في هذه الأيام تأتي أخبار هوليوود لتفيدنا بأن عاصمة السينما العالمية التي لم تقصّر ابداً في العثور على مواضيع لأفلامها، ستنتج خلال الفترة المقبلة فيلماً يتناول فترة من حياة امبراطورة روسيا، كاترين، ولا سيما حكاية العلاقة التي قامت يوماً بين مندوب أميركي زارها وبينها على خلفية مساعدته لها في قمع ثورة قام بها القوزاق. ومن المتوقع ان تقوم الفاتنة أنجلينا جولي بدور الامبراطورة الروسية في هذا الفيلم الجديد. واذا قامت انجلينا بالدور فعلاً، فإنها تكون سارت على خطى واحدة من كبار نجمات التاريخ الهوليوودي: مارلين ديتريش، اذ ان هذه الأخيرة قامت كذلك بدور الامبراطورة كاترين في واحد من أجمل وأقوى أفلامها: "الامبراطورة القرمزية". وهو على أية حال واحد من افلام أميركية عدة تناولت حياة هذه الامبراطورة التاريخية. والفيلم الذي مثلته مارلين ديتريش يعود الى العام 1934. ولعل اول ما يمكن ان يقال عنه هنا، هو انه في الاصل لم يحقق لتمجيد الامبراطورة بقدر ما حقق لتمجيد النجمة وتكريسها... كان هذا هدفه اصلاً، وكان هذا ما حققه فعلاً حتى وإن كان في طريقه قد أعاد الى مسرح الاهتمام حياة كاترين الامبراطورة، في زمن كان الرسميون السوفيات يفضلون ان يسكتوا عن كل تاريخ لروسيا سبق تاريخ الثورة، اللهم الا اذا كان يريد ان يندد بذلك التاريخ. أما فيلم "الامبراطورة القرمزية" فإنه على العكس مما كان مطلوباً، قدم عن الامبراطورة صورة ممتازة: صورة تليق، على الأقل، بالنجمة التي لعبت دورها. ولم يكن الأمر صدفة بالطبع. ذلك ان مخرج الفيلم جوزف فون سترنبرغ حقق فيلمه لتلك الغاية كما أشرنا. فهو عرف بغرامه المدهش برفيقته ونجمة أيامه وحياته مارلين ديتريش، التي كان ادارها قبل ذلك في عدد لا بأس به، وبجودته من أفلام، ولا سيما فيلم "الملاك الأزرق" الذي حققه قبل وصولهما معاً الى هوليوود، اي في المانيا. وهو اذ كان يشعر انه العلم والعاشق الكبير الذي يتعين عليه ان يشحذ دائماً عبقريته وأفكاره لإيصال فاتنته الى اعلى ذرى المجد، رأى الآن اي في العام 1934 انها باتت تستحق ما لا يقل عن ان تكون امبراطورة روسيا الكبيرة. ومن هنا طلب من الكاتب مانويل كومروف ان يقرأ بدقة سيرة كاترين الكبرى، ولا سيما كما دونتها هي نفسها في أوراقها، ليستخلص من ذلك كله نصاً يصلح لأن يكون فيلماً لا ينسى. وهكذا ولد "الامبراطورة القرمزية". لكن الفيلم الذي شاء سترنبرغ ان يحققه كرمى لعيني مارلين، سرعان ما صار واحداً من أجمل كلاسيكيات السينما التاريخية وعلامة من علامات السينما الباروكية. ذلك ان المخرج الذي كان، جمالياً، ذوقياً، ابن وسط أوروبا: فيينا وبرلين مجتمعتين، اهتم بكل شاردة وواردة في الفيلم، بتفاصيل الاكسسوارات والملابس، بالديكور، بالموسيقى، بأصغر الادوار وبالكومبارس. وكل ذلك حتى يحيط بطلته / الامبراطورة بجمال ما بعده من جمال... وينطبق هذا في شكل خاص على مشهد تتويج الامبراطورة الذي بناه من حول شعلة مضيئة على الدوام تعطي المشهد كله تفصيلات الظل والضوء، وتحرك اللهب في المكان كله وعلى ثياب الامبراطورة الصبية ووجهها في شكل لا ينسى. ومشهد التتويج هذا كان على اية حال مشهد الذروة في الفيلم، المشهد الذي شاء من خلاله جوزف فون سترنبرغ ان يعطي بطلته صورة تؤيد جلالها وجمالها. وبفضل هذا حدث في هذا الفيلم امر نادر للغاية: تطابقت فيه البطلة والامبراطورة، الممثلة والمعشوقة، في بوتقة واحدة بحيث صار من العسير على المتفرج ان يفرق بينهن. ولقد كان يحلو لمارلين ان تروي كيف ان اسم كاترين غلب عليها بعد عرض الفيلم، لفترة، أنسى معجبيها، وإن في شكل موقت، الاسم الآخر الذي ارتبط بها: لولا لولا دورها في "الملاك الأزرق". ومع هذا كله فإن الاحداث التي تطالعنا في الجزء الأساس من "الامبراطورة القرمزية" تدور كلها قبل ان تصل كاترين الى العرش الروسي. فالفيلم يبدأ بها وهي، بعد أميرة وشابة، رائعة الحسن تحمل اسم لويز فردريك. ويقدمها لنا الفيلم، منذ البداية، موعودة بمصير مجيد، ذلك انها تهيئ من قبل الأهل والتابعين، لكي تتزوج عما قريب من الأمير الشاب بطرس، الذي سيؤول اليه عرش روسيا عما قريب. وهكذا نراها عند البداية ترسل الى البلاط الامبراطوري، في موكب شديد الفخامة يقوده الكونت اليكسي الذي يتميز بفتنة طاغية... لكن الأميرة الشابة لا تتوقف طويلاً عند مغريات سحر الكونت الشاب، لأنها خلال المسافة التي يقطعها الموكب تكون مشغولة البال بأحلامها حول السعادة والجاه اللذين ينتظرانها في سانت بطرسبورغ، في أحضان وحمى زوجها العتيد. ولكنها ما ان تصل هناك حتى تصاب بخيبة قوية، اذ حين يقدم اليها الامير بطرس، خطيبها، تدرك بسرعة انها امام شاب خليع، لا يبالي بشيء ويفضل اللهو على أية مسؤولية. وأمام هذا الواقع الجديد، بدلاً من ان تسلم نفسها الى اليأس والحزن، تحزم لويز - فردريك أمرها: ستقبض على الامور بيديها. وستكون هي القوية في اللعبة المقبلة. وهكذا بعد احتفالات الزواج الصاخبة، وبعدما ابدت كل ما لديها من فتنة وقدرة على سحر الآخرين، تبدأ منذ صبيحة اليوم التالي تحركها: لويز ستتحول الى كاترين. والأميرة الناعمة العذبة ستصبح سيدة حديدية بكل معنى الكلمة... وهكذا، في مقابل رخاوة زوجها ولامبالاته بأي أمر حيوي، ستكتسب هي ثقة كبار العسكريين وتفتنهم، فيصبحون رفاقاً لها طائعين مهذبين، اذ يكتشفون قوة شخصيتها اضافة الى حسنها. وخلال ذلك، فيما يكون زوجها الشاب منهمكاً باللعب بجنوده الدمى المصنوعين من الرصاص خائضاً بهم معارك وهمية، ستدور هي من ثكنة الى اخرى متحدثة الى الجنود وقادتهم مكتسبة اياهم الى صفها، من دون ان يعرف أحد - سوى الكسي على الأرجح - غايتها من ذلك كله... فما هي هذه الغاية؟ بكل بساطة: الاستيلاء على العرش لكي تصبح هي، لا الامير بطرس، امبراطورة روسيا. ولم يكن عليها، للوصول الى ذلك الا ان تنتظر موت الملكة الأم... وما ان تموت هذه حتى تقوم لويز / كاترين، ومعها اصدقاؤها الضباط، بانقلاب عسكري ينتهي بتتويجها امبراطورة على عموم روسيا. اذاً، من الواضح ان الفيلم كله مبني من حول الاميرة الشابة... وبالتالي من حول لاعبة الدور. ولقد كان "الامبراطورة القرمزية" انطلاقاً من هذا، ذروة العمل المشترك بين جوزف فون سترنبرغ ومارلين ديتريش. ومن هنا وضع فيه المخرج المبدع كل ما لديه من طاقة وحب. وهذا الفيلم الضخم الجميل الذي بدأ عرضه مصحوباً بمقطوعات موسيقية اقتبست من تشايكوفسكي ومندسون أثار الاعجاب، ولا سيما لدى كبار نقاد السينما في فرنسا وعلى رأسهم هنري لانغلوا وجان ميتري، حتى وإن كان النقاد الاميركيون لم يعجبوا به كما ينبغي. والحال ان الفيلم، اذ امعن في اطلاق نجم مارلين ديتريش كالصاروخ، ساهم ايضاً في الكشف عن عمق وصدق مواهب جوزف فون سترنبرغ 1894-1969 الفنية، بخاصة وانه هنا اطلق العنان لمخيلته ولهواجسه جامعاً اياها في كل لقطة ومشهد. وسترنبرغ هو من اساطين الفن السابع في تاريخ هذا الفن... وكان مخرجاً وكاتباً ورساماً وممثلاً وابناً حقيقياً لفيينا في عصرها الذهبي، حتى وإن كان وضع مواهبه لاحقاً وغالباً في خدمة السينما الاميركية ثم الأوروبية عموماً.