ترتكز شهرة غونتر غراس أساساً على رواياته "الضخمة"، بل قد لا يعرف كثير أنه بدأ مسيرته الأدبية شاعراً، وكان في أوائل الستينات من أهم الأصوات المجددة في معترك الشعر الألماني. إن الشعر بالنسبة لغراس - وكما أكد في أكثر من مناسبة - أقرب وسائل التعبير الفنية إلى قلبه، لأنه يتيح للشاعر وضع ذاته تحت المجهر، وإعادة اكتشاف خبايا النفس، وتحديد مسار الحياة من جديد. إلا أن الشاعر غراس توارى طويلاً خلف الروائي، ثم توارى الشاعر والروائي معاً في كثير من الأحيان خلف السياسي نصير الحزب الديموقراطي الاشتراكي. أصدر غراس أول دواوينه عام 1956، تحت عنوان "مزايا مؤشرات الريح" أي قبل ثلاث سنوات من روايته البديعة "الطبل الصفيح"، وأعقبه غراس بديوانين "تقاطع السكك الحديدية" 1960، و"استجواب" 1967. وفي عام 1977 طالع قراؤه قصائد وردت متناثرة في ثنايا روايته "سمكة موسى"، ثم أصدرها غراس لاحقاً في ديوان زوده - كعادته - رسومه الفحمية. اعتاد قارع "الطبل الصفيح" أن يتنقل بخفة هائلة بين مختلف الأجناس الأدبية والأشكال الفنية" فهو كثيراً ما يبدأ رواية، ثم يجد نفسه ينظم شعرا" أو يشرع في قصيدة تصبح فيما بعد نواة لأحد أعماله الروائية. قصيدة "خيال المآتة" من ديوانه الثاني مثلاً كانت إرهاصة لروايته "سنوات الكلاب" التي صدرت بعد ثلاثة أعوام. بين الشعر والقص أخذ غراس يتنقل أيضاً خلال العامين الماضيين، عندما كان منهمكاً في اتمام روايته "مشية السرطان" التي استعاد فيها أمجاده الروائية، مسجلاً أرقام مبيعات قياسية بلغت حتى الآن ما يقرب من نصف مليون نسخة. في "مشية السرطان" تناول حائز نوبل مأساة الضحايا الألمان من المدنيين أثناء الحرب العالمية الثانية، مركزاً الضوء على غرق السفينة "غوستلوف" وعلى ظهرها تسعة آلاف إنسان، نصفهم من الأطفال والرضع. أثقلت مادة الرواية على كاتبها، فأمسك بالطمي وراح يشكّل، وبالفحم وأخذ يرسم، وبالقلم وشرع ينظم الشعر ترويحاً عن نفسه. كتب غراس قصائد شديدة الحسية عن الرقص الذي تعلمه وأحبه منذ صباه وما زال من عشاقه، وعن الحب والجنس، أيضاً بعد أن جاوز الخامسة والسبعين" قصائد أعادت له الشباب. أما الحصيلة فهي الديوان القشيب الكبير الحجم الذي صدر مطلع هذا الشهر مزوداً برسومه: "رقصات أخيرة". قد يوحي عنوان الديوان باقتراب الرحيل والوداع، إلا أن العواطف المشبوبة النابضة بحب الحياة، وكذا السخرية من الذات تبعد عن قارئها الشعور بالحزن. إننا نقابل هنا شاعراً أقبل على الحياة منذ صباه، عب منها عباً، وهو الآن ينظر إليها شيخاً بلا ندم، بل بفرح كبير وبزهو لأنه ما زال قادراً على الاستمتاع بها، وعلى مراقصة الحسان، وممارسة الحب. من الممكن اعتبار "رقصات أخيرة" سيرة ذاتية شديدة الخصوصية لغونتر غراس. في أشعار الديوان يعري غراس ذاته، كاشفاً عن نقائصه وعيوبه وأهوائه وضعفه، إلا أن اعترافاته لا تخلو من افتخار بالنفس أيضاً. يفعل غراس هذا في صدق مدهش، قد يعتبره بعض القراء مخجلاً. هنا يقابل المرء غراس الراقص، العاشق، رب العائلة المفتخر ب"قبيلته" الكبيرة، جامع الفطر في الغابات، والمتأمل للطبيعة. ونتعرف إلى آراء غراس السياسي الذي ينتقد خصوصاً ممارسات الولاياتالمتحدة" مثلاً لاستخدامها القنابل العنقودية التي "تتعرف الى الكل/ سواء كان رجلاً أو امرأة أو رضيعاً/ وحتى كلب الجار" قصيدة "تنويعات على نغمة قديمة"، أو الجنرالات السود الذين أصبحوا "أكثر بياضاً من البيض"، الذين "ينجزون - بلا شكوى -/ الصفقات الكونية التي يأمر بها سادتهم الرؤساء" قصيدة "أغاني البلوز العسكرية". يضم ديوان "رقصات أخيرة" 36 قصيدة، تتنوع بين الشعر المنثور، وشعر التفعيلة ذي الإيقاع الموسيقي القوي. وتتخلل القصائد وتصاحبها رسوم غراس الفحمية التي تقتصر على موضوعين: الرقص والعشق. يستهل الشاعر ديوانه بقصيدة "شبيه الرب"، التي يشرح فيها ظروف ولادة القصائد تحت وطأة تراجيديا قتل الآلاف وتشريد أو تهجير الملايين أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها. ثم يسترجع غراس ذكرياته صبياً مفتوناً بالرقص، بالتانغو والفالس والفوكس تروت" ويتذكر كيف كانت الفتيات تتخاطفه، ليس لبراعته في الرقص، بل لنقص الرجال الذين يحاربون على الجبهة. في القصائد التالية يبوح غراس بصبوات عشقه، شاباً وكهلاً وشيخاً، وهي أشعار وصفها بعض النقاد بأنها "نشيد أناشيد" الجسد والذكورة. ولا تمثل هذه القصائد طفرة نوعية في شعر غراس الذي يتسم بالحسية والمادية منذ بداياته. وهو يفعل هذا عن وعي، وكما قال ذات مرة: "أقف متشككاً أمام كل ما لم ألمسه بإصبعي، أمام كل ما لم أشمه وأتذوقه، أمام كل شيء لا يعدو أن يكون سوى أفكار مجردة". الفكرة نفسها عبر عنها غراس في ديوان سابق بقوله: "كنت أرفض دوماً/ أن أسمح لفكرة لا ظلال لها / بجرح جسدي المُلقى بالظلال" قصيدة "ديانا". ومن القصائد المحورية في ديوان "رقصات أخيرة" قصيدة "اعتراف ناقص لآثم لا يتوب"، ليس فقط لأنها أطول القصائد زهاء ثلاث صفحات من القطع الكبير. في هذه القصيدة يجلس غراس على كرسي الاعتراف، وهو الكاثوليكي التربية الذي كان شماساً قبل أن ينشق عن الكنيسة ويبتعد عن الإيمان، ولا يجد حرجاً في الحديث عن ذنوبه وآثامه وأخطاء حياته. ينظر غراس الى ذاته في خريف العمر ويتساءل: "والآن، ماذا تكون؟ جورباً قد اعتصروه، إسفنجة أمست جافة، راقصاً مبهور الأنفاس. ... أصبحت تمثالاً لذاتي، معروضاً من كل الجهات منتزع الملكية عن نفسه، ملكاً للعالم .... إلا أن اعترافاته تظل ناقصة، لأنه يشتري دوماً "صكوك الغفران، قطعة قطعة، وبالتقسيط". ويعتبر غراس أنه "من بين كل مباهج الحياة"، كان يعشق "دحرجة الأحجار" وفقاً لمبدأ كزينوس. وهو أيضاً راقص "على حبل شددته بنفسي / أبحث عن خلاصي في الجُب". وفي الوقت الذي يهرب من الرقص ودحرجة الأحجار كان "يوفق في كتابة قصيدة ليس للوزن فيها مكان، ولكن بين السطور "تنبت بذرة الحقيقة. ويعترف غراس أن أبياته كانت تعرج أحياناً"، لكنها "لم تصب أبداً بالشلل".