تجربة ابراهيم صموئيل القصصية تحتل اليوم المكانة الأبرز في زحام من يكتبون هذا النوع الأدبي، وهي أكدت تمايزها منذ أصدر صموئيل مجموعته الأولى "رائحة الخطو الثقيل"، عام 1988، فلفت انتباه النقاد والقراء بقوة الى عوالم قصصه أولاً، ثم الى نظرته الذكية بامتياز الى تفاصيل الحياة اليومية، أو اذا شئنا الدقة أكثر، الى ذلك النوع من التفاصيل الذي يعكس حياة البسطاء والعاديين، والذي تتجسد من خلاله مأسوية عيشهم، ويبدو للمراقب العادي مألوفاً لا يستحق الانتباه، فيما هو في رؤية الكاتب، قوام العيش الراهن بكل ما فيه من أحزان واغتراب، ومن مصاعب صغيرة لا تلبث أن تتراكم لتشكل جبالاً من الخيبات والأسى. ابراهيم صموئيل بين كتّاب القصة السوريين، أكثرهم فهماً لطبيعة هذا الجنس الأدبي الجميل، القادر على حمل الدلالات، إذ هو يبرع في كتابة قصة تكتمل أبعادها كلها من دون أن يتورط في ثرثرة سردية زائدة. قصته تنتقي كلماتها الأشد دلالة، فتؤسس منها وبها جملة قصصية مكثفة، تقول ما تريد، وتترك للقارئ أن يبني في مخيلته قوام عالم يريده الكاتب متجسداً في ذهن قارئه. هذه القصص تنطلق كلها من نقطة أساس: رؤية الإنسان أولاً، بل رؤيته من كل الجهات. فابراهيم صموئيل إذ يكتب انما يعيد بسط مشاهد حقيقية تبدو في العادة منزوية في الظل، انزواء أبطالها، المفعمين دوماً بحب لا ينضب للحياة، على رغم ما في الحياة من قسوة ومن صعوبات. "المنزل ذو المدخل الواطئ" منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت - 2002 هي الرابعة، بعد "رائحة الخطو الثقيل" 1988، "النمنمات" 1990، "الوعر الأزرق" 1994، وهي كعادة الكاتب تنهل من المناخات ذاتها، وتعتني بحياة ناس عاديين، وإن تميزت عن المجموعات السابقة، بتطور تقنياتها الفنية، ونضج نظرة كاتبها. الملاحظة الأبرز في قصص هذه المجموعة كما في قصص ابراهيم صموئيل عموماً اننا لا نعثر على قصة طويلة، ولو نسبياً. كل القصص تبدأ وتنتهي في ما لا يزيد على أربع صفحات من قطع الكتاب، وفي هذه الصفحات الأربع، يقدم الكاتب حكاياته بتفاصيلها كاملة ويصل مع قارئه الى علاقة متوازنة بين الشكل والمضمون، علاقة تتأسس على البراعة في صوغ الجملة القصصية وفي الوقت ذاته، اختيار اللقطة الموحية، الأكثر أهمية، والمتضمنة تفصيلاً يحمل قدرة أكبر على الايحاء. جملة صموئيل القصصية تختار "وقائعها" اللافتة، المشحونة والمتوترة، من بين تفاصيل كثيرة يزدحم بها الواقع. هذا الاختيار المميز سيجد طريقه الى التفرّد، حين يلتقي مع ما ينتبه اليه الكاتب من عوالم تبدو قليلة الأهمية عند الكتّاب الآخرين. كاتب مسكون بالرغبة في التعبير عن مأسوية الواقع، ولكن انطلاقاً من رؤية شديدة الخصوصية، حيث لا أبطال مميزين، ولكن حيث البشر عاديون، بسطاء نراهم في حياتنا كل يوم. غير ان الكاتب يراهم في حالات مأزومة، حالات تبدو أقرب الى الغرابة وإن تكن حقيقية تنبض بالحياة. تمكن ملاحظة ذلك في قصص المجموعة التي تتناول جوانب من حياة ذوي الاحتياجات الخاصة، وبالذات، تصرفاتهم التي تعكس رغباتهم الإنسانية، مشاعرهم وأحلامهم في الحب والنجاح في العمل، كما تمكن ملاحظة ذلك في قصص السجن، حيث يعثر ابراهيم صموئيل على مساحة رؤية هي الأكثر تميزاً، لبشر عاديين يعيشون ظروفاً استثنائية فتتبدل حياتهم وتأخذ تصرفاتهم أشكالاً ومضامين أخرى، وبين هذه وتلك صور الحياة اليومية في عوالم القهر الاجتماعي التي تحوّل المجموع الى حالات من الخوف الجماعي، كما في قصة "شريط الورق" مثلاً. في هذه القصة يقدم صموئيل حكاية لعبة بسيطة يمارسها عدد من الصبية حيث يقومون بربط شريط ورقي ملون في شارع ما فيقطع عبور الناس، ثم يتفرجون على ردود أفعال المارّة على وجود الشريط، فيرون بأعينهم سرعة انضباط الناس لما يفرضه وجود الشريط من وجوب تحويل خط سيرهم، خصوصاً أنهم يجهلون مَنْ وضع الشريط ولماذا. قصة فيها الكثير من ايحاء رؤية الخراب في البنية المجتمعية، التي تنضبط وتستجيب، ومن دون أن تسأل عن السبب. في كتاب "المنزل ذو المدخل الواطئ"، ثمة قصص تعالج جوانب من حياة ذوي الاحتياجل الخاصة، أولئك البشر الذين عاش الكاتب بينهم وعمل في معهد خاص بهم فتعرف على عالمهم وما فيه من تفاصيل انسانية غنية. في هذه القصص يقدم الكاتب رؤى انسانية عميقة الدلالة وفي غير ادعاء أو احتفالية، ولكن من خلال الانتباه الى ما يحمل عالم أولئك البشر من صور اجتماعية وانسانية لها دلالاتها المميزة. في قصة بعنوان "تلمّس"، يقدم الكاتب حكاية موعد لقاء بين شاب وفتاة من ذوي الاحتياجات الخاصة. قصة فيها الكثير من الشجن والعاطفة، يصوغها الكاتب بحرارة فيضمنها ملامح من قهر هؤلاء البسطاء الباحثين عن الحب في عالم يفرض عليهم الحرمان: "في تلك اللحظة، وكما وصلت الى هنا مشدودة من توقي الخبيء، ألفيتني أدفع يديّ أمامي وأندفع خلفهما على غير هدى... أركض، وأتعثر، وأرتطم، متخبطة، كمن تستنجد أو تستغيث". جمالية هذه القصة في انحيازها الى متابعة أو رصد حال انسانية تبدو كحدث واقعي، خاطفة، سريعة، وإن تكن عميقة المعنى وتختصر دلالات لعوالم تبدو للبشر العاديين مجهولة، والكاتب إزاء هذه الحال الشديدة الخصوصية، يحقق جمالية قصته باتكائه على الجوهر الإنساني، الذي يعبّر عن فردية بطليه المقعدين وسعيهما الحار الى التعبير عن عواطفهما الإنسانية في لحظة انتصار على العجز والمرض، وفي بناء قصصي شديد السلاسة، تستجيب القصة من خلاله لحدثها دونما افتعال أو "تأليف"، بل ان الوقائع القصصية في سرديتها البسيطة تجيء حارة، مفعمة بالحسّ الإنساني الجميل. في قصة "كفاصلة وسط الكلام"، ثمة مقاربة لحال انسانية مختلفة من خلال مشهد حافلة تنقل مجموعة من المعتقلين الذين أفرج عنهم للتو، حافلة تتوقف في ازدحام السير قرب حافلة أخرى تنقل أعضاء فريق رياضي، يعتقدون ان أفراد الحافلة الأولى هم أيضاً من الرياضيين، فيبدأون في ممازحتهم وسؤالهم عن وضعهم، حتى إذا أجابوهم بالإشارة أنهم معتقلون انقطع حبل الأسئلة فجأة: "مما أغرى الآخرين من حافلتنا للإيماء بالحركة نفسها، وأناخ على ركاب الحافلة المجاورة جميعهم". في هذه القصة أيضاً، نجد الكاتب لا يبحث عن تفاصيل مأسوية الاعتقال في السياسة أو الشعارات الكبيرة، بل على العكس من ذلك، نراه يذهب الى عقد هذه المواجهة بين ركاب الحافلتين، وما يشيعه معنى الاعتقال في نفوس أفراد الحافلة الأخرى من رعب من مجرد الفكرة. الأجواء ذاتها سيعود اليها الكاتب في قصة أخرى لعلها أجمل قصص المجموعة على الاطلاق، وحملت عنوان "تلك الجهات". في هذه القصة يقدم ابراهيم صموئيل صورة الحياة اليومية للمعتقلين في السجن، وبالأصح صورة اختلافاتهم التي تكبر وتتعاظم على أتفه الأسباب، من مثل الصراع على بذار حبات الزيتون التي تأتيهم مع الطعام والتي يصنعون منها مسابح وأشياء مشابهة، فتشكل في حياة السجن عالماً بديلاً من عالم الحرية الخارجي المفقود. لعبة تستحوذ على الجميع ويتعاظم دورها، داخل السجن، ولكنها في لحظة الافراج عنهم وانفتاح باب الحياة من جديد تفقد دفعة واحدة أي أهمية سابقة لها: "ولعلني لا أستطيع أن أنسى ما حييت كيف راح المخلى سبيلهم بعد أن قذفوا بمناماتهم في فضاء المهجع، يمدون أصابع مرتجفة الى ثيابهم المطوية في الصناديق الخشب المتراكمة فوق رفوف فرشهم، فيسحبونها من سباتها الطويل، وكيف راحت تنسحب معها وخلفها ثم تنهال، تلك الحبات المجهزة والمخبأة في حرز أمين، والأخرى نصف المشغولة، والقلائد المهيأة والسبحات المضمومة والأساور المنقوشة فتوقّع على أرض المهجع توقيعاً مكتوماً ثم تتناثر وتتبعثر هنا وهناك، وسط تزاحم الأقدام وتقاطعها، تكسر وتدرج وتنزلق أو يتكسّر بعضها ويتطاير من دون أن يأبه بها أحد". لعل أهم ما في عالم ابراهيم صموئيل القصصي هو هذا الشغف الحميم بكل ما يتصل بالإنسان الفرد من مشاعر وخصوصيات تبدو في الحياة اليومية مختفية تحت قشرة من ظواهر واقعية خارجية، وتحتاج الى فطنة الكاتب وخبرة حياته كي يزيح عنها القشرة وكي يقدمها للقارئ بصفتها الجوهر الذي يحتوي على الحياة الحقيقية للبشر بل المعنى الحقيقي لهذه الحياة، وهو معنى تتضمنه دوماً الأفراح الصغيرة، تماماً كما الأحزان والخيبات الصغيرة أيضاً. "المنزل ذو المدخل الواطئ"، عنوان المجموعة، هو أيضاً عنوان قصة آسرة تحيط بقوة الواقع البائس حين يكون قدراً له ديمومته، فبطل القصة الذي يضطر للانحناء أمام مدخل بيته الواطئ كأنه في رمزية الفعل ينحني للواقع ذاته ستصبح انحناءته عادة لا يستطيع التخلص منها، حتى حين يرحل للإقامة في بيت آخر جديد، له مدخل طبيعي لا يحتاج الى الانحناء. قصة تجمع بين واقعية الحدث ورمزية المعنى، والكاتب كعادته ينقل حدثها البسيط ولكن المفعم بالدلالة من حياته الواقعية فينجح في بناء قصة متماسكة وجارحة في الوقت ذاته. مجموعة الكاتب السوري ابراهيم صموئيل الرابعة تعيد التشديد مجدداً على مكانة هذا الكاتب بين كتّاب القصة القصيرة السورية والعربية على حدٍ سواء، هو الذي نشرت كتبه في طبعات جديدة في أقطار عربية أخرى وخصوصاً في مصر، موطن القصة العربية، فلاقت نجاحات مهمة فيما ترجمت أعماله كمجموعات وقصص متفرقة الى الايطالية والفرنسية والبلغارية والانكليزية، وهو في هذه المجموعة يتقدم بخطى حثيثة في كتابة قصة شديدة الالتصاق بالواقع، ولكن شديدة الحرص على جمالية البناء وفنيته.