كان وجه زعيم "حزب الله" اللبناني إلى عسكرييه، الجالسين قبالته على كراسٍ من مادة البلاسيتك وهاماتهم منتصبة وثابتة طوال الدقائق الخمس التي دامها المقتطف التلفزيوني من كلامه نحو 15 في المئة من وقت نشرة الأخبار المسائية في 5 شباط/ فبراير على شاشة "الشبكة اللبنانية"، تلفزيون "القوات اللبنانية" إلى آذار/ مارس 1994، حتى خال المشاهد أن العسكريين، المجاهدين على ما يسميهم أمينهم، ليسوا بشراً يسعون، بل هم آلات تحاكي البشر، أو تماثيل شمع نصبوا بإزاء المنصة تمويهاً وتشبيهاً على العدو. وتكلم القائد في وسط صمت سديمي. ووراءه جدار، أو ما يحاكي الجدار العاري، وإلى يمينه، على الجدار، علقت صورة لمرشد الثورة الإيرانية الأول، السيد روح الله خميني. فيرى مشاهد الشاشة صفاً من ثمانية ظهور مكسوة بالقماش المرقط، تعلوها رؤوس من غير رسوم جانبية أو "بروفيل" تعتمر قبعات المظليين "بيريه" في أول عهدها العسكري. ويطل على "الطبيعة" الساكنة والقمرية هذه وجه السيد حسن نصرالله، وعمامته السوداء، ولحيته السوداء، وقسماته الفتية والهانئة والمستعجلة العبارة عما يدور بخلده وهو يتكلم. ويشرف على الخطيب الحربي، بين العمامة والكتف اليمنى، وعلى السامعين الساكنين، وعلينا نحن الشاخصين الى الشاشة، رسم الزعيم الإيراني والشيعي الراحل المعلق على الجدار العاري. وهذا إخراج، على معنى التصوير السينمائي والمسرحي الذي يسعى الخمينيون في إتقانه، لا ريب في تعمده الدلالة على الإلهام والإرشاد وتسديد الخطى، ولا في قصده إلى معنى التقليد والطاعة. فالخطيب إنما يقول ويخطب مُجازاً ومثبتاً ومستدلاً. ومن هذا شأنه لا يرد عليه، على قول إجازات الإجتهاد التي يكتبها كبار مدرسي الحوزات لمن درسوا عليهم وكتبوا "رسالتهم العلمية" في ختام دروس الخارج. ومرجع الخطيب، وهو يخطب جيشه وضباط مجاهديه ومقاتليه، هو قائد ثورة، ثم "دولة" تتمتع بكيان سياسي، وسيادة، في مجتمع الدول والأمم، والثورة و"الدولة" ليستا ثورة اللبنانيين ولا دولتهم. ويوم كان الخطيب يخطب عسكره، في الرابع من شباط على الأرجح، أخلى "جيش لبنان الجنوبي" موقعاً عسكرياً يتوسط إقليمين بجنوب لبنان هما الريحان والنبطية، من سلسلة الجبال الغربية اللبنانية. ولقوات "حزب الله" في الجهة هذه خنادق وقواعد يشن منها هجماته وتقصفها القوات الاسرائيلية في كل يوم. فلم تكد حامية الموقع، قلعة سجد، تتركه حتى أسرعت قوة من جيش "حزب الله" إلى نصب أعلام جيشها وحزبها عليه. وهذه الأعلام هي أعلام الحزب والجيش الخمينيين، على نحو ما ينسبان نفسيهما. وليس بينها علم لبناني يكني عن عودة أراضٍ إقليمية لبنانية إلى سيادة الدولة اللبنانية. فجاء قول المشهد الخطابي والفقهي موافقاً قول الرايات المنصوبة في قلعة سجد. والقولان يؤديان معنى واحداً. وهذا المعنى يُجلي من سنده، أو أسانيده ومراجعه، "لبنان"، دولة ومجتمعاً وهيئات تمثيلية وقضائية وهوية وطنية، تاريخية وسياسية، تقوم بنفسها - على قدر قيام الدول والمجتمعات والهويات الوطنية بنفسها. وكان الخطيب ذهب، في ما ذهب إليه في الدقائق الست، إلى أن قواته لن ترضى بأقل من جلاء "العملاء" - وهو يقصد "جيش لبنان الجنوبي" الذي تولت السياسة الإسرائيلية إنشاءه، من نواة من الجيش اللبناني عزلتها الأعمال العسكرية، الفلسطينية واللبنانية في 1975 و1976، عن قيادتها المركزية، ثم تولت إعداده وتدريبه وترئيسه على ما يعرف بالشريط - مع القوات الإسرائيلية المزمعة الجلاء عن الأراضي اللبنانيةالمحتلة، على حسب وعد السيد إيهود باراك. ورأى الخطيب أن الإجلاء لا يصح في الأحياء، من أنفار "الجنوبي" ورتبائه وضباطه، وحسب، بل يصح كذلك في الأجداث والرِّمم. وقَرَن الزعيم الحزب اللهي والخميني، اللبناني، نفي الرِّمم من الأرض والتربة اللبنانيتين ببذل المجاهدين المقاتلين "دماءهم" لأجل تحرير الأرض، وفي سبيله. ولا يجتمع، على مذهب المتكلم، رجس العملاء وطهر الشهداء، في وقت واحد وموضع واحد. وعليه ينبغي ألا يجتمع المعنيان، معنى العمالة ومعنى الجهاد، في معنى واحد هو الأمة، الجامعة الموتى إلى الأحياء في كل واحد. وتقوم الأمة محل الدولة، شعباً وأرضاً وهيئات. وكان المتكلم يرد، من طرف غير خفي، على تأبين المطران مارون صادر، راعي رعية صور وقراها وبلداتها المارونية، عقل هاشم، العقيد في "جيش لبنان الجنوبي" وصريع جيش "حزب الله"، في 30 كانون الثاني يناير. وأثار التأبين، وهو جرى باسم رئيس المطارنة الموارنة كلهم، بطريركهم ومقدَّم رتبتهم ورأس كنيستهم وراعيها، على ما يقضي العرف الكنسي وتقضي سنن الكنيسة وشرائعها، لغطاً شديداً. وحمل بعض مرشدي "أمة حزب الله"، على ما كان يقال، على "الموقع الديني والرسمي الذي يبعث من يمثله ليتكلم عن هذا العميل بما لم يتكلم عن أي شهيد من شهداء المقاومة". ووصف الفقيه المرشد التعزية بهاشم ب"خطيئة كبرى" وب"جرح وطني ضخم لا يمكن ان تردمه بعض التبريرات". فجاء التوعد بإخراج الرمم من قبورها ومدافنها استتماماً للتنديد ب"الخطيئة" الوطنية الباقية على الدهر، وتحقيقاً لدهريتها. وحرصت المنظمة السياسية والعسكرية الأمنية، في الأثناء، على حمل أفعالها قتل عقل هاشم وأقوالها، على أصول "وطنية" خالصة، أي لبنانية عامة وجامعة، مفترضة، وبرأت أفعالها وأقوالها من نسبتها إلى عصبية مذهب أو طائفة أو دين. وحجتها على زعمها أنها قتلت أنصاراً شيعة لإسرائيل قبل قتلها أنصاراً مسيحيين، ولم تميز، في القتل وفي الإدانة، أهل دين على آخر. وهذا صحيح. وهو صحيح فوق ما يذهب، اليوم، إليه ألسنة "حزب الله" وخطباؤه وأشياع سياسته من نواب بعضهم موارنة من "أبناء" البطريرك وأحزاب وجمعيات و"شخصيات". فيوم قتل الكاتب الشيوعي مهدي عامل حسن حمدان، في ربيع 1987 - ولم يُعرف قتلته ولا قتلة رفيقه حسين مروة - حيل بين أهله وأصحابه وبين دفنه، على ما أراده الأهل والأصحاب، في أرض بلدته الجنوبية، بجوار النبطية، حاروف. وكان "حزب الله"، وأنصاره في "أمل"، القوة الأهلية والعسكرية الغالبة على هذه الجهة من لبنان. وآذن ذلك ربما، مذ ذاك، بفتوى اليوم في لفظ الرِّمم ونفيها من مواراتها الثرى في مسقط رأسها، على ما جرى بنو آدم عليه منذ ابتداء تأنسهم، أي منذ خليقتهم على ما يذهب إليه الخبر الديني الكتابي. فلم يصلَّ على جثمان القتيل الشيوعي في مسجد من مساجد المسلمين الشيعة، أهل ملته وملة أهله، وقطعت علائق الأحياء بالميت. وصلي عليه في جامع علي بن أبي طالب، بالطريق الجديدة البيروتية، وهو من مساجد المسلمين السنّة، ودفن في مقبرة الشهداء القريبة، وهذه خلفت جبانة الباشورة، الإسلامية السنّية، مع أوائل الحروب اللبنانية في 1975، واقتسمها قتلى الفلسطينيين وموتاهم مع قتلى اللبنانيين وموتاهم. وليس مهدي عامل نظير عقل هاشم ولا قرينه، على أي وجه قلبت المقارنة. فهو كان "وطنياً"، أي عروبياً، غالياً" وكان ثورياً، وتلقب بلقب "مهدي" انتساباً إلى ما حسبه ميراث خروج المسلمين الضعفاء على الظلم والقهر" وكان عداءُ إسرائيل يقوم مقام العروة السياسية الأساس في "نظريته". ولم يشفع هذا كله له، ولا لأهله وأصحابه. فقتل يوم اشتدت أزمة العلاقة بين الإتحاد السوفياتي، أحد مصادر التسليح العراقي، وبين إيران الخمينية، المثخنة بجراح الحملات الدامية على الخنادق العراقية، والموشكة على الرضوخ لقرار مجلس الأمن القاضي بوقف القتال" وهو قرار قال فيه مرشد الثورة الإيرانية إنه "العلقم" نفسه. واتفق اشتداد الأزمة هذه مع سعي "حزب الله"، وأنصاره خارج الحزب، في تقويض "الأمن" حيث الغلبة والحماية لمنظمة "أمل". وكانت حرب الشيعة، في ربيع 1988 وصيفها وخريفها، تتمة لمنازعات تعود إلى خلافات وضغائن قديمة، سبقت ولحقت، لابست حروب المخيمات الفلسطينية بين 1985 و1990. وهذا غيض من فيض يدخل فيه ما ليس من اليسير إحصاؤه من الإغتيالات وأعمال القتل و"الإعدام"، على ما يقول اليوم خطباء "حزب الله" صابغين بصبغة الشرعية و"القانون والمؤسسات" هذه الأعمال - وليس هذا وقفاً على "حزب الله" أو رعاته. فيوم اغتيل كامل مروة، صاحب "الحياة" ومنشئها، وصف في وقت واحد بالشهيد وبالعميل. وانقسم أشياع "قضية" كمال جنبلاط عليه حين اغتيل، وما زال الإنقسام قائماً لم "يردم". وهذا هو شأن الشيخ حسن خالد، مفتي الجمهورية اللبنانية السابق، في 1989. والقرابة بين معالجة الخلافات والمنازعات في الصفوف "الوطنية" والعروبية، الواحدة، وبين معالجة المنازعات مع العدو "القومي" أو الديني والمذهبي أو الأهلي، بالقتل والإغتيال والتهجير والنفي على حد سواء، هذه القرابة بين المعالجتين تخلِّف مشكلة شائكة إن في السياسة أم في التأريخ. فلو كان القتل وقفاً على ميادين الحرب، وعلى المتحاربين، لجاز نصب الحرب، والضلوع فيها على غير قوانينها وأعرافها، معياراً للإقتصاص. ولكن القتل في مجتمعاتنا وبلداننا بعيد من الإقتصار على هذه الميادين، ويقع معظمه بين الأهل الواحد والقبيل الواحد، ويتذرع القاتلون إليه بذرائع الحروب الخارجية والأجنبية من خيانة وعمالة ودخالة. ويصح هذا في المجتمعات والبلدان المشرقية التي تحوطنا فوق صحته في لبنان. ولبنانيو اليوم، معاصرو العقود الأخيرة من القرن العشرين وباكورة عقود القرن التالي، يورثون أخلافهم مجتمعاً متناحر الجماعات ومنقسماً على أمور كثيرة. ويجعل الإنقسام الكثير الوجوه هذا من المحال على الفرد الواحد أن يروي حوادث حياة واحدة على مثال متفق ومتصل. وقد تكون سيرة عقل هاشم التي أذاعتها دعاوة "حزب الله"، غداة إردائه، دليلاً على ما تقدم للتو. فجاء في هذه السيرة أن الرقيب عقل هاشم انتقل في 1976 إلى بلدته، دبل، "وعمل على تأسيس مجموعة حزبية بالتنسيق مع الاستخبارات الإسرائيلية...". وتسكت السيرة عن السبب في انتقال الرقيب في الجيش اللبناني إلى قريته في 1976، شأن بضع عشرات من أمثاله العسكريين، المسيحيين الجنوبيين، الذين أجازت قيادتهم الشرعية إقامتهم بقراهم، وبين أهاليهم، بعد أن طاول الأهالي تحكم المنظمات المسلحة، الفلسطينية واللبنانية، وعنتها. فكان قطع الرواتب عن العسكريين اللبنانيين، وتفتيشهم وتوقيفهم وإذلالهم، واغتيال بعضهم وأولهم ضباط المخابرات الشيعة، عاملاً حاسماً في التجاء بعضهم إلى إسرائيل. وكانت "الصهينة" تهمة تسرع إلى الجنوبيين، على اختلاف طوائفهم، ولا يُطلب التحقيق ممن يسوقها. وعمل في إمرة عقل هاشم، وأمثاله، غداة 1982، بعض من كانوا، في أثناء 1975 إلى 1982، "أمراء" المنظمات المسلحة على الأهالي. فجمعوا خبرة إلى خبرة، وبدلوا عداوة و"صداقة". وهي حال الذين انقلبوا من "العرفاتية"، أي موالاة ياسر عرفات، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ورأس "فتح"، إلى تهمتها بأعظم مراتب الخيانة، وإلى مماشاة السياسة السورية في كل شأن وأمر، وحال المنقلبين من عصبية لبنانية كثيرة الأحلاف إلى عروبة "الطائف" الصارمة وطاقمها السياسي المزركش. فإذا أشكلت علاقة مراحل السيرة الواحدة، والفرد الواحد، بعضها ببعض، فالأحرى أن تكون علاقة الجماعات اللبنانية، والمجتمع اللبناني، بمراحل تاريخها وتاريخه المتعاقبة أعظم إشكالاً. ويفاقم الإشكال هذا، والإنقسامات الشخصية والجماعية التي تترتب عليه، إسناد معايير الحكم والتمييز إلى مراجع تاريخية خارجية لا يسع اللبنانيين ولا الفلسطينيين ولا العراقيين ولا المصريين ولا السوريين... الإجماع عليها. وليس الحاكم في هذه المعايير هو القضاء وقوانينه، بل الجماعات وأجزاؤها وأحزابها. فالزعيم الحزب اللهي يسترشد، على ما مر، مرشداً إيرانياً وشيعياً ومسلماً، لا يجمع عليه الإيرانيون ولا الشيعة ولا المسلمون. والجيش الحزب اللهي يستعيد أرضاً لراياته ومقاتليه، ويسن قانوناً ينفي الأجداث بموجبه من ثرى أجدادها، والأصلاب التي تتحدر منها، باسم دماء شهدائه الذائدين عن حياض معتقدهم. وتحرير الأرض، إذا حصل من هذا الطريق، فهو فرع على أصل، وذريعة إلى الغلبة والتسلط. فلبنان القوم، على قول أحد مرشديهم، ليس إلا توازناً بين مصالح أجهزة مخابرات تنشد ساحة ومتنفساً وميداناً، و"حرياته" هي هذا وليت غير هذا. وحين يقول المطران مارون صادر إن "واجبات الراعي" مشاركة "أبناء أبرشيته في أتراحهم وأفراحهم"، والصلاة على راحة أنفسهم الماثلة بين يدي الديَّان، فهو يُخرج الموتى من أحزاب الأحياء ومللهم ومنازعاتهم، ويردهم إلى "جدث الرحمة" وإلى "وجه ربهم". ويخالف هذا كلام "حزب الله" ومقالات مشايخه المتكلمين. فهم يتدينون، على ما يقولون، بسياسة هي "عين دينهم"، وبدين هو "عين سياستهم" ويخالفهم القول معظم مشايخ الشيعة. ويكلون إلى أنفسهم "نبش الصدور". وهذا أشبه بكلِّيانية شمولية خلاصية منها باجتهاد سياسي. فكيف يقضي من هذا شأنه، سياسة ولاهوتاً وتركاً للتحوط، في مسائل على قدر كبير من الإشكال والتعقيد وكثرة مسالك النظر والعمل ودقتها. وهو، إلى هذا كله، لا يطلب الإجماع وحسب، بل يفترضه افتراضاً. وافتراض الإجماع من غير طريق الدولة الواحدة وهيئاتها وقوانينها، يلحق الدولة بجماعة جزئية، ويحول بين المواطنين وبين صوغ إجماع مركب على دولة ووطن وتاريخ. ويساعد الحزب الخميني على افتراض الإجماع، بينما يتناثر أقله وأضعفه، خطابةٌ سياسية جوفاء ورتيبة، يتشارك فيها "الروحانيون" والمدنيون من كل المذاهب، مناطها "وحدة وطنية" لا قوام لها إلا انقيادها لسياسات إقليمية لا تقر على قرار، ولا تتماسك إلا بالنفخ في "حرب أهلية" أو "اضطرابات"، أو "بوسنة"، وشيكة على الدوام، وبالتخويف من "سلام" لا يتصور إلا إسرائيلياً وأميركياً ومعولماً. ولا يرسي هذا إلا على الخوف إذا كان الخوف مرسى، ولا يبعث إلا على الهجرة والقلق والضغينة، على النفس وعلى الغير. والحق أن السياسات التي نساس بها تتوسل إلى سوسنا بهذه الأهواء وبمثلها. وألوان هذه السياسات هي ألوان الأهواء هذه. فلا محل فيها للجواب عن مسألة العلاقة بين الأحياء وبين الموتى، أو بين أجيال المجتمع الواحد، ومعاني الوطن المشترك ومواضيه. فإذا أقامت هذه العلائق على إشكالها وإبهامها لم تلد مواطنين، بل ولدت آلات وتماثيل تخاطب مخاطَبيها بظهورها المستقيمة والجاهزة. * كاتب لبناني.