصيله في المرافق العامة المشتركة ولكنه لا يحظر المشورة الدينية التي يضطلع بها "أئمة" او مرشدون دينيون في المدارس العامة والوحدات العسكرية والسجون والمستشفيات الحكومية. وقد تدل سياقة التظاهر والبيانات، في الأسبوعين اللذين اعقبا بيان الرئيس الفرنسي، على نجاح السياسة الإيرانية في الاستدراج الى الاستنكار. وبعض من استنكروا، مثل المفتي اللبناني ومتظاهري طرابلس من اهل السنّة كذلك، تخطى استنكارهم "التمني"، او التذكير ولفت الانتباه، الى التنديد الحاد الحادث وإدراج الرأي في باب "التمييز" و"الإرهاب العلماني" ومناوأة الإسلام ومجاراة "الحملة العالمية" عليه. ويستوقف تصدي المنددين، عامة وعلماء، لإلقاء الدروس في الديموقراطية وحقوق الإنسان. وهي أمور يسكتون عنها في مجتمعاتهم سكوتاً مريباً. وإذا استمر المنددون المنتظرون على هذا النحو آذن ذلك بنجاح خميني كبير: فظهر اهل الخمينية، وهم رأس التحريض، في ظاهر معتدل ومتعقل، او عقلاني على قول الرئيس السوري "الشاب"، وظهر غيرهم في ظاهر متطرف ومتشدد. ويجدد الأمر رسم السوابق الماضية قضية سلمان رشدي، وتحويل الحج منبراً سياسياً، والتوسل بالقدس الى الوصاية على السياسات الفلسطينية والدولية: فالحجاب المدرسي و"الاستشفائي" و"التسويقي" الفرنسي يعني امره قلة من الفتيات والنساء المولودات من مهاجرين مغاربيين الى فرنسا، وهم اهل سنّة، فيتصدى شيعة إماميون للأخذ ب"حقهم" الديني، ويتصدرون صفوف "حراس" الإسلام، وكأن غيرهم لا يبالي بالدين وفروضه وشعائره. فإذا تداعت الأمور تداعيها المعهود، وجرّت الى رفع لواء العداء "للغرب" والتنديد بمساواته المزعومة "الإسلام" بالإرهاب، انتزعت السياسة الإيرانية قيادة الجبهة الجديدة من المنافسين المفترضين عليها. ويعود هذا ببعض النفع على سياسة تبدو محجمة في العراق، ومحرجة في سورية، ومرواحة في فلسطين، ومقيدة في مضمار التسلح غير التقليدي، ولاهثة في آسيا الوسطى، ويتهددها في الداخل عزوف عن المشاركة الانتخابية يجعل من محمد خاتمي قناعاً رقيقاً للمرشد وسياسته الجامدة. فالجبهات "الإسلامية" كلها تعاني التأزم. ولا تزال السياسة الإيرانية تختبر المضمار الجديد، وتلتمس احتمالاته. وهو قد لا يكون مواتياً. فالسياسة الفرنسية الشيراكية هي طليعة الكتلة الأوروبية الساعية في موازنة السياسة الأميركية العسكرية والأمنية. وقد تقود الحملة الإيرانية "الإسلامية" الى إبراز خطأ التفاؤل الفرنسي وبعض الأوروبي في شأن التغيير الديموقراطي والليبرالي، وقوة بواعثه الداخلية والمستقلة في بعض المجتمعات الإسلامية. فتتصور السياسة الاجتماعية والثقافية والدينية الأميركية في صورة الاعتدال والتعقل. فيخسر الافتعال والتشدد الإيرانيان بعض اواصر التفهم الأوروبي من غير ربح اواصر اميركية او بريطانية. وإلى اليوم لم ترد السياسة الفرنسية ولم تعلن دفوعها لا في الشكل ولا في الأصل. فما تتداوله الصحف والتصريحات العربية، وما يتناوله التعليق والتفنيد والمقارنة، بعيد من ملابسات المسألة. واختصارها على النحو الذي تختصر عليه، في "نموذج" علمنة متحجر او في قمع حرية الاعتقاد والضمير أو في إجراء بيروقراطي "خائف" و"جاهل"، بالفارق بين القلنسوة وغطاء الرأس، لا يلم اضعف الإلمام بها. * كاتب لبناني.