الكتاب: مملكة النمل مجموعة قصصية صادرة عن وزارة الثقافة الاردنية. البحث عن زيزيا مجموعة قصصية صادرة عن أمانة عمّان الكبرى الكاتب: جمال أبو حمدان لم ينشر جمال ابو حمدان سوى القليل من المجموعات القصصية إلا أنه نشر عدداً كبيراً من القصص في المجلات والصحف، واستطاع في الآن نفسه ان يرسخ حضوره على خريطة القصة العربية من خلال مجموعته الأولى "احزان كثيرة وثلاثة غزلان" التي نشرت طبعتها الأولى مجلة "مواقف" في بيروت عام 1970، ثم من خلال ما تابع نشره من قصص في الصحافة العربية السيّارة. لكنه، وبعد امتناع طويل عن جمع ما كتبه من قصص، نشر خلال السنتين الأخيرتين مجموعتين قصصيتين: "مملكة النمل" منشورات وزارة الثقافة الاردنية، و"البحث عن زيزيا" منشورات امانة عمان الكبرى. ويمكن لقارئ هاتين المجموعتين ان يتعرف على انشغالات جمال ابو حمدان القصصية وتطور تجربته الغنية على مدار ثلاثين عاماً من الكتابة والوفاء للقصة القصيرة التي اصبحت نوعاً مهجوراً في الحياة الثقافية العربية. تقوم قصص ابو حمدان، بصورة عامة، على تغريب الحدث القصصي والشخصيات والحالات التي يصفها، على نزع الالفة عن عناصر عمله القصصي ودفع القارئ باتجاه إدراك غرابة العالم الذي يصفه، والتعرف، عبر تعرجات العمل القصصي، على المأزق الذي تحياه شخصياته. إن عالم ابو حمدان هو عالم الشخصيات المنسحبة من سياقها الاجتماعي الضاغط. الباحثة عن خلاص وجودي في الفن او التأمل او الانطلاق بعيداً عن الوجود الارضي المكبل للروح النبيلة. ويمكن القول في هذا السياق إن قصص ابو حمدان هي بمثابة تعبير مجازي عن هذه الرغبات، الوسواسية، التي تتسلط على شخصياته وتدفعها للهروب بعيداً من الفساد الذي ينخر عالم البشر ويمزق أواصر العلاقات الانسانية بينهم. ويعمل القاص، للوصول الى تعبير امثل عن هذه الرغبات، على كتابة حكايات مجازية الليغورية تضفي عليها لغته الشاعرية، وقدرته على تفجير الطاقات الايحائية للغة، معاني عميقة تفسر الوجود الانساني وتكشف عن التصورات الفلسفية التي تغلف عالم ابو حمدان القصصي. وفي قصة "مملكة النمل" من مجموعة "مملكة النمل"، ص:9-33، التي يضع لها القاص عنواناً جانبياً يصفها فيه بأنها "سيرة غير ذاتية... وغير مكتملة"، يعثر القارئ على هجاء موارب للتربية الانسانية والوجود البشري الذي يحاكي عالم النمل حيث يتحول البشر في النهاية الى هيئة النمل وسلوكه وعاداته، ويتحول الآباء الى قتلة لابنائهم الذين ارسلوا ليتعلموا قيم النمل وعاداته. وما بين مشهد البداية، الذي يحرق فيه الابن "كتاب النمل"، ومشهد النهاية الذي يموت فيه الابن - النملة بسلاح الاب، يعثر القارئ على مفارقة التربية ومأسوية التناقض في الفعل الانساني. إن الابن الصغير يرفض سلوك النمل لانه يرى فيه ارتهاناً لعبودية ازلية وتكرارية سلوكية معادية للابداعية الانسانية والنزوع الفردي الاصيل، لكنه في النهاية يعود من مملكة النمل وقد تحقق من النظام المدهش في عالم النمل. لقد تحول الى نملة، في الهيئة والسلوك. لكن اهله من البشر لا يتعرفون فيه على ابنهم الذي غادرهم الى مملكة النمل، عقاباً له على جرأته الزائدة عن حدها، فيقتلونه لانه لم يعد يشبههم. وفي "مملكة النمل" نتعرف على روح انسانية معذبة تعدّ الجاهز في سلوك البشر وتعبيرهم شيئاً يخالف قيم التجربة والتعلم والرغبة في التعرف على طزاجة الوجود من خلال الخبرة الذاتية، كما أنها، بعد تعرفها على قيم مملكة النمل وحكمة اهلها، تنحاز الى قيم النمل حتى تتخذ هيئة النمل وسلوكه. ويعمل ابو حمدان على توليد هذه الرؤية الفلسفية للوجود الانساني من خلال رحلة الشخصية، الغفل من الاسم، من عالم البشر الى عالم النمل وبالعكس. بحيث نرى كيف يتم مسخ الكائن في الحالتين وشل قدرته على الإبداع ودفعه الى النظر الى العالم بعيون الآخرين. إن "مملكة النمل" هي بمثابة كتابة مواربة لقصة "التحول" لكافكا. لكن جمال ابو حمدان، وهو يدرك انتساب نصه الى ذلك العالم الكافكاوي الذي ينمسخ فيه الوجود البشري ويفقد شرطه، يخلع على النمل صفات البشر وهيئتهم. لذلك تبدو الرحلة الى عالم النمل وكأنها رحلة تتم الى عالم البشر حيث يشدد الراوي على علو مرتبة العالم الحيواني على عالم البشر الذي يتسيد فيه القتل ويفتقر الى الحكمة التي يتمتع بها عالم النمل وتسير حياته. تمثل "مملكة النمل" نصاً مفتاحياً في عالم جمال ابو حمدان القصصي، بغض النظر عن تاريخ كتابتها المتأخر. إنها تكشف عن جذور عالمه القصصي، عن طريقته في بناء جملته القصصية، عن ميله للاختزال وتركه الفضاء مفتوحاً للتأويل وفهم القارئ، وعن إيمانه بأن اصل فساد الكون قائم في إكراه البشر بعضهم بعضاً على ضرورة التشابه والسلوك المتوارث. وقصة "كشف التباريح في ذكر المفاتيح" "مملكة النمل"، ص:35-62 تدور خارج الإطار العام الذي ينتظم قصص جمال أبو حمدان، وهي قصة تحكي عن مفتاح تاريخي، له دلالة رمزية غائرة. ولكن القصة تتوسل، للوصول الى هدفها، حكاية اخرى تدور حول كتاب عجيب عنوانه "كتاب كشف التباريح في ذكر المفاتيح". في هذه القصة ثمّة لعب على الحكاية العجيبة في الف ليلة وليلة التي تروي حكاية الكتاب المسموم، لكن "الكتاب المسموم" يأخذ سمتاً مغايراً في قصة ابو حمدان ويقض مضجع الراوي وصاحب الدكان وكل من تصل اليه يده. كما ان سُمّية الكتاب تصبح في القصة ذات طبيعة رمزية. إن الكتاب العجيب يتحدث عن مفاتيح قصور ومدن وبيوت في التاريخ العربي القديم والمعاصر ليصل في النهاية الى مفتاح البيت الكبير الذي اضاعه صاحب الدكان الفلسطيني مما يصل بين حكايات المفاتيح المضاعة في التاريخ وحكاية المفتاح الذي اضاعه الفلسطيني في الوقت الراهن ثم حاول إعادة خلقه بطرق مفاتيح صغيرة عديدة للحصول على المفتاح الكبير! سيذهب ذهن القارئ، على ما أظن، الى حكاية المفتاح ومعانيها المباشرة والرمزية في القصة السابقة، لكن الدلالة المركزية في هذه القصة كامنة في حكاية الكتاب نفسه، فعندما يمزق ابن صاحب الدكان الكتاب، لأنه يعتقد ان الكتاب سمّم حياة الاب وجعله اسيراً دائماً له، يقوم الراوي بلملمة صفحاته الممزقة المبعثرة ويعمل على إعادة ترتيبها ردحاً من الزمان. وعندما يفشل الراوي في وضع الصفحات، صفحات الكتاب وصفحات التاريخ، في مواضعها الصحيحة يرضى بما انتهى اليه من ترتيب الكتاب ويعده سفراً "نادراً، ومشوقاً، وصالحاً لتزجية الوقت وقتل الفراغ" في إشارة رمزية الى حوادث الزمان وحكايات المفاتيح في تاريخ العرب القدماء والمعاصرين. ثمة في "مملكة النمل" قصة تصل عالم هذه المجموعة بالمجموعة التالية إذ يبدو الموت الذي يكتسح الكائنات تجربة وجودية معقدة. إن يده الحانية، التي تترفق بمن ينتظر الانتقال من صخب الحياة وبردها اللاسع الى عالم الموت وسكينته المأمولة، تمتد الى الشخصية الرئيسية في قصة "نافذة خاصة على الشارع العام" ص:99-123. إن الشخصية التي يحكي عنها الراوي بضمير الغائب تقف في النافذة، التي تبدو نافذة مجازية تطل منها الشخصية على ماضيها وحاضرها، لتتأمل غرفة مهجورة في زاوية الشارع وبيتاً مهجوراً ومقهى يتجاور فيه مقعدان اسود وابيض. لكن رحلة التأمل، التي تصفها القصة، والتي تمتد من النافذة الى الشارع وموجوداته، هي إعادة تمثيل رمزية لرحلة الشخصية القصصية بين الحياة والموت في غسق العمر. وليس مشهد الغرفة والبيت المهجورين سوى محاولة للتعبير مجازياً عن حصار الموت الذي تبدو خطواته شديدة القرب من الشخصية. وهو ما يتحقق بالفعل عندما تحس الشخصية القصصية بالطمأنينة، لحظه ترى الحبيبة تغذ خطاها باتجاه البيت، فتذهب الى الموت مفتوحة العينين وكأنها لوحة تؤطرها النافذة. إن لحظة التواصل لا تتحقق إلا بموت الرجل المطل من نافذته الخاصة في ساعة الغسق حيث يبدو الموت شيئاً مأمولاً وعبوراً الى عالم السكينة والراحة الابدية في الشارع العام الذي يروح في نهاية القصة "يتفتح في ضوء الفجر". المجموعة القصصية الثانية "البحث عن زيزيا" تضم عدداً من القصص التي تحكي عن الموت بصورة اساسية. إن "كعك الحرب" يتحول، في قصة تحمل الاسم نفسه "البحث عن زيزيا" ص:40-43، الى طعام لا يؤكل، فيما يفقد الجندي، الذي يكتب الشعر، في قصة بعنوان "خط النار" ص:34-39، قدرته على ان يكون شاعراً او يكون جندياً بعد ان خربته الحرب التي لم يخضها وكان يرى بين كل رصاصة ورصاصة تمرقان فيها حمامة بيضاء محترقة. وفي قصة اخرى بعنوان "عودة الى مسقط الرأس" ص:66-70 يكتشف الميت لدى نزوله الى "فسحة القبر" انه يرتد طفلاً في القبر بدل ان تتطابق رحلة الذهاب مع رحلة الإياب في إشارة غامضة الى العبث الكامن في الرحلتين. ثمة خط آخر، متصل بتيمة الموت، في قصص جمال ابو حمدان، حيث يقوم القاص بإعادة رسم مواقف بعض الاشخاص التاريخيين والشخوص الطالعين من حكايات الف ليلة إذ يفقد أولئك الاشخاص، وتلك الشخصيات، حماستهم ويبوؤون بالخذلان والتخلي عن الاهداف التي رسموها لانفسهم في التاريخ والحكايات. إن المارد في قصة "علاء الدين والمصباح السحري" ص:44-47 يعلن لعلاء الدين عدم قدرته على إحضار الطعام له وتخليصه من الجوع. إنه يبدو منكسراً مخذولاً تعساً يدعو الى الشفقة. توضح القصص التي اشرنا اليها سابقاً، والتي تدور حول القتل والموت والخذلان والانكسار، إضافة الى قصص اخرى في هذه المجموعة، الإطار العام لعالم جمال ابو حمدان القصصي الذي يتكامل من خلال النتويع على ثيمات رئيسية تتواشج فيما بينها ويلقي بعضها الضوء على البعض الآخر. إن قصص ابو حمدان هي حكايات مجازية "الليغورية"، عن الوجود والعالم والتاريخ، قابلة للتأويل بسبب تعدد دلالاتها ونزوعها الشعري والمعاني الضمنية الكثيرة التي تغني هذا العالم القصصي الشديد التواشج والتكامل.