..استكمالاً للحلقات الثلاث حول رواية "الوارفة - 2008" (دار المدى - دمشق) لأميمة الخميس، ومحاولة قراءة مجازات الرواية، وتمثيلاتها للغياب والسرد والآن نكمل تناول ثالث المجازات مجاز الرغبة ، وهي الحلقة الأخيرة. ..ثالث مجازات الرواية هو (مجاز الرغبة)، ويضعنا هذا في ذروة التمايزات النوعية بين الجنس الذكري والأنثوي، والجنوسة الذكورية والنسوية، وفي عمق مفهوم علاقة التجانس المغاير ومُّءَُّمٍِّّفٌ بين رجل وامرأة تتجسَّد رغبة الجوهرة في الآخر ليس على مستوى النوع بل الإثنية والجغرافيا والثقافة. ..الرغبة تصوغ هويتنا الجنوسية، وينسج المجاز هنا "مثلث الرغبة" من خلال صورة الراغب والوسيط والغرض المرغوب، وسنرى نموذج ذلك المثلث الرغبوي حالاً. ..يتجسد هذا المجاز عبر وسيطين رمزيين من السينما والغناء أو عبر الممثل عمر الشريف، والمغنية مادونا، وقيمة الفنان مثلاً والفنانة مغنية عبر نجوميتهما وتمثيلاتهما الموضوعية للأهواء والأمنيات والأحلام والطموحات المعتملة في دواخل البشر، والفنون والآداب وساطات التعبير والتمثيل والأداء، وما يمثلانه هو مثار ذلك الغرض المرغوب حيث يشكلان ذلك الوسيط للراغبة. .. وتمثل الأغراض في موضوع الرغبة عبر نوعين:إما التشارك بروحية التآلف، وإما التملك بعنف التنافس (الكذبة الرومانسية والحقيقة الروائية، رينيه جيرار، المنظمة العربية للترجمة، 2008، ص:14). ..وتعبر تلك الأماني والأحلام عند بطلة الرواية، أي:الجوهرة، من خلال التطلع إلى حالة التشارك بروحية التآلف بين الرجل والمرأة، ولعل الرقص والغناء والتمثيل يجسد عبر الإيحاء تلك الأمنيات التي تغزو الأحلام ، ورأت في رقصة الفالس Walts للممثل عمر الشريف وكاترين دونوف في فيلم "مايرلنغ - 1968" (الوارفة، ص:29) ما يجسِّد حالة الالتقاء بين عاشقين، ولكن هذا اللقاء التقليدي بدا يخفي الرغبة وصورها العاطفية والحسية، وهذا ما جعلها تبحث بخاصية الارتقاء نحو رقصة أخرى أي:حالة تجانس قصوى لا تطمر فيها الغرائز ولا تنام مخدرة (الورافة، ص:29). ..يتكثف هذا المجاز في ذكر رقصة السامبا (البرازيلية) إحدى فروع رقصات التانغو (الأرجنتينية)، دون إغفال الأصل الأفريقي وثنائية الطابع في رقصة مشتركة بين الرجل والمرأة (Concise Dictionnary Of Music.michael Kennedy.Oxford.1996.p.633)، عبر أغنية لاتينية اللون للأمريكية مادونا (ذات الأصول الإيطالية)، وهي أغنيةLa Isla Bonita أي: بالإسبانية "الجزيرة الجميلة" التي سجلتها وظهرت منفردة عام 1987عقب شريط"True Blue 1986"، وموجز فكرة الأغنية قائم على اختبار الحب العاثر في الحلم، وتروي حلم عاشقة وحيدة بالقديس بيدرو Saint Pedro، وتتطلع عبر هذا الحلم إلى الحب والعاشق، وسيرة الوجوه الجميلة والتواصل مع مفردات الطبيعة كمجازات متجانسة بين تقابل الجنسين المغايرين:المذكر والمؤنث، وتواصل النوعين:الذكوري والأنثوي، وبين الشمس والنسيم، والسماء والوجوه، والجزيرة والمدار.. ..بنيت هذه الأغنية على إيقاع السامبا البرازيلي، برغم أن الروائية الخميس ظنتها على إيقاع آخر ولكن قريب منه (الوارفة، ص:30، 262) فيما صيغ اللحن على السلم الغنائي الصغير (مقام النهوند) بدرجات متوسطة تعلو قليلاً في مقاطع حيوية، وتعد من أغنيات مادونا الشاعرية، وكأن لغة الحب تستعيرها الذاكرة الأمريكية الشمالية من أرجاء أمريكا اللاتينية، ونعرف أثر الإيقاعات اللاتينية على الأغنية العربية مطلع القرن العشرين ثم في نهاياته عاد من جديد في أغنيات وضعها محمد القصبجي ومدحت عاصم ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وحليم الرومي ومحمد فوزي والأخوين رحباني وزكي ناصيف وكمال الطويل ومن الجيل اللاحق:إحسان المنذر وزياد رحباني وخليفة زيمان ومحمد ضياء وعمرو مصطفى، وتغنى بها إضافة إلى غناء الملحنين أنفسهم:عبد الوهاب والأطرش وفوزي والرومي، حناجر عربية كبرى مثل :أسمهان وليلى مراد وعبد الغني السيد وفيروز وعبد الحليم حافظ ثم في الجيل اللاحق ماجدة الرومي وسميرة سعيد وهدى عبد الله وجوليا بطرس وذكرى.. ..وهو تيار أغنية حب تميزت مواضيعه، خارج مستوى تيار أغنية الهجر والخصام، على مستوى الحالة الشاعرية في الشعر واللحن، وموضوعة نشدان التكامل - العاثر في بعضه - مع الآخر كمرآة، والاحتفاء بالطبيعة ورموز الحرية والخلاص مثل القيثارة والزهرة والطائر، وهو الذي أطلق حداثات الغناء والموسيقى العربيين، واستمر متنامياً مع الجيل اللاحق في رمزيات ومجازات مغايرة تطورت مواضيعها من التعبيرية إلى التصويرية، وخاطبت رموز الطبيعة الكبرى مثل السماء والبحر والمطر والريح مقابل تثوير حيوية اليومي والواقعي، وتنوع على إثر ذلك توظيف الإيقاعات الأفرولاتينية والأفرو أمريكية. ..ومن نماذجها في الحداثة الأولى أغنية عبد الوهاب"جفنه علم الغزل" على إيقاع رومبا، وأغنية أسمهان "نويت أداري آلامي" إيقاع تانغو (لحن:فريد الأطرش)، وأغنية ليلى مراد "قلبي دليلي" إيقاع الفالس (لحن:محمد القصبجي) ، وفي الحداثة الثانية أغنية فيروز "عندي ثقة فيك" إيقاع بوسانوفا (لحن:زياد رحباني)، وأغنية سميرة سعيد "بشتاق لك ساعات" إيقاع جاز (لحن:محمد ضياء)، و "طول عمري" إيقاع سالسا (لحن:عمرو مصطفى). ..واستعادة أغنية مادونا بإيقاع السامبا وموضوعها الشاعري كأنما هي استعادة الأحلام وتكريس لها، باعتبارها أقوى من الواقع، وتجسدت صورة تلك الإيقاعات في الشعر العربي، وبرع نزار قباني في ديوان مكون من قصيدة واحدة أن يستثمر مقطعية بحر الرمل ويعطينا صفة الرقصة: "تلك سامبا.. نقلة..ثم..انحناءَةء فالمصابيح المضاءَةء تتصبَّى.. جرِّبيها.. خُطُوَاتٍ أربعا أبداً تمضي معا وتليها.. شبه غفوَةء فيميءلُ الرَّاقِصَان وتَغيءبُ الشَّفَتَان عبرة نشوَةء.." (الأعمال الكاملة، سامبا 1949، نزار قباني، 1983، ط:12، ص:188) ..ترى في الرواية أن رقص المرأة بين النساء حالة تنفيس عن مكبوتات لازمة الخروج، ولكن كما تقول :"النساء يستعدن لوعاتهن الغامضة عندما يرقصن" (الوارفة، ص:246)، ومنها ترى الباحثة وندي بونفنتورا أن رقصة التانغو لكونها إحدى رقصات لاتينية تفرعت منها رقصات - إيقاعات أخرى كَ (سامبا) "تعكس الصراع المحتدم على مر الدهور بين الرجل والمرأة بطرق أكثر ديناميكية" (I Put A Spell On You.Wendy Buonventura.Saqi Book.2003.p:214). ...تتحول القصيدة والأغنية والاستعراض الراقص السينمائي (أو المسرحي) إلى تجسيدات أحلام تؤكد أن على الواقع وجوب أن يكون انعكاساً للأحلام لا العكس. ..وتوجد أمثلة أخرى لهذا المجاز، مجاز الرغبة، ومنه ما كان استعادة المجلات اللبنانية المصورة (ريما وسمر) اللتان اعتمدتا، قبل انتشار المسلسلات الأجنبية المدبلجة خلال العشرين عاماً الأخيرة مثل اليابانية والمكسيكية والتركية مؤخراً (اشترت فضائية MBC 30 مسلسلاً تركياً)، على قصص مصورة لأبطال وبطلات من إيطاليا، وهي مجلات التسلية العاطفية (الورافة، ص:70). ..وهذا المجاز في إضمار الرغبة وتوسيط الأغنية والمجلة والسينما للغرض المرغوب يدفعنا إلى تحليل مسمى الرواية "الوارفة" الذي يعتمد صفة لشجرة السدر، والوَرءف هو تنعم الشجر بعد سقياها، وهي مزايا الوفرة في المجاز الأدبي لكون الصفة - المشتقة تشكل فرعاً على الاسم - الموصوف، ولكن تغييب الموصوف وترك صفته أدعى إلى تقوية المجاز الأدبي، وفي الرواية عبر قسم بابلو تدافع الجوهرة عن تلك الشجرة بعد (الحلاقة الشرسة) التي واجهتها من السائق الفلبيني بابلو (الورافة، ص:137)، وشجر السدر طرَّاح ثمرة (النبق أو العبرية) ، وتحيل السدرة إلى وصيفتها (سدرة المنتهى)، وهي من مفردات النعيم في الجنة، وزرع السدرة هو تصور دنيوي للجنة، وتكريس للحلم ليدعم الواقعي والدنيوي. .. إشارة "الورافة" هي إشارة إلى أن صمود الشجر دلالة على صمود البشر، والشجرة رمز حيوي للحياة والعطاء والولادة والتجدد، وهذه معادلات أنثوية للمرأة والجوهرة تمثل صورتها القصوى.